الاتحاد - خاص:
الثورة التي اندلعت في العام 1920 انتهت، فما هو مصير رجالها؟
قادة الفرات الأوسط لجأوا إلى الحجاز· أحدهم نور الياسري كان مزواجاً وذا عائلة كبيرة، إذ أعدّ 130 بعيراً وعدداً من الأحصنة لحمل من اختارهم من أفراد أسرته مع خدمهم الذين زاد عددهم عن الثمانين·
شهر رمضان من ذلك العام كان حاسماً بالنسبة إلى هؤلاء القادة، إذ أمضوه في مكة في ضيافة الشريف حسين الذي كان يدعوهم لتناول الافطار عنده كل ليلة جمعة قبل أن يدب الخلاف فيما بينهم، ودون أن يعرف السبب ما إذا كان ربط الاستقلال بالانتداب أم الخلاف حول الرئاسة؟
حسني طرح أمامهم ما عرضه الحلفاء بالنسبة إلى تبادل التاجين بين ابنيه فيصل وعبدالله، فكانت مغادرتهم إلى العراق ومعهم مليكهم فيصل في اليوم الثالث لعيد الفطر·
الاتحاد التي قرأت كتاب الدكتور علي الوردي لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث تستخلص منه العبرة ·· وفيما يلي الحلقة الرابعة والأخيرة·
على اثر انتهاء الثورة تشتت رجالها، فمنهم من استسلم للانجليز، ومنهم من اختفى أو هرب إلى خارج العراق، ومنهم من لقي مصيراً آخر·· والذين استسلموا، اطلق البعض منهم حالاً، فيما أودع ثلاثة وثلاثون سجن الحلة، حتى صدور العفو في 30 أيار / مايو ·1921
البغداديون من رجال الثورة لجأوا إلى النجف عقب سقوط طويريج في12 تشرين الأول/ اكتورب ،1920 ولكنهم لم يمكثوا فيها سوى يومين، إذ اضطروا إلى مغادرتها عقب سقوط الكفل بعد يومين، فتوجهوا إلى أبوصخير، غير انهم لم يجدوا فيها امناً لشدة قصف الطائرات لها· فارتحلوا إلى مضيف عبدالواحد في المشخاب· وقد وصف لنا علي البازركان له بعد مغادرته النجف بالقول: ··· وعندما اجتزت سور مدينة النجف الاشرف شاهدت السيد جعفر أبو طبيخ يهم بركوب عربة بسيطة يجرها حيوان واحد· فطلبت منه الركوب معه فوافق، وقد ركب معنا رجال ونساء، فوصلنا إلى أبي صخير ليلاً، وحينما أشرقت الشمس صباح اليوم التالي حلقت فوقنا عدة طائرات انجليزية فأمطرتنا بقنابلها، وبقينا يومين في أبي صخير ولما جاءنا خبر سقوط النجف الاشرف اضطررنا إلى مغادرة القصبة المذكورة أنا وشاكر محمود والسيد عبدالرزاق الهاشمي فركبنا كعداً - أي زورقاً - وتوجهنا إلى مضيف عبدالواحد الحاج سكر، وقد التحق بنا كل من يوسف السويدي والسيد محمد الصدر وحسين علوان عارف حكمت الملقب زابون ومحمود رامز ومحمد جعفر أبوالتمن وغيرهم· وكأن الطائرات الانجليزية علمت بوجودنا هناك فحلقت فوقنا وألقت قنبلتين جرحت واحدة منهما حانوتياً قرب المضيف، والاخرى سقطت في النهر· وعندئذ توجهنا نحو مضيف الشيخ مزهر الفرعون على نهر أبو صفصافة·
ويروي البازركان حادثة جرت في مضيف الشيخ مزهر الفرعون في أثناء مكثوهم فيه، خلاصتها أن أمين الجراجفجي أمين صندوق حزب الحرس في بغداد، ارسل إلى يوسف السويدي ومحمد الصدر مبلغاً من مال الحزب لمساعدتهما قدره أربعمائة ليرة ذهباً، ولما علم حسين علوان بوصول المبلغ إليهما طالبهما به قائلاً حسب رواية البازركان: يجب أن تعطونا من النقود التي جاءتكم إذ معنا علي البازركان وقد حكمت عليه السلطة الانجليزية بالاعدام، أو خذوه معكم لانقاذه من الانجليز لأنه أحقّ بالسفر منكم، وان لم تفعلوا فإن قتلكم جائز· وكانت مع حسين علوان قنبلة يدوية، وهم بالقائهما عليهما، غير أن سرتيب ابن صاحب المضيف امسك بيده ومنعه من القاء القنبلة·
