الخميس 24 يوليو 2025 أبوظبي الإمارات 33 °C
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الأخبار العالمية

الثوار الأكراد أنزلوا العلم البريطاني ورفعوا العلم العثماني

19 أكتوبر 2005

الاتحاد - خاص:
لكل منطقة في العراق كانت لها فلسفتها، وطريقة أدائها، حيال ثورة العام 1920 ضد الانجليز، والمهم انه لم تكن هناك ظاهرة التصدع المذهبي والاتني· العراقيون كانوا رزمة بشرية واحدة موحدة، وإن لعب الانجليزي كثيراً في سائر الاتجاهات· ولكن حين تبدو أمامنا أشياء القرن الحادي والعشرين كما لو أنها أشياء القرن العشرين (هل هذه ترجمة لموت الزمن أم لحيويته؟)، نلاحظ، ونحن نتتبع 'اللحمات الاجتماعية من تاريخ العراق الحديث' التي قدمها الاستاذ الكبير في جامعة بغداد في منتصف القرن الماضي الدكتور 'علي الوردي'، مظاهر أو ظواهر مثيرة، مثلاً أن تقاتل قبائل كردية الانجليز، وترفع العلم العثماني، وإن كان هذا لا ينفي وجود فئات كردية أخرى ظاهرت جيوش صاحب الجلالة 'جورج الخامس'· التاريخ يلعب، عادة، في كل الاتجاهات · مزيجاً من الكوميديا والتراجيديا· هذا ما يمكن تبينه في عرض 'خاص للاتحاد' على أربع حلقات لما قاله الدكتور 'الوردي' ·· هذه الحلقة الأولى:
كان عام 1919 هو عام الثورة في المناطق الكردية، فقد قام الأكراد في ذلك العام بعدة ثورات متوالية على الانجليز، كان أهمها ثورة 'الشيخ محمود الحفيد' التي بدأت في السليمانية في 22 أيار/ مايو 1919 وشملت حلبجة وجمجمال ورانية وكويسنجق وغيرها، الشيخ 'محمود' أعلن نفسه حاكماً على كردستان كلها، وأنشأ حكومة برئاسته، لها علمها الخاص وطوابعها البريدية، لكن الانجليز ما لبثوا أن انقضوا عليه في 18 حزيران/ يونيو وأنزلوا الهزيمة بقواته في دربند بازيان، وتمكنوا من القاء القبض عليه، ثم نفوه إلى الهند·
وعندما اندلعت الثورة في الفرات الاوسط في عام ،1920 ثم امتدت الى المناطق الاخرى، لم يتأثر بها من مناطق الاكراد سوى المناطق القريبة من ديالي· أما المناطق الاخرى، فكانت هادئة نسبياً· ويعود سبب ذلك إلى أنها كانت قد استنفدت طاقتها الثورية في السنة السابقة، ولم يبق لها من قوة الاحتمال ما تستطيع أن تواجه به الانجليز مواجهة فعالة·
ثورة خانقين وقزلرباط
ومن أهم الأحداث التي وقعت في المناطق الكردية في عام ،1920 نذكر:
كانت عشيرة الدلو القاطنة بالقرب من خانقين تتحفز للثورة منذ وصلتها أخبار ثورة الفرات الاوسط، فلما اندلعت الثورة في شهربار في 14 آب/ اغسطس 1920 أعلنت هي من جانبها الثورة وزحفت نحو خانقين بقيادة رئيسها 'كريم خسرو بك'، واحتلت البلدة من دون مقارنة·
كان معاون الحاكم السايسي في خانقين يومذاك اسمه الكابتن 'ماسترسون'، وقد اسرع إلى الفرار من البلدة هو وزوجته وموظفوه، وسط سخرية الأهالي، والتجأوا إلى المعسكر الانجليزي الذي يقع في 'باوه محمود' بالقرب من محطة القطار· وكان في خانقين طبيب بريطاني لم يتمكن من الفرار مع الآخرين، وقد أدركه الثوار عندما كان يحاول ركوب سيارته للفرار بها وأسروه·
