الجمعة 18 يوليو 2025 أبوظبي الإمارات 34 °C
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الأخبار العالمية

في دراسة أميركية: ابن الفارض لبس عباءة القديس بأمر السياسة

24 أكتوبر 2005

القاهرة- إبراهيم فرغلي:
على مدى 25 عاما استمر الشيخ جاد سالم جاد في عمله كحارس لمقام أو مقبرة الشاعر الصوفي الراحل عمر بن الفارض بالقاهرة، وأحد منسقي مولده السنوي، وقد توفى في عام ·1984 وبعد وفاته تعرضت المقبرة للخطر لكن عائلة الشيخ جاد أخذت على عاتقها استكمال مهمة الراحل، بالتعاون مع مريدي ابن الفارض وزوار مقبرته·
البروفيسور الاميركي 'إميل هوميرين' من القلائل الذي عايشوا حارس المقام الراحل ثم عايش أهله وأبناءه بعد أن كبروا وأصبحت لهم عائلات وينضمون جميعا إلى حشود مريدي ابن الفارض في مولده السنوي·
وقد بدأت علاقة هوميرين بالمكان منذ أكثر من عقدين حين قرر أن يبدأ دراسة خاصة بابن الفارض حاول فيها أن يتتبع حياة هذا الصوفي وكيفية تحوله من شاعر إلى رمز من رموز المتصوفة أضفوا عليه الكثير من مظاهر القوة التي تفوق ما يمتلكه البشر وحولوه من شاعر كبير إلى قديس أو ولي من أولياء الله له 'مولد' سنوي كما هو شائع في مصر بشكل عام· وأصدر هوميرين دراسته بعنوان 'ابن الفارض من شاعر عربي إلى قديس مسلم'·
وعندما زار هوميرين القاهرة مؤخرا، وحضر مولد ابن الفارض -كالعادة- فوجئ بأبناء الراحل الشيخ جاد ومنهم عمر وطاهر مع زوجاتهم وأمهم وحضروا جميعا المولد بوجود الشيخ ياسين التهامي وهو أحد المنشدين الشعبيين النجوم والذي عرف بإنشاده لأشعار ابن الفارض بشكل خاص· كما لاحظ الإضافات والتحسينات التي أضيفت إلى المسجد الذي يجاور المقبرة، وقابل إمامه الشيخ مصطفى حنفي واستعاد الطقوس التي يؤديها المتصوفة من الرفاعية وخاصة طقوس الذكر قبل اصطفافهم في صف واحد خلف الشيخ ياسين التهامي أثناء انشاده لأشعار ابن الفارض·
ويقدم 'هوميرين' في الكتاب محاولة لتقصي سيرة الشاعر -الذي يصفه بالغموض- عمر بن الفارض 1235-،1181 ويتتبع الظروف التي شاعت فيها سمعة ابن الفارض كقديس ابتداء من القرن الرابع عشر وحتى القرن السابع عشر، أي بعد وفاته بفترة·
ويتقصى الأجواء التي تقترب من الأساطير حول شخصية ابن الفارض في محاولة لمعرفة الحقيقة والخيال فيما أشيع عن معجزاته كما يتناقلها مريدوه ومحبوه وحفظة أشعاره خاصة وأن الروايات التي تشير إلى هذه الكرامات حدثت خلال العصر المملوكي ومنها رواية يوردها من كتاب للخطيب الجواهري يقول فيها أنه في عام 1470م كان على ابن فاس بك والد زوجة السلطان قايتباي قد امتطى فرسه إلى موقع المدافن أو 'القرافة' كما يشيع اسمها لدى المصريين، وفوجئ بظهور شخص أمامه فشد لجام فرسه ليتوقف، وإذا برجل آخر حسن المظهر يقف مع الرجل الأول وظلا يتحدثان قبل أن ينصرف الشخص الثاني فجاء· فسأل على الرجل الأول:
- من كان ذلك الرجل؟
- ألا تعرفه؟!
- لا··
- هذا هو عمر ابن الفارض! إنه يظهر في هذا المكان يوميا يسأل الله أن يحميه ممن يتحدث عنه بالسوء!