·· وصار راعياً للابل
لم يبق البغداديون في مضيف الشيخ مزهر طويلاً، وقد تفرقوا، فالتجأ فريق منهم الى مضيف السيد نور الياسري في المشخاب والتجأ فريق آخر الى مضيف السيد هادي المقوطر في الشنافية· وقد اجتمع الذين التجأوا إلى مضيف السيد هادي فأخرج كل منهم ما عنده من النقود،ووضعوا النقود كلها أمامهم لاقتسامها بينهم بالتساوي، فكان نصيب كل واحد منهم ليرتين أو عشر مجيديات، ثم غادروا الشنافية بعد هذا، وذهب كل فريق منهم الى الجهة التي يأمل أن يجد السلامة فيها·
اتجه جميل قبطان وعبدالحميد الحريري واسماعيل حقي الاغا وداود السامرائي نحو البصرة عن طريق النهر، واتجه حسين علوان نحو البصرة أيضاً غير أنه سلك طريق البر، وصار راعياً للابل لدى بعض الاعراب وعاد عارف حكمت إلى بغداد فألقي القبض عليه وسجن لمدة ثلاثة أشهر ثم نفي بعدئذ الى الفاو· وقد قرر ثلاثة من البغداديين الالتجاء الى الحجاز، وهم علي البازركان واسماعيل كنة وعبدالرزاق الهاشمي وفي 22 تشرين الاول / اكتوبر 1920 غادروا الشنافية برفقة دليل بدوي فوصلوا إلى حائل، ومن هناك سافر كل منهم على حدة· ويحدثنا علي البازركان عن متاعب رحلته بعد مغادرته حائل قائلاً: وأنا تركت حائل وتوجهت نحو المدينة المنورة مع خوي (دليل)، وأثناء الطريق خرجوا علينا شمر آل عطا من الاخوان، فسلبوني أنا وخوي، وبقينا نطوي الارض على ارجلنا لمدة سبعة ايام حتى وصلنا المدينة المنورة عراة حفاة كما خلقنا الله، وكذلك دون أن نذوق اي طعام أو شراب عدا أكل بعض الحشائش في الطريق· كل ذلك يهون في سبيل خدمة الوطن ولكن·
أما يوسف السويدي ومحمد الصدر فقد استأجرا دليلين بمائة واربعين ليرة ودليلاً من البدو بستين ليرة ثم رحلا الى الشام عن طريق الفرات وعندما وصلا في طريقهما الى راوة نزلا في تكية الشيخ محسن الراوي وفي ضيافته وقد مكثا في رواة سبعة أيام ثم غادراها مع نفر من الروابين بصحبة قافلة متوجهة إلى الشام وفي الطريق هاجم القافلة غزاة من البدو ونهبوا امتعتهما، غير أن السيد فتيخ من رجال رواة تمكن من استعادة المنهوبات لهما·
130 بعيراً لنقل العائلة
إن الذين قرروا الالتجاء إلى الحجاز من قادة الفرات الاوسط هم: نور الياسري وعلوان الياسري ومحسن أبوطبيخ وهادي المقوطر ومرزوق العواد وشعلان الجبر ورايح العطية وصلال الفاضل ومهدي الفاضل وعلوان الحاج سعدون وعمران الحاج سعدون· وقد انضم اليهم من الكربلائيين الميرزا أحمد الآخوند الخراساني، ومن البغداديين جعفر أبو التمن ومحمود رامز وزكي أمين المدفعي وشاكر القرغولي·
كان السيد نور الياسري ذا عائلة كبيرة جداً لأنه كان مزواجاً، وقد أعد 130 بعيراً وعدداً من الخيل لحمل من اختارهم من أفراد عائلته مع خدمهم وعبيدهم الذين زاد عددهم على الثمانين، ولكن بعض اصحابه اشاروا عليه بتقليص العدد لطول الطريق وصعوبته، فعمل باشارتهم·