نهب الثوار الدوائر الحكومية، وأنزلوا العلم البريطاني ومزقوه، ورفعوا مكان،ه العلم العثماني، وعينوا 'خورشيد بك' الذي كان رئيس جمعية المجاهدين في العهد التركي حاكماً للبلدة، ونادى المنادي أن يكون التعامل بالنقود التركية، وأن يفتح الناس أبواب بيوتهم في الليل دون أن يخشوا السرقة، فإذا سرقت من أحدهم روبية واحدة عوض عنها بمائة روبية، أما من يغلق باب بيته ليلاً فيجب أن يدفع غرامة مقدارها مائة روبية·
ولم تكد تصل أخبار خاقين إلى العشائر القريبة من قزلرباط، وهي عربية كالجبور وربيعة وبني ويس، حتى بدأوا يتحفزون لاعلان الثورة من جانبهم، وسرعان ما زحفوا على قزلرباط واحتلوها، واستولوا على السراي ونهبوا ما فيه كما نهبوا الخزانة· ونصبوا 'صالح العنبر' رئيس الجبور حاكماً للبلدة·
كان حاكم قزلرباط من قبل الانجليز رجل ايراني من آذربيجان اسمه 'أحمد دارا'، وقد فر من البلدة عند هجوم العشائر عليها، ثم ذهب مع من كان معه من الشبانة إلى حامية قرغان· وكانت هذه الحامية تضم مائة وثلاثين جندياً بقيادة الملازم 'هنتر'، وقد صمدت هذه الحامية في وجه حصار العشائر لها، وظلت صامدة حتى النهاية·
عشيرة السنجاب
وفي صباح 16 آب / أغسطس خرجت من خانقين قوة من الثوار بقيادة 'كريم خورشيد بك'، مؤلفة من مائتي خيال وعدد كبير من المشاة، لقتال القوة الانجليزية المتحصنة في معسكر 'باوة محمود'· وكانت قد وصلت إلى هذا المعسكر، منذ فترة قصيرة، قوة للنجدة من 158 جندياً وخمسة رشاشات بقيادة الكولونيل 'ادواردز'· فنشبت بين الفريقين معركة حامية يقول 'هالدين' عنها أنها انتهت باندحار الثوار تاركين وراءهم 15 قتيلاً· أما المصادر المحلية فتشير إلى انتصار الثوار وتشيد بالشجاعة الفائقة التي أبداها 'كريم خورشيد بك' في المعركة وكيف انه تمكن من احتلال رابية نصب عليها مدفع حيث تسلق إليها من الخلف، فقتل المدفعي واستحوذ على المدفع·
وفي 18 آب / اغسطس تحركت من قزوين - اذربيجان قوة انجليزية باتجاه خانقين وهي محمولة على سيارات نقل كبيرة· وقد ألحقت بهذه القوة مدفعية محمولة استدعيت من كرند، كما التحق بها 250 مقاتلاً من عشيرة السنجاب، و200 من خيالة كالهور· وقد نيطت قيادة هذه القوات بالكولونيل 'كاسكل'، فوصل هذا بقواته إلى مقربة من خانقين في اليوم التالي دون أن يواجه أية مقاومة، وأنزل العقاب بالقرى القريبة، ثم بعث بقوة صغيرة إلى خانقين فاحتلتها في 20 منه، وفي مساء 24 شباط/ اغسطس رفع الحصار عن حامية قرغان، وفي 27 منه استعيدت قزلرباط·
ثورة كفري
قام بالثورة في منطقة 'كفري ابراهيم خان' رئيس أحد فروع عشيرة الدلو، وقد عاونه في ذلك فريق من قبيلة الجاف· ويقال ان 'سليمان فتاح' كانت له يد في تحريك الثورة في هذه المنطقة إذ هو جاء إليها من بغداد في منتصف شهر شباط/ أغسطس وأخذ يحدث رؤساءها عن انتصارات الثوار في الفرات الاوسط وكيف ان الانجليز اصبحوا على وشك الجلاء عن العراق·
