عبد المعطي عمران:
في الجزء الثاني من حديثه عن شهر الصيام، يتناول فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي -رحمه الله- شرح معنى الحديث الشريف: 'إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين' فإذا كانت الشياطين تقيد في رمضان فلماذا تستمر المعصية؟
كما يتحدث عن الدعاء المستجاب في رمضان خاصة عند الإفطار وينبهنا إلى أن عدم استجابة الدعاء في بعض الأحيان يكون لمصلحة الإنسان، لأنه لا يعرف ما يضره وما ينفعه ويعرج على حديث الناس عن فوائد الصوم في علاج بعض الأمراضيقول الشيخ الشعراوي عن معنى الحديث الشريف الذي يقول فيه الرسول 'صلى الله عليه وسلم': 'إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين':إن المعنى المادي للفتح والإغلاق والتقييد بالسلاسل، ليس هو المقصود من الحديث الشريف، فلا أعتقد أنها تفتح وتغلق كما نفتح نحن أبواب بيوتنا ونغلقها، ففتح أبواب الجنة يعني كثرة الطاعات التي تفتح للناس أبواب الجنة، ففي رمضان الصوم طاعة، والصوم فيه التزام بالطاعة، لأنك وأنت صائم تبتعد عما يغضب الله من الغيبة والنميمة والسعي بين الناس بالفساد، وتتقرب إلى الله بالطاعات وقراءة القرآن الكريم، كما تكثر الصدقات في رمضان وكذلك أفعال الخير، ويبتعد الناس عن أماكن اللهو والمعصية، وتمتليء بهم المساجد، فكل عمل من أعمال الطاعة هذه، هو باب من أبواب الجنة التي تفتح لك وهذا معناه أن هذه الأعمال تقربك من الجنة وتفتح لك أبوابها واحداً بعد الآخركذلك إغلاق أبواب النار فهو يتمشى مع نفس المعنى، فالناس في شهر رمضان أو على الأقل الصائمون منهم، يبتعدون عما يغضب الله، وعن المعاصي، فكلما ابتعدوا عن معصية، قفلوا بابا كان سيؤدي بهم إلى النار· وهكذا تغلق أبواب النار واحداً بعد الآخر، وتفتح أبواب الجنة واحداً بعد الآخر حتى يستطيع المؤمن بالعمل الصالح خلال شهر رمضان، أن ينجو من النار ويدخل الجنة، وهذا هو معنى فتح أبواب الجنة وغلق أبواب النارأما قول الرسول 'صلى الله عليه وسلم': 'وصفدت الشياطين' أو 'وسلسلت الشياطين' فمعناه أن الشياطين سُلبت منافذ الشهوة في الإنسان، أو منعت منها فلم تعد تستطيع أن تزين للإنسان المعصية، أو على الأقل الإنسان المؤمن الصائم، فنحن هنا نتحدث عن المؤمنين، ولا نتحدث عن غيرهم من البشر
تصفيد الشياطين واستمرار المعصية
وهنا لنا وقفة فبعض الناس يسأل: إذا كانت الشياطين قد صفدت أو قُيدت في رمضان، فلماذا لا تختفي المعاصي تماماً في هذا الشهر الكريم؟
نقول إن المعاصي شقان، شيطان يزين ونفس تأمر بالسوء والمعصية، فإذا كانت الشياطين قد سلسلت في رمضان، أي مُنع تأثيرها ووسوستها في أذن المؤمن، فإن النفس التي تأمر بالسوء مازالت موجودة، وشهوات الإنسان ورغباته مازالت داخل نفسه، وهنا نعرف أن المعصية في شهر رمضان بالنسبة للمؤمنين، هي معصية من النوع الثاني، أي النوع الذي تأمر فيه النفس صاحبها بفعل السوء، فإذا كانت منافذ الشهوة قد سدت أمام الشيطان، فالمعصية حينئذ تكون من النفس، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز في سورة يوسف، على لسان امرأة العزيز: 'وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم'
وهكذا نرى أن النفس تأمر صاحبها بالسوء، ولولا ذلك، لما كان الإيمان جهاد النفس على طاعة الله وعدم المعصية، ولو أن كل نفس تأمر صاحبها بالخير، وتسد أمامه منافذ الشهوات، ما جاءت الرسل لتبين للناس منهج الله، وما قامت الصراعات التي نراها بين الخير والشر، مما نراه ونعرفه في الدنيا
إذن فمعنى أن الشياطين تحبس أو تسلسل، ليس معناه اختفاء المعصية تماماً، وإنما معناه أننا نعرف في هذه الحالة أن المعصية التي نراها، هي من شهوة النفس ومن تطلعها إلى المعاصي، ولذلك فإن المعصية تقل في رمضان إلى حد كبير ويزيد الخير واتباع منهج الله، ولكن المعاصي لا تختفي تماماً، وهذا معناه أن الشيطان قد فقد المنافذ التي يزين من خلالها للإنسان المعصية، ووجود المعصية يبين لنا أنه مازالت هناك عناصر باقية تدعو إلى معصية الله مثل النفس التي تريد أن تطلق لشهواتها العنان، ومثل رفقاء السوء من الإنس الذين يزينون للناس المعصية، فهؤلاء موجودون في رمضان، ويؤدون دورهم التحريضي على المعصية