تحركت قافلة اللاجئين من الشنافية في أواخر عام ،1920 وحين وصلت الى مقربة من نقرة السلمان وصلتهم رسائل من بعض علماء النجف ومن الميجر الانجليزي نوربري يطلبون منهم العودة إلى العراق· وقد تعهد لهم نوربري بأنهم سوف لا يصيبهم أي سوء غير أنهم رفضوا الاستجابة لهذا الطلب، ما عدا واحداً منهم هو عمران الحاج سعدون حيث قرر العودة وعند وصوله إلى النجف اعتقله الانجليز وأودعوه في سجن الحلة·
لدى بلوغ القافلة بلدة حائل استقبلهم أميرها عبدالله بن رشيد باللطف والترحاب كان في البلدة تاجر نجفي يدعى الحاج محمد معلة، وقد بذل هذا الرجل جهده في مساعدتهم وتوفير ما يحتاجون اليه، ومكثوا في حائل نحو أربعين يوماً·
كتبوا إلى الملك حسين
كتبوا إلى الملك حسين في مكة يخبرونه بقدومهم اليه فأجابهم انه يرحب بهم كل الترحيب وطلب من ابن رشيد أن يبعث معهم حرساً لحمايتهم في الطريق من غارات الاخوان الذين دأبوا على نهب المسافرين وقتلهم وفي 10 آذار / مارس 1920 غادرت قافلة اللاجئين متوجهة نحو المدينة·
كان نور الياسري يحمل معه عشرين ألف ليرة ذهب، وخشي ان ينهبها الاخوان كلها، فأدوع 3 آلاف منها لدى الحاج محمد معلة من باب الاحتياط، وحمل الباقي معه·
امتنع علوان الحاج سعدون عن مرافقة القافلة، وقرر الرحيل مع عشائر شمر الى الجوف، وقد حاول أصحابه اقناعه بمرافقتهم دون جدوى، وحصلت جراء ذلك مشادة بينه وبين علوان الياسري·
سارت قافلة اللاجئين في طريق غير مطروق خوفاً من الاخوان، ونالوا من ذلك الكثير من المشقة والعطش واستغرقت رحلتهم الى المدينة 27 يوماً ليدخلوها في 5 نيسان / أبريل ،1927 علماً بأن الابل تقطع تلك المسافة في الظروف الاعتيادية بعشرة أيام·
وكان قد خرج لاستقبالهم على بعد عشرين كيلومتراً من المدينة جمع غفير من الناس، ولدى وصولهم إلى باب المدينة اطلقت المدافع إحدى وعشرين طلقة احتفاء بهم· وقد خصص لكل واحد منهم دار خاصة به لسكناه·
قبل أن يغادروا في 18 نيسان / ابريل بصحبة حرس خاص متوجهين إلى مكة، وكان الطريق بين مكة والمدينة في تلك الأيام غير مأمون إذ كان معرضاً لغارات قبيلة حرب، وكانت هذه القبيلة تنقم على الملك حسين لأنه لم يدفع لها الاتاوة المخصصة لها في ذلك العام· ولهذا اتخذت قافلة اللاجئين طريقها إلى مكة بمحاذاة الساحل· ولكنهم مع ذلك لم يسلموا من تحرش القبيلة، فقد فاجأتهم فجراً على بعد مرحلتين من المدينة، وحصرتهم في وادي ضيق· فخرج اليها رجال الحرس وأخبروها بأن القافلة فيها رجال غرباء من العراق وأنهم ضيوف جلالة الملك حسين· فكان جواب القبيلة: نحن نعلم أنهم من العراق ولكننا نريد قتلهم لانهم ضيوف حسين· وبعد أخذ ورد بين رجال الحرس والقبيلة حصل الاتفاق على دفع اتاوة لها مقدرها خمسمائة ليرة ذهباً· وقد دفع اللاجئون الاتاوة مرغمين·
بشرى ملكية
الوصول إلى مكة كان صباح 22 شعبان 1339هــ، وهو يوافق 1 أيار / مايو ،1921 فوجدوا مكة في زينة احتفاء بمقدم فيصل الذي كان قد وصل اليها من لندن قبل يومين وبعدما قاموا بالطواف حول الكعبة كما يجب ونزلوا في دور كانت معدة لهم وقبيل الظهر جاءهم عبدالله المضايفي يقول لهم سيدنا الملك يطلب ملاقاتكم في البلاط، فذهبوا جميعاً الى القصر الملكي ودخلوا عليه في غرفة خاصة تسمى المخلوان اي غرفة المذكرات الخصوصية وقد جاملهم الملك مرحباً بهم، ثم قال لهم: أبشركم، فقد قررت الحكومة البريطانية اعطاءكم