في 22 آب/ اغسطس·صعد 'ابراهيم خان' مع اعوانه الى جبل 'بابا شاه سوار' المطل على كفري، واخذوا يطلقون النار منه على سراي الحكومة، فكان ذلك إيذاناً بإعلان الثورة في هذه المنطقة·
كان معاون الحاكم السياسي في كفري اسمه الكابتن 'سالمون'، وكان يسكن فيها مع زوجته، وكان قد نصحه البعض من أهل البلدة أن يفر منها على نحو ما فعل حكام البلدان الاخرى فلم يفعل· ويقول 'ويلسون' في مذكراته: 'إن الكابتن سالمون كان يعقتد أن بقاءه في البلدة له تأثير معنوي كبير على الأهالي، وشعر بأن الواجب يقضي عليه أن يبقى فيها إلى آخر لحظة ممكنة، وكان محقاً في شعوره هذا'·
قرر 'سالمون' أن يخرج بنفسه إلى 'ابراهيم خان' في الجبل للتفاهم معه، فهو كان يظن أن 'ابراهيم خان' صديقه وأنه سيقبل نصحه ويترك الثورة، غير أنه لم يكد يصل إلى الثوار حتى أمسكوا به واعتقلوه، ثم هجموا على البلدة، فاحتلوا السراي ونهبوه وانزلوا العلم البريطاني من فوقه· أما زوجة 'سالمون' التي بقيت في البلدة فقد أوصلها نفر من الأهالي إلى محطة 'كنكربان' التي كانت تبعد عن كفري بنحو ثلاثين كيلومتراً، وكانت فيها حامية مؤلفة من فصيلين من الجنود الهنود مع بعض الرشاشات والمدافع·
عندما وصل خبر الثورة في كفري إلى الحاكم السياسي في كركوك الميجر 'لونكريك'، أعد قوة مؤلفة من الشبانة وعدد من الطالبانيين والزنكنة، وسار بهم إلى محطة 'كنكربان'، وبعدما انضمت اليه حامية المحطة توجه إلى كفري، واشتبك مع الثوار في معركة دامية سقط فيها عدد من القتلى والجرحى من الجانبين·
شاء القدر أن يقتل في هذه المعركة ابن أحد رؤساء الثوار 'كوخه عبدالرحمن الكهريزي'، فأسرع الثوار إلى الكابتن 'سالمون' الذي كان أسيراً عندهم، فقطعوا احدى يديه وقتلوه، ثأراً لمقتل ابن الكهريزي·
انتهت المعركة بانتصار 'لونكريك'، ففرض على البلدة غرامة قدرها عشرة آلاف روبية وخمسمائة بندقية· ثم عين 'حميد الطالباني' قائماماً للبلدة، وعاد إلى كركوك·
وقد وجه القائد الانجليزي في العراق 'ويلسون' لوماً شديداً إلى 'هالدين' وإلى الحامية التي كانت موجودة في محطة كنكربان في اثناء الثورة، ففي رأيه ان هذه الحامية كان في مقدورها الدفاع عن البلدة تجاه العشائر الثائرة، ولكن الاوامر التي وصلتها من 'هالدين' جعلتها تحصر اهتمامها في أمر الدفاع عن نفسها فقط، كما أن ضباط الحامية كانوا على درجة من ضيق التفكير والتصرف منعتهم من اظهار أية مبادأة مناسبة من جانبهم·
التوتر في اربيل
تأتي أربيل بعد خانقين وكفري من حيث التأثر بثورة العام ،1920 والواقع أنها لم تعلن الثورة فعلاً، غير أن التوتر فيها بلغ أشده بحيث أصبحت على حافة الثورة، وكان يكفي أن تنطلق فيها شرارة صغيرة لكي تندلع الثورة فيها على نطاق واسع·
