أسماء جزائري
هل علينا أن نغفر للكل فقط لندخر أحقادنا الثمينة للأشخاص الذين نحبهم حقاً كما قال أحدهم؟ أم أنه لا يوجد حقد ثمين وآخر رخيص بل يوجد حقد واحد علينا إهداره على كل السيئين؟ وماذا عن سفاحي التاريخ؟. في فيلم the professor and the madman الرائع الذي تدُور أحداثه حول كتابة معجم أوكسفورد، تُرسل الأرملة التي قتُل زوجها رسالة من جملة واحدة للدكتور ويليمز القاتل: if love.. then what «إذا كان حباً.. فماذا إذن؟» فيرد ويليمز على نفس الورقة قائلاً: إذا ليس هنالك فرصة للتكفير.
إن عدم التفريط في ذنُوبنا عبر الوقُوع في حب من أجرمنا في حقهم يجعلُ من العدالة قائِمة، ولأننا إذا ما أردنا التحرر من ظُلمنا علينا التفكير في بقاء تلك المسافة الوجودية التي تفصلُ بيننا وبين ضحايانا وهذا ما لا توفره المغفرة بل العُقوبة، فالتداوي من الأخطاء لا يصح إلا بمواجهة الجزاء الذي نستحقه وواحدة من هذه العقوبات هي غضب وكراهية الذين قُمنا بقتل أعزائهم، يقفز إلى أذهاننا بطل رواية ماريو فرغاس يوسا «ريكاردو» في روايته «شيطنات الفتاة الخبيثة» وهو يغفر لـ«ليلي» كل خياناتها في كل مرة تعُود إليه، هذا الأمر ظل لأربعين سنة على حاله، حب ثابت رغم سمعته السيئة التي يكتسبها حينما لا يستطيع التفريق بين ما يُريد وما يجب، فالمغفرة عن طريق الوقُوع في الحب هي مغفرة تامة وتجريدٌ مطلق من الشعور بالذنب، إفراغ حقيقي من الخسارة، حين نغفر نُصاب بفقدان الذاكرة الجزئي ما يتطلب منا العيش بلا ذنُوب لا التعايش معها، ليتحول الاعتداء إلى حق بدلا من أن يظل باطلا. وبهذا سنشاهد صوراً مستحيلة ومفجعة كأن تعشق إحدى ضحايا العشرية السوداء في الجزائر مَن اغتصبها يوماً، فإذا كان الحب فعليا أكبر وسيلة للغُفران ومساحة امتصاص رهيبة تختفي فيها كل المشاعر بالذنب، فلا نعود نتذكر الأخطاء وتُصبح الجرائم مغفوُراً لها، فإنه مسؤول عن صناعة الظلم والبشاعة وتحطيم جزء من الذاكرة الوجودية وسيقُود العالم إلى جرائم فظيعة تجعلك خاضعاً لابتكار حرية تعيشها على ذلك الكوكب الجديد الذي يصنعُ قوانينه الخاصة، وفي هذه الحالة تحديداً يُمكننا أن نُطلق على الحب «جريمة»، لكن لا بد وأن ننظر في اتجاه آخر، لماذا إذن نسمع عن انتقام العشاق؟ لأنهم توقفوا عن حبهم، نحن نغفرُ لمن نحب ما دمنا لم نتوقف عن فعل ذلك، وإذا توقفنا فسنتذكر كل أخطائهم دفعة واحدة، فالمغفرة هنا تتعلق بعُمر هذا الحب، كمن يجمد أشياء لأجل استخدامها في المستقبل البعيد وهي مغفرة ناقصة عن مفهومها الحقيقي، فكيف يُطلب من الإنسان أن يغفر للمجرمين الذين لن يستطيع حبهم؟ لأن المسافة بين المغفرة والصفح تقوُم على حقنا من عدمه في الاحتفاظ بذكرياتنا.
القوة والضعف هل المغفرة ظُلم مضاعف؟ ومتى تكُون كذلك؟
متى ما شعرنا بأننا غفرنا للذين لا يتطلبُ منا سوى الصفح عنهم فإننا نكون قد دخلنا بذلك حلقة القهر الذاتي، وفي هذه الحلقة سيفقدُ الإنسان حتى ذلك الشعور اللاهوتي الذي يعده باسترداد حقه، فالمغفرة ليست قوة أو مُصالحة ذاتية دائماً كما يؤخذ على أن عدم المغفرة ضُعف في أحيان كثيرة، هنالك أشخاص كثر هزمتهم مغفرتهم بدل أن تنتصر لهم، غفروا في الوقت الذي كان يجب أن يسامحوا فقط، وظنوا أنهم تجاوزُوا في الوقت الذي اكتشفوا أنه هنالك أشياء لا يُمكن تجاوزها وأخطاء لا تُغتفر، يمكنك أن تُسامح لكن هل يمكنك أن تغفر؟
يقول المثل الفرنسي: Je te pardonne, mais je n›oublie pas «أسامحك، لكن لا أنسى».