الاستقلال والعفو عنكم والسماح لكم بالعودة الى العراق، ثم راح يحدثهم عن الثورة التي قام بها ضد الاتراك خلال الحرب، وعن الغاية المقصودة منها وهي استقلال البلاد العربية، وقال: إن البلاد العربية توزعت عليه وعلى أولاده، فهو في الحجاز على أن يخلفه ابنه علي بعد موته، وفيصل في سوريا، وعبدالله في العراق، وزيد في اليمن· ثم استدرك الملك قائلاً: إن مشكلة ظهرت أخيراً حيث وقع خلاف شخصي بين فيصل والفرنسيين مما أدى الى خروج فيصل من سوريا، وقد راجعنا الحلفاء من أجل حل هذه المشكلة فكان جوابهم: إن الفرنسيين لا يرضون بعودة فيصل إلى سوريا، وان لا حل للمشكلة إلا عن طريق تبادل التيجان بين الأخوين، فيكون فيصل ملكاً للعراق، وعبدالله ملكاً لسوريا، بعد ذلك التفت الملك نحوهم وقال: إن حل المشكلة في أيديكم، فأنتم قد ناديتم في ثورتكم باسم عبدالله، فإذا تنازلتم عن ذلك وقبلتم بـ فيصل لعرش العراق بدلاً من عبدالله صار في مقدورنا إقناع عبدالله بقبول عرش سوريا·
أجابوه جميعاً بلسان واحد انهم موافقون، وقالوا: إن أي واحد من أنجالكم تختارونه لعرش العراق فهو على رؤوسنا وعيوننا· فقال لهم: إن شهر رمضان قريب فصوموه عندنا، وعندما يحل اليوم الثالث من عيد الفطر خذوا مليككم واذهبوا إلى بلادكم سالمين·
·· ودبّ الخلاف
مكث اللاجئون في مكة طوال شهر رمضان، وقد بدأ رمضان عامذاك في 9 آيار / مايو ،1921 وكان الملك حسين يدعوهم لتناول طعام الإفطار عنده في ليلة الجمعة من كل أسبوع· ولوحظ أنه كان يولي نوري الياسري رعاية خاصة لكبر سنه ولأنه كان مصاباً بداء المفاصل، فكان يرسل إليه في كل مرة فرساً من أفراسه لنقله الى قصره·
حصل شيء من الخصومة أو الخلاف في الرأي بينهم في أثناء مكوثهم في مكة، وليست ثمة معلومات موثوقة عن سبب هذا الخلاف· وقد عثر في مذكرات السيد محسن أبو طبيخ على وجهة نظره في ذلك قائلاً: عند مكوثنا في مكة علمت أنا وجعفر أبو التمن ان فيصل اتفق مع الانجليز على وضع العراق تحت انتدابهم، فقررنا مقابلة الملك حسين للاستفسار منه، وعند اجتماعنا بالملك في منزله الخاص سألناه: هل سيكون استقلال العراق تاماً مقيداً؟ فأجابنا: ان الاستقلال سيكون مقيداً بالانتداب الى أن يدخل العراق عصبة الأمم وعندئذ سيزول الانتداب عنه· فلم نعلّق على كلام الملك إلا بكلمة واحدة هي: خير إن شاء الله· ثم خرجنا من عنده وذهبنا للاجتماع بأصحابنا في بيت السيد نور، ولما أخبرناهم بكلام الملك حدث بينهم جدال وأخذ وردّ، وارتأى فريق منهم أن يمتنعوا عن الذهاب مع فيصل الى العراق لكي لا يؤاخذهم الشعب بعدئذ على موافقتهم على الانتداب، بينما ارتأى الفريق الآخر الموافقة على الذهاب···
والواقع ان هناك رأياً آخر في هذا الشأن لعبدالحميد الياسري نقلاً عن أبيه علوان، فهو يقول: إن موضوع الانتداب ربما كان السبب الظاهري للخلاف بينهم، أما السبب الحقيقي فهو أعمق من ذلك، إذ هو نشأ من جراء تنافسهم على الرئاسة، وهو تنافس طبيعي كان موجوداً بينهم في أيام الثورة وقبلها· ولكنه اشتد في مكة عندما صار الملك حسين يولي السيد نور رعاية خاصة، فقد امتعض السيد محسن أبوطبيخ من ذلك، وبذلك انقسم اللاجئون الى فريقين: أحدهما إنحاز الى السيد نور والآخر انحاز الى السيد محسن·