كان الحاكم السياسي في أربيل آنذاك هو الكابتن 'هي'، ويقدم هذا الحاكم في مذكراته وصفاً مسهباً للتوتر الذي كان سائداً في منطقته خلال شهري آب / آغسطس وأيلول/ سبتمبر من عام 1920 يمكن إيجازه بأنه:وفي أوائل آب / اغسطس حصلت محاولة لاغتيال الكابتن 'هي'، كما جرت محاولة أخرى لاحراق بيته، وفي 12 منه بينما كان 'هي' في جولة بالقرب من راوندوز نصب له كمين في مضيق كلي علي بك كاد يقضي عليه، وعندما عاد إلى اربيل بعد ثلاثة أيام وجد البلدة مشحونة بالاشاعات المثيرة، وكان الناس في المقاهي يتحدثون عن قرب قيام ثورة في كركوك، وعن قرب عودة الاتراك إلى العراق· وفي اليوم التالي ظهر في البلدة منشور غير موقع يدعو المسلمين إلى الثورة على الكفار ويعلن عن اقامة حفلة للمولد النبوي في جامع كركوك قريباً سيحضرها آلاف المؤمنين الذين يحملون سلاحاً·
ويضيف الكابتن 'هي' انه في مساء ذلك اليوم الذي ظهر فيه المنشور وصلته برقية رمزية من 'ويلسون' يصف فيها استفحال الثورة في ديالي وما جاورها، ويعدد النكسات التي حلت بالانجليز في الأماكن الاخرى، وكيف ان الانجليز لا يملكون القوات العسكرية الكافية، ثم ينهي 'ويلسون' برقيته بقوله للكابتن 'هي': 'إذا جوبهت بصعوبات فإننا غير قادرين على مساعدتك ولو بطائرة واحدة، وعليك أن تصطنع أية حجة ممكنة لاخلاء جميع الموظفين الذين تستطيع الاستغناء عنهم'·
وفي صباح 5 أيلول/ سبتمبر اشتد التوتر في اربيل، عقب ورود انباء تفيد بأن عشائر 'السورجي' و'الخوشناو' قادمة إلى البلدة لاحتلالها· وقد اضطر الكابتن 'هي' إلى ترك بيته الذي يقع في طرف البلدة، ويلجأ للسكنى في الثكنة التي تقع تحت القلعة مباشرة في الجهة الغربية منها، وراح يتهيأ للهروب من البلدة في حالة اشتداد الخطر·
اهانات الأهالي
واللافت أن الكابتن 'هي' أعلن للقوات المحلية التي كانت معه في الثكنة انه لا يمانع في انفكاك أي واحد منهم من الخدمة إذا أراد وكان قصده من ذلك الا يبقى معه الا من يمكن الثقة به والاعتماد عليه منهم، ولهذا صار الكثيرون منهم يتفرقون عنهم ويعودون إلى أهليهم، ولم يبق منهم معه سوى 50 من الشبانة و20 من الدرك و35 من الشرطة، ويقول 'هي': 'إن هؤلاء الذين بقوا راحوا يتعرضون للاهانات من قبل الاهالي لدى خروجهم إلى الشارع، ولكنهم بالرغم من ذلك سلكوا سلوكاً شجاعاً ثابتا'· كان 'خورشيد اغا' من رؤساء العشائر الموالين للانجليز، وقد ارسل صحيفة الحرب 'هاوار' إلى جميع أتباعه في المنطقة، فجاؤوا إلى البلدة بسلاحهم وكان عددهم ثلاثة آلاف· ولكن دخول مثل هذا العدد من المسلحين إلى البلدة أدى إلى ازدياد التوتر فيها، إذ أن شرارة صغيرة كانت كافية لالهاب الوضع بحيث يصعب على 'خورشيد اغا' وأمثاله السيطرة عليه·
اليهودي يصرخ