المغفرة تحوير للذاكرة ليس بتجاوزها مثلما يفعل التسامح والصفح اللذان يعتمدان على إبقاء الذكريات الأليمة دون حقد باستبداله بمصطلح الشفقة مع تمارين إعادة المُسميات إلى مكانها، فأنت لن تُسامح شخصاً لا يرى في نفسه مذنباً، المغفرة ليست قلباً للصفحة بل استبدالٌ للكتاب ككل، وهذا لن يجعل من العالم حقيقيا بقدر ما يجعله فاضلاً، إنه سيخلق المزيد من الأشخاص الذين تتصلبُ عروقهم بكبت غضبهم وكراهيتهم، المزيد من الذين لا يملكون مساحة حق عدم المغفرة وهذا ما توفره «آليات الصلح والوئام المدني» اللتان تعتمدان على التنازل من طرف واحد، «اصفح قبل أن يُعتذر منكَ ». ونتساءل: لماذا يريدُون منا أن نُسامح وننسى معاً؟ فهذا النسيان يشعرنا بأننا خذلنا جزءاً من أعمارنا، وأن الوُسطاء الذين يطلبوُن منا أن نغفر للمعُتدين ما هم إلا خلية متحررة من وقع تلك الظلمات، أو أنها أقل تضررا ما يجعلها تمتلك الجرأة على الاعتداء بطريقة منهجية اللطافة والخير وتصفية القُلوب، وتُطالب الآخرين بالتحرر من آلامهم كواجب نفسي، ويعد بعدها ما دون ذلك التحرر وقوعا في الأمراض، غير أنها تخلق دون أن تدري أو تدري أمراضا جديدة إذا ما قرر الإنسان تمثيل دور الغافر بالتحايل على المجتمع، أنت تعيشُ مع الأشياء التي صنعتك والتي أصبحت طوبة من جسدك والتي أخذت منك وقتا معتبراً من حياة كنت تستطيع أن تعيشها بلا رُعب وأذية لو تركت لحال سبيلك، أيام لا تسترد سُرقت منك لا يمكنك الآن التفريط فيها، نحن نريد الاحتفاظ بآلامنا لننجو بهذا الانتقام الشفاف الذي يحمي صورة الماضي بصناعة انتصار على الظالم الذي يريد أن يخيط ضميره نهائيا بإفقادنا أجزاءً من أمسنا، فمن الطبيعي أن تحمل البشرية بذرة الانتقام من الذين أنزلوا عليهم إساءة عظيمة وحينما لا يستطيع رد ذلك الظلم بنفس القسوة فإنه يتوقف عن المغفرة وينتقم بعدم النسيان، وأضعف ما يقوم به الإنسان هو «الدعاء على» أو يفوض الله كلجوء إلى السماء بغاية تحقيق العدالة الإلهية، وقد أقر بيرنارد شو في إحدى مقولاته الصلبة والصادمة أن الغفران للمسيء حيلة العاجز الذي لا يستطيع أن يرد الإساءة بالإساءة، فهل صحيح أننا نغفر فقط حينما نفتقد للقدرة أو الجرأة؟ ربما لأننا لا نستطيع التفريق بين الغفران والتسامح أو الصفح.
بين الصفح والمغفرة
يقول ويليمز أستور: «وجعاً لم تُجربه، لا تخبر صاحبه بأنه لا يستدعي الحزن»، ويمكنني أن أضيف «أو يستدعى النسيان»، هنالك ما يُطلق عليه في عالم الطب الأمراض المستعصية على الشفاء ومن ثمة فآلامها أيضا مستعصية على التوقف، الأمر لا يختلفُ عنه إذا ما فتحنا نافذة في حائط بِغية الهرُوب من مخرج «الطيبة» لنجد أنه يطل على حائط آخر، وسنفهم مثلما يفهم الأطفال حينما ينبهرون بالنار أنه صحيح ثمة من يقوم بالاعتداء على نفسه حينما لا يصفح ولكن هنالك بالمقابل من يعتدي عليها حينما يغفر، الصفح لا يخسرنا ذنوبنا، فنحن نقوم به لأجلنا لا لأجل الآخرين بينما المغفرة فلا، فعندما تغفر فإنك تركز على الطرف الآخر إذ تمنحه مثلما يمنح الله غفرانه التام للحجاج لكنك تنسى أنك لست إلهاً وغفرانك ليس كعبة، وأن الذاكرة الحية لا تتوقف وتظن أنك غفرت لكن ما إن يخطئ ذلك الشخص معك ولو خطأً طفيفاً حتى يستدعي معه كل ما فات فهل نستطيع أن ننسى؟
لا، أعتقد نحن البشر مجموعة من الذكريات، لكن حينما تسامح فإنك تركز على نفسك وهو نوع من التناسي الذي يحمي أرضك القديمة من الدمار وحياتك القادمة من الحقد، فالمسامحة أو الصفح هي الأكثر عدالة والأقوى في تحريك ما يسمى «طيبة القلب» لأنك قررت التعايش مع مفقوداتك والعفو رغم أنها حاضرة معك دائماً لا كما يعتقد الكثيرون عن المغفرة التي وحدها من سيخلق الضغينة ومحرك ذكريات التعاملات المؤلمة والمواقف الظالمة إذا ما استعاد المظلُوم ذاكرته ووقع في تأنيب الضمير، فهنالك من نصفح عنهم بقلوبنا وآخرون بعقولنا لكن قليلون هم أولئك الذين نغفر لهم بعقولنا وقلوبنا معاً، ذلك أنه ليس في مستطاع الإنسان فقدان الذاكرة أو انتزاع صفا من الآلام، أن يمسح جزءاً من عمره فقط لأنه قرر أن يمضي قدماً، أن تمضي قدماً لا يعني مطلقاً أن تنسى. ربما قررت أن تضع حدا لتمادي الماضي في حاضرك فحسب لا لتصفيته منه.