كان فيصل يرغب في أن يذهب الى العراق وفي رفقة اللاجئين كلهم لكي يكون ذلك بمثابة الدعاية الحسنة له أمام العراقيين، ولكن أربعة منهم خيبوا ظنه إذ امتنعوا عن موافقته وهم: السيد حسن أبو طبيخ وجعفر أبو التمن ورايح العطية ومرزوق العواد، كان عذرهم انهم يريدون أداء فريضة الحج الذي كان موسمه قريباً· ويُروى أن جعفر أبو التمن قال لفيصل: أرجو أن تعفيني من أن أكون من زفافة هذا العرس·
غادر فيصل ومن معه ميناء جدة على ظهر الطراد البريطاني روث بروك في 12 حزيران / يونيو ،1922 فوصلوا البصرة في 23 منه، ثم وصل فيصل الى بغداد في 29 منه، أما الأربعة الذين تخلفوا فقد عادوا الى العراق بعد أداء فريضة الحج، فوصلوا البصرة في أوائل أيلول / سبتمبر ،1921 ونشرت جريدة العراق تقول: إن الحاج جعفر أبو التمن سيصل الى بغداد بالقطار في صباح الجمعة القادمة - 16 أيلول - وان وفداً من ثلاثة عشر شخصاً قد سافر الى البصرة لاستقباله، كما ان وفداً آخر سيسافر الى الحلة للغرض نفسه·
ولدى وصول الحاج جعفر جرى له في المحطة بالكرخ استقبال كبير شارك فيه تلاميذ مدرستي الجعفرية والحسينية، ونُحرت تحت قدميه الذبائح، ثم حملته سيارة مزيّنة الى داره في محلة صبابيغ الآل تبعتها سيارات المستقبلين· وكان أهل الحلة قد نصبوا له أقواس النصر، كما غصت الدار بالمهنئين وألقى الشيخ مهدي البصير قصيدة كان هذا مطلعها:
طرقت بغداد والإقبال مقتبل
فعش لشعبك واسلم أيها البطل
وبعد يومين وصل الى بغداد اثنان آخران منهم هما: محسن أبو طبيخ ومرزوق العواد، ولا يُعرف لماذا لم يصل الأربعة الى بغداد سوية، وهل كان ذلك بسبب خلاف جديد بينهم؟!
نموذج·· عبدالواحد
ولعل من الضروري أن نعرض لنموذج آخر من قادة الثورة هو عبدالواحد الحاج سكر، فهو استسلم للانجليز في 4 تشرين الثاني / نوفمبر 1920 وأودعوه رهن الاعتقال في الكوفة، وقد مكث معتقلاً هناك لعدة أيام، ثم نُقل الى الحلة، ليعاد الى النجف حيث قُدم أمام محكمة عسكرية·
وجّه رئيس المحكمة إليه عدة أسئلة كان من بينها: لماذا أعلنتم الثورة؟ و مَنْ هم شركاؤكم فيها؟و من أين جئتم بالأسلحة؟، والواقع ان موقف عبدالواحد أثناء المحاكمة كان صلباً وشجاعاً، وقد اعترف بأنه هو المسؤول وحده عن قيام الثورة، إذ لم يقم بها أحد غيره، وليس لأحد غيره ذنب· أما الأسلحة فقد اشتروها من الجزيرة العربية· وحين سأله رئيس المحكمة عن مصدر الأموال التي اشتروا بها تلك الأسلحة، أجاب قائلاً: إنها أموال الضرائب التي لم يدفعوها الى الحكومة، فهم قد احتفظوا بتلك الأموال واشتروا بها الأسلحة·
وقد أفاض عبدالواحد خلال المحاكمة في شرح الأسباب التي دفعتهم الى الثورة، إذ وضع اللوم كله على الموظفين البريطانيين ووصفهم بأنهم عاملوا العراقيين بقسوة، مع العلم أن الحكومة البريطانية كانت قد وعدتهم مراراً بالاستقلال التام· ثم قال: بدلاً من إنجاز تلك الوعود جرى نفي العلماء والرؤساء الى خارج العراق، وأصبح كل عراقي غير آمن على نفسه وماله· ولما أخذ العراقيون يطالبون الحكومة بإنجاز الوعود مطالبة سلمية وجّه الموظفون إليهم الحملات العسكرية، وصاروا يقتلون فيهم ويحرقون ويحبسون وينفون، فاضطر العراقيون الى الدفاع بسلاحهم عن حياتهم وشرفهم·