سياسي وديني
ويقول هوميرين إن هذا الظهور 'المعجز' لشبح ابن الفارض بعد قرنين من وفاته كان بمثابة إقرار بقداسته على مستويين أحدهما سياسي والآخر ديني·· وهو ما سوف نفهمه من سياق سيرة إبن الفارض·
ولعل سبب وصف هوميرين لإبن الفارض بالغموض يرجع إلى قلة ما كتب عنه، وغياب بعض التفاصيل، لكنه يصل إلى بعض المراجع الأساسية ومنها ما كتبه اثنان من تلامذة ابن الفارض وهما زكي الدين المغوري، ويحيى العطار وهما يتفقان على بعض المعلومات الأساسية ومنها انه ولد عام 1181 '567 هـ' في القاهرة، وأن أصوله من 'حماه' في الشام، وأنه درس الحديث، وعرف بشغفه بالتصوف وبقرض الشعر، وأنه كان من أتباع المذهب الشافعي، وتلقى علوم الحديث على يد أبي القاسم بن علي ابن عساكر· وسافر إلى مكة لفترة من حياته وتوفي في الثاني من جمادى الأولى عام 632 هـ '1235 م' بالقاهرة واسمه الكامل هو أبو القاسم عمر ابن الشيخ أبي الحسن علي بن المرشد بن علي ودفن قريبا من جبل المقطم·
كما يعتمد هوميرين على سيرة ابن الفارض التي كتبها ابن خلكان الذي يذكر أن والده كان يعمل بالقضاء ومختصا بالفصل في قضايا النساء، وأن ذلك كان يقتضي منه معرفة بالشريعة ودراسة دينية كان قد نال منها حظا كبيرا· وبالرغم من اشارة ابن خلكان إلى شغف ابن الفارض بالتصوف والعلوم الروحية لكنه لم يصفه بالمتصوف على الاطلاق وإنما دأب على وصفه بالشاعر، وقدم الكثير من أبياته الشعرية مبينا قدراته المدهشة في الإيجاز والتكثيف·
ولم تذكر أي من هذه الكتابات شيئا مفصلا عن عائلته، باستثناء إشارات إلى أنه كانت له ابنة لم يذكر اسمها أبدا وولدان هما عبدالرحمن وكمال الدين محمد، وكان أحد المؤرخين ويدعى الصفوي و'توفى عام '1363 كان قد أشار في كتاباته إلى كمال الدين محمد وأنه درس الحديث على يد والده ابن الفارض، لكن الأجيال اللاحقة عرفت كمال الدين بوصفه صاحب الأفكار الأساسية لما عرف بالديباجة والتي كتبها علي ابن الفارض وهو حفيد عمر بن الفارض من ابنته لكنه حافظ على كنية جده·
ويعزي المؤلف بعض مظاهر القداسة التي أضيفت على ابن الفارض إلى هذه الديباجة، بالاضافة إلى بعض ما تضمنته من إشارات عن ابن الفارض الذي يقول عنه حفيده انه درس على والده علوم الشريعة والفقه، وعندما توفى أبوه سافر إلى مكة وعاش هناك 15 عاما وبعدها عاد إلى القاهرة حيث ذهب إلى الأزهر· وبدأ يدرس الشعر لطلبته، وفي عام ،1231 سافر ابن الفارض إلى مكة مرة أخرى لأداء فريضة الحج، حيث التقى أحد المجددين من أقطاب الصوفية وهو شهاب الدين عمر السهروردي·
ومثله مثل الكثيرين من المتصوفة، وخاصة الشعراء تعرضت أشعاره وأفكاره للنقد من قبل الكثير من الفقهاء وبينهم ابن تيمية، خاصة ما يتعرض للايماءات ذات الطابع الشبقي أو ما يتناول طقوس الشراب وكل ما يتعارض مع مبادئ الدين كما يراها الفقهاء·