إن المغفرة إساءة للذاكرة بينما الصفح هو تلطيف لمفاهيم الظلم الواقع عليك من شعورك بالغضب والأسى والانتقام إلى شعورك بالشفقة، فثمة أمورٌ يطلق عليها «الأمور التي لا تغتفر» وعلينا نحن البشر أن لا نحزن حينما لا نستطيع النسيان أو نغفر خاصة للذين لا يقدمون الاعتذارات ويعتبرون الظلم الذي سلطوه عليك تستحقه، وأن الأشياء التي فقدت فيك لم تكن لك منذ البداية، هذا ما توفره ذاكرة الماضي الدامي حينما يريد أحدهم إيقاف الدم بعقد سلام يقوم على العودة التعايش، سلام لا يطلب منك أن تغفر بل أن تصفح، سلام حتى لا تخسر المزيد مما خسرت، فبعد الحروب الأهلية أو أي حرب يقوم الطرفين بعقد معاهدات لإيقاف توريط الأبرياء في موت لا يعنيهم لا إيقاف الذاكرة أو محوها، فإذا كان الغفران هو التحرر من الماضي فهل يستطيع الإنسان التفريط في ماضيه؟ هل هنالك من أحد يستطيع التقليل من أهمية ما فات وهو يعلم أن غده سيكون بعد غد ماضياً كذلك؟
عن الجزائر ماضياً وحاضراً: براءة الحياة السعيدة
لقد انتهى الجزء الأول من حياتي حينما دخلت سنوات التسعينيات، في هذه الفترة التي فقدت فيها براءة الحياة السعيدة بدأت تتشكل في ذاكرتي المفاهيم من جديد، أيام من الذعر والاختطاف، أناس لن يعودوا إلينا ونحن لن نعود كذلك إلينا، لقد كبرنا في ليلة واحدة وبلا ترتيب، حينما تشاهد رؤوساً مقطوعة تتوقف فوراً الأسئلة الشفافة «ماذا تريدين أن تصبحي مستقبلا؟»، حيث أصبح أقسى أحلامنا أن لا نذبح في الغد.
اليوم نحمل كل الليالي التي مرت بلا أفق فينا ولا أحد يستطيع أن يفرغنا منا ثانية، لقد وفر الوئام منطق التسامح لا الغفران، أن يدخل إرهابي سابق مقهى يطلب فيه حلوى وقهوة بينما يجلس في نفس المقهى رجل قام هذا الشخص بقتل ابنه أو اغتصاب ابنته لكنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً له، هو يتذكر كل شيء مثلما تتذكر كل الأجيال جرائم فرنسا في بلادي، هكذا اختار الشعب «جزائر بلا دماء» لكن لم يختر وطناً بلا ذاكرة، لا أحد يستطيع البداية من الصفر مرتين، هذه كذبة المتفائلين فقط، فالأجيال ما هي إلا شرائح تخزين ستفتحها أجيال قادمة عن طريق تداول الحقائق، وإن كنا مطالبين بالنسيان فإن هذا الأمر يشبه تماماً من يُمزق ويحرق أوراق جيل كامل من البلديات ليصنع الفراغ، لكن شباب اليوم معفي من ذاكرة الدم والتلويح بقائمة المذبوحين من أهلنا وأصدقائنا وجيراننا.
الجزائر التي استفاق عليها شباب اليوم هي ليست الجزائر التي تغلق على الساعة الرابعة، وتدعي ذهابها للنوم باكراً دون أن تغلق عينيها، جيل جاء بعد أن أنزلت أغلب المنازل من على شرفاتها ونوافذها الحديد الذي استبدل بالزجاج الشفاف والورود، أثر الحديد هو أثر الحياة الحقيقية التي اختفى فيها شبان الجزائر بلا رجعة، شبان اليوم منذ بدأت أسماؤهم الجديدة تترعرع على منظر النوافذ الإلكترونية والشرفات الزجاجية لا تستطيع أن تخيفهم بشيء لم يعد موجوداً أصلاً، لكنه مغمور بتراكم التجارب والنصائح وأتمنى معجوناً بدموع النساء وعرق الرجال، ولأنهم لن يكرروا تلك الأيام التي لا تغتفر لقد سامحنا لكننا لم نغفر.