وبعد الانتهاء من سماع أقواله أصدرت المحكمة حكمها عليه بالنفي الى خارج العراق، ثم سيق الى الحلة فأودع في سجنها مع المعتقلين الآخرين·
كان المعتقلون في الحلة يعيشون في داخل السجن بملابسهم ويتزاورون فيما بينهم· أما عبدالواحد فقد ميزه الانجليز عنهم بإلباسه ثياب السجناء العاديين ووضع سلسلة حديدية في قدميه، وكانت معاناته كبيرة من السلسلة التي كانت تمنعه من أداء الصلاة كما ينبغي، مع العلم أنه كثير التهجد في صلاته·
كسر السلسلة
انتهز عبدالواحد زيارة أحد الضباط البريطانيين للسجن، فصار يشكو له من المعاملة، وذكر له كيف أنه سلّم نفسه بعد أن جاءه تعهّد من الانجليز بشرف بريطانيا وبالحظ والبخت على أن لا يمسوه بسوء، وتساءل: أين هو شرف بريطانيا؟، فطلب الضابط منه اطلاعه على ورقة التعهد· وحين قرأها طواها ووضعها في جيبه، وخرج، وفي اليوم التالي عاد الضابط الى السجن ومعه حدّاد أمره بكسر السلسلة عن قدمي عبدالواحد كما أمر إلباسه الملابس الاعتيادية·
نُقل عبدالواحد بعدئذ الى سجن بغداد، وقد زاره في السجن بعض الضباط البريطانيين كان من بينهم الكابتن لايل الذي كان على معرفة سابقة به، وتعاطى معه بكياسة· ويقول عبدالواحد في وصف لايل: فشكرته وسأبقى أشكره كلما ذكرته ما دمت حياً، إذ أنه أول رجل بريطاني منصف في نظري·
وفي 25 كانون الثاني / يناير 1921 زار عبدالواحد في السجن ضابط بريطاني برتبة كولونيل، وأخرج له من جيبه صيغة عريضة طالباً منه أن ينسخها حرفياً ويوقعها ليقدمها هو الى المندوب السامي، وقد جاء فيها: انني ثرت إجابة لرغبة عشائري الذين ثاروا إجابة لفتوى رجال الدين، كما أنني مرتبط بوجوب الاستجابة دينياً للفتاوى هذه· وقد تردد عبدالواحد في كتابة هذه العريضة في البداية، ثم وافق أخيراً· وبعد أيام قليلة جاء إليه في السجن عبدالعزيز المظفر ومعه الكابتن لايل وأخذاه الى مكتب طالب النقيب الذي كان يومذاك وزيراً للداخلية، ولدى دخول عبدالواحد على طالب بادره بالقول: إن الحكومة قررت أن تبعدك الى البصرة· فحاول عبدالواحد إقناعه بإبقائه في بغداد، ولكن طالب أصر على موقفه وأوعز بنقله الى محطة القطار حالاً· يعتقد عبدالواحد ان الانجليز كانوا يريدون إطلاق سراحه غير أن طالب هو الذي حال دون ذلك· وهو يروي في ذلك قصة لها دلالتها هي أنه بعد خروجه من مكتب طالب سأله الضابط البريطاني الذي كان معه: ماذا يريد منك الوزير؟· ولما علم الضابط بأن طالب يريد ترحيله الى البصرة حالاً قال: ما قيمة أمر هذا الوزير· ثم أخذ الضابط يصف طالب بنعوت قاسية، وقال: انه سيلاقي عقابه الصارم على تهوراته الكثيرة·
عندما وصل عبدالواحد الى البصرة أُسكِنَ في دار تحت رقابة الشرطة، بحيث إنه لم يكن يستطيع الخروج من الدار إلا بإذن منها، وقد لقي عبدالواحد من أهل البصرة كل حفاوة وتكريم، وزاره في داره الشيخ خزعل أمير المحمرة، فردّ عبدالواحد الزيارة له بعد أن أخذ الاذن من حاكم البصرة، ثم جاء إليه وفد من قبل أمير الكويت الشيخ أحمد الصباح وقدم له ألف ليرة ذهب، دعاه باسم الشعب الكويتي وأميره لزيارة الكويت، فاعتذر عبدالواحد عن قبوله المبلغ مع إبداء الشكر والامتنان·
أورينت برس