دمشق ـ فاطمة شعبان:
الإنشاد الديني فن من فنون الغناء، يتناول موضوعات دينية كالعشق الإلهي، أو مدح الرسول (صلى الله عليه وسلم) بمدائح شعرية طويلة، وتعود بدايته إلى مجموعة من الصحابة تغنَّوا بالرسول الكريم وخصاله وأفضاله وأفعاله، ثم استمرت العناية به طوال التاريخ الإسلامي·
أما في سوريا، فأخذت الشاذلية والمولوية والجباوية والرفاعية والنقشبندية وهي من الفرق الصوفية على عاتقها الحفاظ على الإنشاد الديني التراثي من الاندثار وطورته وأدخلته إلى العصر·
وبزيادة الطلب على الإنشاد أصبح مهنة لها أصولها وقواعدها وضوابطها ويمارسها العديد من أصحاب الأصوات الجميلة، ومنهم المنشد محمد زهير بيلون الذي يمارسها كمحترف منذ ربع قرن مما دفعنا إلى لقائه للتعرف على هذه المهنة وأسرارها وجوانبها المختلفة في هذا الحوار:
ما الذي جذبك في الإنشاد؟
منذ طفولتي كان يجذبني المغنى والطرب وكل ما له علاقة بالفن· وعندما كبرت قليلاً بدأ يجذبني صوت الأذان والأسلوب الذي يؤدى به، فقد كنت أسمعه في بيتنا القريب من الجامع، وأصبحت لا شعورياً أردده كلما سمعته، وكل من سمعني قال لأهلي: هذا الولد سيصبح مؤذنا· بالرغم من أنه لم يكن في عائلتي أي مؤذن أو منشد، لكنهم شجعوا توجهي إلى الجامع لحضور مجالس الذكر والصلاة على النبي، والأمسيات الإنشادية، وصرت أحضرها كلها حتى حفظت العديد من القصائد والأشعار والمدائح النبوية مع نغماتها، ولم أكتف بذلك بل صرت أشارك منشدي الجامع بالإنشاد، وأشارك المؤذنين برفع الأذان الذي تعلمت أيضاً أصول أدائه ورفعه·
متى احترفت الإنشاد؟
عندما بلغت الثامنة عشرة من عمري قررت أن أحترف الإنشاد وأن أنتقل من منشد يتطوع للإنشاد مع المنشدين في الجامع إلى منشد محترف، ولتحقيق ذلك التحقت بفرقة الشيخ فؤاد الخرطماني، رحمه الله، من كبار المنشدين ومؤذن رئيسي في الجامع الأموي، وعلى يديه تعلمت أصول الإنشاد وكل المقامات والنغمات الموسيقية التي يؤدى وفقها، ثم التحقت بعد عامين بفرقة المنشد الشيخ منير عقلة وهي فرقة منشدي الجامع الأموي، وأول مرة أنشدت فيها كمنشد محترف، كنت في الرابعة والعشرين من عمري·
مقامات ونغمات
هل هناك مقامات موسيقية معينة تنشدون وفقها؟
ننشد وفق جميع المقامات الموسيقية المعروفة، وهي مجموعة في أحرف جملة 'صنع بسحر'، الصاد صبا، والنون نهاوند، والعين عجم، الباء بيات، السين سيغا، الحاء حجاز، والراء رصد، ويتفرع عن كل منها نغمات أخرى، على سبيل المثال يتفرع البيات إلى 'بيات نوى، وبيات الكرد، وبيات اللامي، والحسيني، والشورى'، أما السيغا فتفرع عنه 'سيغا العراق، وسيغا الحصار، وسيغا راحة الأرواح'، وهكذا حتى يصل عدد النغمات والنوتات الموسيقية الفرعية إلى أكثر من مئتي نغمة·
وهل يتوجب على المنشد حفظ كل هذه الأصول والفروع الموسيقية؟
حسب كل منشد وشطارته، كلما حفظ أكبر عدد منها يُجود أكثر في الإنشاد، وتزداد براعته في التنقل من مقام إلى مقام خلال الإنشاد، وإذا لم يستطع المنشد حفظها كلها على الأقل عليه أن يحفظ مقام الرصد لأنه أبو النغمات كلها وسلطان الإنشاد 'إذا جن ليلك فارصد'·