لكن الجدل حوله لم يشتد إلا بعد وفاته بنحو قرنين، خاصة في عصر المماليك، وهي الفترة التي شهدت تحوله من شاعر إلى ولي من الأولياء يقام له مولد ويحتفي به مريدوه·
وإذا كان الفقهاء والعلماء، وخصوصا المتشددين، هم أكثر من انتقدوا ابن الفارض وهاجموه، فإن الدفوع التي اقيمت ردا على انتقاداتهم كانت تعتمد على كتاب 'الديباجة' الذي ألفه حفيده علي ابن الفارض والذي أسس مع مجموعة من أصحابه ما يشبه جماعة من مريدي ابن الفارض وجمعوا كل أشعاره في ديوان ودرسوها بعناية وساهموا في انتشارها لاحقا·
ورغم أن علي بن الفارض ولد بعد وفاة جده '1235 م'، فقد اعتمد بشكل كبير على خاله كمال الدين محمد في تقصي الوقائع والتفاصيل عن حياة جده، ولهذا، كما يقول هوميرين، يغلب على الديباجة طابع وصفي ونركز على الصيغة الذاتية التي تقترن بالمذكرات والسير·
وكان علي على معرفة بكل الانتقادات التي وجهت إلى جده ووصفته بالخروج على مبادئ الدين خاصة في أشعاره والتي ورد في بعضها ما يبدو وكأنه إضفاء لنوع من القداسة على نفسه·
ولكن الحفيد كان رافضا لكل هذه الانتقادات، فقد كان مقتنعا بجده وبأشعاره، ملما بمحتواها ومقدرا لها، ولهذا فهو لم يقصد في الديباجة أن يقدم سيرة ذاتية عن جده، وإنما أراد أن يؤصل للأسباب التي تؤكد القوة الروحية الشديدة التي تمتع بها ابن الفارض والتي أكسبته القدرة على أن تكون له بعض الكرامات، واظهار جوانب موهبته الشعرية واللغوية·
كما حاول أن يثبت صورة بصرية لقرائه عن جده فوصف ملامحه الجسدية بدقة وملامح وجهه التي منحته قدرا كبيرا من الوسامة، والكاريزما الكبيرة التي تمتع بها وكانت تجعل الناس يصمتون في حضرته إكبارا وإجلالا·
كما يصفه بالزهد الشديد والاستغناء عن الماديات، ويشير إلى إخفاق السلاطين في استقطابه ليصبح شاعرا للبلاط كما كان شائعا آنذاك فقد رفض، ورد للسلطان محمد الملك الكامل ألف دينار كان قد أرسلها له، كما رفض عرض السلطان أن يبني له مقبرة مميزة بجوار مقبرة أم السلطان نفسها ولم يقبل إلا بالمقبرة المتواضعة التي اقترح السلطان أن يبنيها له·
قوة روحية
أما بذور مظاهر قوته الروحية فتعود إلى الرؤى التي كان ابن الفارض يراها·· ويعمل وفقا لما يراه، ومنها سفره للحجاز بناء على رؤيا ظهر له فيها شخص تبدو عليه مظاهر التقوى أوصاه بالسفر إلى الحجاز لأنه ليس له مكان في مصر في ذلك الوقت، وعندما قال ابن الفارض لصاحب الرؤيا أنه هنا في مصر ومكة بعيدة·· فقال له أنظر هناك ها هي ذي، ودقق ابن الفارض في الأفق فأبصرها!
وكان ذلك الشيخ المتصوف هو نفسه الذي ظهر له في رؤيا بعد مرور 15 عاما قضاها في الحجاز وطلب منه العودة إلى القاهرة لكي يحضر جنازته ويدفنه·· وعاد ابن الفارض ليجد الشيخ قد مات في نفس اليوم ويساهم في دفنه!