وفي ظهر 6 أيلول/ سبتمبر وقع حادث في البلدة كاد يكون الشرارة التي تلهب الوضع فيها، إذ أن أحد اتباع 'خورشيد اغا' تشاجر في السوق مع صاحب دكان يهودي، فأخذ اليهودي يصرخ مدعياً بأنه سرق وأن القبائل تنهب السوق نهباً· وعند هذا سرى الذعر بين الناس، وهرع الرجال والنساء والاطفال للخروج من السوق وهم يصرخون: 'لقد جاءت القبائل، إنها قادمة'· وأسرع آمر الشبانة الكابتن 'ليتلديل' فأمر بنفخ بوق الاذنار في الثكنة، واستعد للرمي بالرشاشات المنصوب فوقها· ولكن الذي أنقذ الوضع هو 'حسيني ملا' الذي كان آمراً للشرطة، إذ أسرع إلى السوق، بهراوته الغليظة، فألقى القبض على اليهودي والقاه في السجن، واستطاع أن يعيد النظام إلى السوق بعدما بذل جهوداً كبيرة تخللها السباب واللطم واللكم والوكز والضرب بالهراوة· وفي مساء اليوم نفسه وصلت برقية من 'ويلسون' يقول فيها إنه قادم إلى اربيل بعد غد ومعه ثلاث طائرات، فأجابه الكابتن 'هي' ببرقية قال فيها انه ربما اضطر إلى مغادرة البلدة في أية لحظة، فإذا وصلت الطائرات ووجدت علماً مرفوعاً فوق السراي فمعنى ذلك انه ما زال باقياً في البلدة، أما إذا لم تجد ذلك العلم فإن من الخطر على الطائرات الهبوط في البلدة·
القبائل ·· قطيع من الغنم
وفي حوالي الساعة الثامنة من صباح 8 أيلول/ سبتمبر وصلت الطائرات التي تحمل 'ويلسون' وحاشيته، فرأ العلم مرفوعاً فوق السراي مما يدل على وجود الكابتن 'هي' فيه· وعندما هبطت الطائرات إلى الأرض كان في استقبالها في المطار حشد من الخيالة الأكراد واحتفى هؤلاء بــ 'ويلسون' وأوصلوه الى بيت قريب حيث تناول فيه طعام الافطار، ثم توجه بعد ذلك إلى السراي، الذي أمه رؤساء العشائر للسلام عليه· ويقول 'ويلسون' انه تظاهر امامهم بالثقة مع أنه كان أبعد ما يكون عن الشعور بها، فأثنى على جهودهم في صيانة الأمن والنظام، ورد عليه 'خورشيد اغا' و'أحمد افندي'، رئيس البلدية، حيث اعلنا عن عزمهما الأكيد على صيانة الامن وتأييد الحكومة، ولكنهما اضافا إلى ذلك قائلين: 'نريد منك شيئين، أولهما: الضمان بعدم السماح للاتراك بالعودة··، والثاني: سوق قوة من الجيش في الحال إلى اربيل لكي يعرف مثيرو القلاقل ان ذراع الحكومة البريطانية ما زالت طويلة وقوية'· فتكلم 'ويلسون' قائلاً: 'إن الحكومة البريطانية سوف لا تتخلى عن الانتداب على العراق، وأن قوة ستصل إلى اربيل ولكني لا استطيع أن أقول متى تصل، فأرجو منكم ألا تسمحوا لرجال قبائلكم بأن يقعوا فريسة لموجة الجنون التي تأثر بها العرب الشيعة في الفرات الاوسط ومناطق ديالى، ويجب أن تطمئنوا الى أن الوقت العصيب قد انتهى، وأن مثيري الاضطراب سرعان ما يتمرغون في الرغام مثل الثعالب وقت الفجر'·
ذهب 'ويلسون' بعد هذا الى البيت القريب من المطار لتناول طعام الغداء، وكان قدوقف فوق سطحه عدد كبير من الشرطة والشبانة لحراسته مع رشاش· وبينما كان 'ويلسون' وأصحابه يتناولون الطعام وصلت ورقة إلى الكابتن 'ليتلديل' الذي كان يتناول الطعام معهم فحواها ان القبائل قادمة لغزو البلدة، فامتقع لون 'ليتلديل' واندفع خارجاً حيث صعد الى السطح، وصعد وراءه الكابتن 'هي'، وعند فحصهما الافق بالناظور تبين لهما أن القبائل القادمة لم تكن سوى قطيع من الغنم!