وصلة السحور
هل يأخذ الإنشاد في شهر رمضان طابعا خاصا؟
في كل يوم من أيام شهر رمضان المبارك نحيي أكثر من احتفالية إنشادية، كل يوم في فترة السحور نؤدي وصلة إنشادية لمدة نصف ساعة تبدأ بموشحات وابتهالات ثم قصيدة توسل ونختم بالموشح الذي بدأنا فيه الوصلة، نرفع بعدها أذان الإمساك، يلي الإمساك قراءة آيات من الذكر الحكيم لمدة ربع ساعة، ونرفع بعدها أذان الفجر، وتبث هذه الفترة يومياً مباشرة من الجامع الأموي· تبدأ الوصلة الإنشادية الثانية بعد صلاة التراويح وتستمر على الأقل لمدة ساعة ويمكن أن تطول أكثر حسب عدد الحاضرين الذين يرغبون بالمتابعة· وفي مناسبة ليلة القدر تقيم وزارة الأوقاف احتفالية إنشادية رسمية لإحياء هذه الليلة وتبث مباشرة عبر التلفزيون والإذاعة، وتشارك فرقة المنشدين والمؤذنين في إحياء هذه الليلة في الجامع الأموي· كما تحيي فرقة الجامع ليالي الوداع، وهن الأيام الخمسة الأخيرة من شهر رمضان، ونبدأ الوصلة بقصيدة الوداع وننشد 'ودعوه، ودعوه، ثم قولوا له، منا عليك سلام'، ونكمل إنشاد باقي القصيدة بالإضافة إلى عدد من الموشحات والابتهالات·
احتفالية الوِرْد
هل تختلف هذه الأمسيات والاحتفاليات الرمضانية عن تلك التي كانت تؤدى في الماضي؟
لا تختلف كثيراً، ولكن وقتها كان أطول، والمشاركون في أدائها كانوا أكثر عدداً، ولكن هناك وصلة إنشادية لم نعد نؤديها اليوم، وهي 'استقبالية الشهر'، كان المنشدون في الماضي يستقبلون كل شهر هجري بوصلة إنشادية تسمى 'احتفالية الوِرد'، في اليوم الأول من كل شهر، تبدأ بعد صلاة الظهر حيث يجتمع المنشدون من عدة مذاهب وفرق ويجلسون على السدة مقابل المحراب، ويقرؤون جماعةً (الوِرد)، وهو مؤلف من ( آية الكرسي،و33 سبحان الله، 33 الحمد لله، 33 الله اكبر، ثم الصلاة على النبي، ثم نقرأ الفاتحة خمس مرات)· بعد الانتهاء من أداء الاحتفالية ينزل المنشدون عن السدة ويمشون بين المصلين وهم ينشدون حتى يصلون إلى مقام النبي يحيى ويقفون أمام الحجرة الشريفة ويؤدون الورد مرة أخرى بأداء ونغمة مختلفة بالإضافة لعدد من الموشحات· بالرغم من أن الورد يجب أن يقرأ بعد كل صلاة إلا أن أداءه قل كثيراً عن الماضي·
برأيك، هل عاد للإنشاد الديني اليوم سالف مجده وأصبح بإمكانه منافسة فنون الغناء الأخرى؟
الحمد لله، عاد للإنشاد الديني والصوفي مجده وعزه، عندما انتبه الناس إلى أهمية هذا النوع من التراث الفني العريق في حياتنا اليومية· هذه العودة القوية إلى التراث أسهمت في تطور الإنشاد الديني تطوراً كبيراً، وازدهر بشكل خاص الإنشاد الأندلسي ازدهاراً منقطع النظير· وأصبح بالتأكيد ينافس الفنون الأخرى ويأخذ مكانه بينها بقوة، حتى أن غالبية حفلات الزفاف بعد أن كانت حفلات صاخبة تضج بالأغاني والموسيقا والرقص والدبكة، أصبحت حفلات هادئة ذات طابع ديني وتراثي يحييها المنشدون بالمدائح النبوية والدعاء لله لمباركة الزواج· أصلاً هكذا كانت الأعراس في الماضي، مولد عند الخطبة، مولد عند عقد القران، ومولد ليلة العرس·