وفي ذلك اليوم هبط على جبل المقطم شخصان تكاد أقدامهما لا تلمس الأرض، شاركا في الصلاة على الشيخ في حين تحلقت في السماء أعداد من الطيور الخضراء وحومت حول جثة الشيخ وهي تردد أصواتا بدت وكأنها توحد ربها وتعظمه·
وحكى محمد كمال الدين لابن أخته أن والده عمر بن الفارض قد قال في ذلك اليوم أن أرواح الشهداء توجد في بطون الطيور الخضراء حيث تحلق بهم إذا أرادوا الخروج من الجنة لسبب أو لآخر، وأوضح أن والده قال له لاحقا أنه أراد أن يقربه بهذه الأقوال من الصوفية والتصوف لكنها كانت ذات أثر كبير على محمد كمال الدين في صباه وأوصاه والده بألا يخبر أحدا أبدا في حياته عما ذكره له عن الطيور الخضراء!!
كما يشير المؤلف إلي رواية أخرى كان فيها السلطان الملك الكامل يجلس مع مجموعة من ندمائه يختارون مقاطع من أي كلمة ويتبارون فيمن يستطيع نظم أكبر عدد من الأبيات الشعرية التي تنتهي بالمقطع المختار، ولم يستطع أحد أن ينافس الملك الكامل الذي كان عليما بالشعر والشعراء حافظا للكثير من القصائد، لكن أحد الجالسين ظل قادرا على منافسته، ولم يعجب الملك الكامل بقدرة الرجل على الحفظ بقدر ما أعجبته الأبيات الشعرية نفسها فلما سأل عن الشاعر الذي نظم هذه القصائد أخبروه بأنه ابن الفارض فسأل: كيف يكون مثل هذا الشاعر هنا ولا ألتقيه، وقرر أن يرسل له ألف دينار وأن يطلب منه الحضور للقائه، لكن ابن الفارض كان عازفا عن ذلك، متفرغا لدروسه في الأزهر، فلما رفض، طلب الملك الكامل من الرسول أي يحدد له موعدا للقاء ابن الفارض في الأزهر، ووافق ابن الفارض على مضض، وفي ذلك اليوم عرض الملك الكامل عليه أن يبني له ضريحا بجوار مقبرة أمه 'أم السلطان' لكنه رفض وطلب منه أن يبني له ضريحا مستقلا، وهو الضريح الذي دفن فيه، ومازال مريدوه يحتفون به في ذكرى مولده حتى اليوم·
وقد تسببت هذه الأقاويل مع المستوى الرفيع لأشعار ابن الفارض وفصاحتها وبلاغتها بين شعر المتصوفة في أن تلقى اهتماما كبيرا من العامة والسلاطين على السواء، حتى أن السلطان المملوكي 'قايتباي' أرسل وزيره ليحصل على رأي الدين في الأبيات الشعرية التي يقرضها ابن الفارض بسبب حملة موازية شنها مجموعة من العلماء الذين كانوا يرون في أشعار ابن الفارض نوعا من الزندقة والتعارض مع القيم الإسلامية، ومنهم ابراهيم البقاعي والشيخ عزالدين الكناني وغيرهما·
ويشير هوميرين إلى بعد آخر له طابع سياسي، وهو أن المماليك لكي يحققوا شعبية وجماهيرية بين المصريين واهتموا كثيرا بالبعد الروحي وإنشاء المساجد والمزارات ذات الطابع الديني، وكان من بين من اهتموا بإقامة ضريح أو مزار حول قبره هو ابن الفارض· ولهذا سعوا أيضا للحصول على ما يشبه فتوى دينية من الأزهر تساعدهم في التصدي للذين كانوا يرون في أشعار ابن الفارض نوعا من الزندقة والتعارض مع القيم الإسلامية·
ويعود الفضل في تحويل قبر ابن الفارض إلى مزار بدأت بعده الاحتفالات بالمولد السنوي إلى أحد المماليك ويدعى تيمور الإبراهيمي الذي أنشأ زاوية بجوار الضريح واقترح فكرة 'المولد'، وقبل أن يتوفى عهد إلى المملوك برقوق الناصري قبل أن يرتقي ويصبح أميرا بفضل قايتباي بالإشراف على الأوقاف وبينها ضريح ابن الفارض·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2025©
نحن نستخدم "ملفات تعريف الارتباط" لنمنحك افضل تجربة مستخدم ممكنة. "انقر هنا" لمعرفة المزيد حول كيفية استخدامها
قبول رفض