استجابة دعاء الصائم
وعن تساؤل بعض الناس عن الدعاء المستجاب في رمضان وخصوصا دعاء الصائم عند الإفطار، وهم يدعون بأشياء كثيرة ولكنها لا تتحقق، فأين استجابة الدعاء هنا ولماذا لا يتحقق؟
يقول فضيلته رحمه الله: إن الناس في كثير من الأحيان لا تعرف معنى الاستجابة، فالاستجابة معناها أن يعطيك الله خير ما دعوت به، وليست الاستجابة لشهوات النفس التي قد تكون مهلكة، فالناس يعتقدون أن استجابة الدعوة، هي أن يرفع الإنسان يديه إلى السماء ويقول: 'يارب' فيتحقق له ما يريد، ناسين أن الله سبحانه وتعالى حريص على عبده المؤمن، لا يريد أن يورده موارد التهلكة، وهو وحده الذي يعرف أين الخير وأين الشر، ولذلك في كثير من الأحيان، يكون عدم تحقيق الدعوة، استجابة لها، ذلك أن الله سبحانه وتعالى يعرف أنه في الاستجابة لدعوة هذا المؤمن شر له، ولذلك لا يستجيب له ولا يحققها، ويكون في هذه الحالة قد تحقق المطلوب من الدعاء وهو الخير بمنع الاستجابة ولذلك فإن الله تعالى ينبهنا في القرآن الكريم، حينما يقول: 'ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا' إذن فالإنسان في أحيان كثيرة، يرفع يده إلى السماء متوجها بالدعاء إلى الله عز وجل وهو يطلب الشر لنفسه، لأنه لا يعرف الغيب، ولا يدري ما هو قادم، ولا ما هو خير له
حينئذ لو أن الله استجاب لهذه الدعوة، لأصاب الإنسان شر كبير، ولكنه سبحانه وتعالى بعلمه وحكمته، لا يستجيب له وتمر الأيام ويعرف الإنسان، أن عدم الإستجابة كان خيراً كبيراً له، وهذا واضح في حياتنا كلها فقد تقع لنا أحداث نظن أنها خير، ثم تمر الأيام وإذا بهذا الذي اعتقد أنه خير، هو شر كبير، وفي بعض الأحيان تقع لنا أحداث نعتقد إنها شر، ونتجه إلى السماء شاكين، ونقول: 'يا رب' ثم تمر الأيام، فنعرف الحكم فيما اعتقدنا أنه شر، ولذلك كانت الحكمة الكبرى في الإيمان، هي أن تتحد مرادات الإنسان وحياته، مع مرادات الله سبحانه
حينئذ لا تكون العلة في التنفيذ هي حكمة عرفناها أو لم نعرفها، وإنما تكون العلة هي أن هذا الأمر صادر من الله سبحانه وتعالى، الذي آمنا به إلها ورباً يُعبد، وآمنا أن منهجه هو الطريق الوحيد للخير للإنسان لأننا لو وضعنا علة للعبادات، لنزلنا بهذه العبادات من مرتبة الألوهية إلى مرتبة البشرية وهذا والعياذ بالله، بُعد عن منهج السماء
علة التكليف
إذن فتنفيذ الأمر في العبادات علته أنه صادر من الله سبحانه وتعالى، ويأتي الله في ذلك باختبارات إيمانية، فنجده مثلاً يحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، فلو أن الله تعالى أراد القبلة أساساً هي الكعبة، لشرع ذلك منذ أول لحظة، ولكن هنا يريد الله، أن يلفتنا إلى التجربة الإيمانية التي لابد أن تملأ صدورنا، وهي أن تكون علة تنفيذ الأمر هي أنه صادر من الله، فنتجه إلى بيت المقدس بالصلاة، ثم يأمرنا سبحانه أن نتجه إلى البيت الحرام، دون أن يضيف علينا تكاليف إيمانية فالاتجاه إلى البيت الحرام، سيأخذ نفس الجهد البدني الذي يبذله الإنسان في الاتجاه إلى بيت المقدس
إذن فالمسألة ليست علة ظاهرة بينها الرسول للمؤمنين، بقدر ما هي طاعة لأمر الله ولو وقف عندها العقل، وعندما أسرى الله سبحانه برسوله 'صلى الله عليه وسلم' من مكة إلى بيت المقدس، وقفت العقول أمام هذه المعجزة، لا تستطيع أن تستوعبها، إلا الصديق رضي الله عنه، عندما قالوا له إن صاحبك يقول إنه قد أسرى به إلى المسجد الأقصى ثم عرج به إلى سدرة المنتهى، قال: أقال رسول الله ذلك؟ فلما قيل له: نعم قال: إذن فقد حدث يعني إن كان قال فقد صدق وكانت العلة هي أن القول صادر عن رسول الله 'صلى الله عليه وسلم' دون أن يحتاج إلى دليل عقلي آخر·