حمير وبغال لإخلاء الموظفين
غادر 'ويلسون' اربيل في الساعة الثانية بعد ظهر اليوم نفسه ليشتد الوضعت في المدينة بعد ذلك، ففي الساعة الثالثة من بعد ظهر اليوم التالي شوهد حشد كبير من عشيرة 'الخوشناو' يقتربون من البلدة التي عم الفزع فيها، واندفع الكابتن 'ليتلديل' إلى رشاشه يعده للقتلا· واستعد الكابتن 'هي' للهروب من البلدة، وأرسل قبله قافلة كبيرة من الحمير والبغال وهي تحمل الموظفين الذين تحتم اخلاؤهم مع أمتعتهم·
ذهب 'أحمد أنفدي' إلى أفراد العشيرة للتفاهم معهم، وبعد جدل تم الاتفاق على أن يأتي رؤساؤهم لمقابلة الكابتن 'هي' في السراي في اليوم التالي في الساعة الثانية بعد الظهر· ولما اجتمع الرؤساء بالكابتن 'هي' راحوا يملون عليه شروطهم، وهو يقلو في مذكراته: 'لقد كان وضعاً غريباً عجيباً، ذلك اني اعتدت طوال سنتين على اصدار الاوامر الى هؤلاء الرؤساء، فرذا الوضع الآن ينقلب على عقبيه، فهم الذين يفرضون عليّ شروطاً'·
كانت شروطهم تتلخص بالعفو عن كل ما صدر بحقهم في الماضي، واعادة دفع المخصصات الشهرية التي كانوا يقبضونها سابقاً، على أن يسرحوا قواتهم ويعيدون جميع الممتلكات الحكومية الموجودة في حوزتهم· يقول الكابتن 'هي': 'حقاً لقد كنت مكرهاً على قبول مثل هذه المقترحات وان كنت مسروراً منها كثيرا'· وفي الساعة التاسعة والنصف من صباح 14 أيلول / سبتمبر، وصل إلى اربيل رتل قادم من كركوك، وأعقبه رتل آخر من الموصل· وعاد الهدوء بذلك إلى المدينة·
أورينت برس
(يتبع)
عشيرة الزوبع والقيم البدوية
تقطن عشيرة 'زوبع' بالقرب من خان النقطة التي يقع في منتصف الطريق بين بغداد والفلوجة، وهي تنتمي إلى 'شمر' وقد جاءت من البادية في عهد متأخر ولهذا ظلت محافظة على قيمها البدوية إلى درجة كبيرة، وكانت نخوتها: 'خيال الخيل زوبع'·
كان عدد رجال العشيرة ابان الاحتلال الانجليزي نحو أربعة آلاف رجل، منهم نحو سبعمائة خيال، وهم مسلحون تسليحاً جيداً· وقد نشب بينهم وبين 'بني تميم' الذين يقطنون إلى الشرق منهم، بالقرب من عقرقوف، عداء ونزاع حول بعض الاراضي التي تقع إلى الجنوب من جدول الصقلاوية·الشيخ 'ضاري'
من ناحية أخرى كان الانجليز، لدى احتلالهم العراق، قد ساروا في سياستهم العشائرية على أساس اختيار شيخ واحد في كل منطقة، أو عشيرة كبيرة، وتدعيمه بالمال والنفوذ، ليجعلوا منه مسؤولاً عن الأمن والنظام في منطقته·
وعندما احتلوا بغداد في ربيع 1917 اختاروا الشيخ 'ضاري الظاهر' ليكون الرئيس المسؤول عن عشيرة 'زوبع' كلها· وقد ورد عنه في تقرير كتبه معاون الحاكم السياسي في الفلوجة ما نصه: 'إن عشيرة زوبع منشقة تضم كثيراً من الفروع الصغيرة التي ورثت من العهد التركي نزعة الاستقلال بعضها عن بعض، ولهذا فقد بذلت كل جهدي لتدعيم نفوذ الشيخ ضاري'·
خصص الانجليز للشيخ مرتباً شهرياً قدره 750 روبيه، واستمرا في دفع هذا المرتب له حتى أوائل ،1918 ثم قطعوه عنه· ولا نعرف السبب الذي حملهم على ذلك، ويعتقد أنهم وجدوا الشيخ 'ضاري' ذا منفعة قليلة لهم، فأضمر حيالهم حنقاً شديداً·
وعندما راحت بوادر الثورة تظهر في العراق في حزيران / يونيو ،1920 شعر الانجليز بضرورة إعادة المرتب للشيخ 'ضاري'، لكنهم جعلوه 500 روبية بدلاً من ،750 والظاهر ان هذا الاجراء جاء بعد فوات الاوان إذ لم يتمكن الانجليز به من استعادة مودتهم في قلب الشيخ الزوبعي·
في 29 شباط/ فبراير1920 نقل الكولونيل 'ليجمن' من لواء الموصل إلى لواء الدلمي· وكان هذا الرجل سريع الغضب قليل المجاملة· فكان ذلك عاملاً اضافياً ساعد على توتر العلاقة بين الشيخ 'ضاري' والانجليز· ويروى ان 'ليجمن' كان لا يتردد عن اهامة 'ضاري' في بعض الاحيان حتى انه خاطبه ذات مرة باسم 'الشيخ ضارط'، وتلك اهانة لا يتحملها رجل كالشيخ 'ضاري' ذي الجذور البدوية الأصيلة·
ويروى أيضاً أن 'ليجمن' أولم في أحد الايام لرؤساء عشائر منطقته الذين كان 'ضاري' من بينهم، ولما دعوا الى تناول الطعام اتجه 'ضاري' نحو صدر القاعة لكي يجلس مع الرؤساء الكبار، فتقدم منه 'ليجمن' وخاطبه أمام الحاضرين قائلاً: 'قم ليس هذا مكانك'، فظهر الغضب الكبير على وجه الشيخ·
الشيخ: إنني عربي
النصر العظيم الذي حققه ثوار الفرات الاوسط في معركة الرازنجية في 24 تموز/ يوليو 1920 احدث دوياً هائلاً في مختلف انحاء العراق، وكان الثوار قد ارسلوا عقب تلك المعركة مندوباً عنهم اسمه 'جدوع ابوزيد' الى شيوخ الفلوجة والمحمودية، وهو يحمل معه فتوى 'الشيرازي' وكتاباً من السيد 'هبة الدين الشهرستاني' يحثهم على الجهاد في سبيل الله· فاستجاب بعض الشيوخ لهذه الدعوة كالشيخ خضير الحاج عاصي رئيس الجنابيين، والشيخ علوان الشلال، رئيس البومحيي، وهذا ما جعل بغداد مهددة من الجهة الغربية· وفي ذلك يقول 'علي البارزكان': '··· وقد تأثرت العشائر التي تقطن أطراف بغداد بفتوى الامام الشيرازي فأخذت تشن الهجوم تلو الهجوم على ضواحي بغداد الامر الذي جعل الانجليز ينشؤون الحصون والموانع للمحافظة على المدينة، وكنت اشاهد بنفسي قنابل التنوير يطلقها الانجليز ليلاً في اطراف المدينة للكشف عن أماكن الثوار اينما وجدوا، ولما كانت القبائل غير منظمة ولا تابعة لقايدة محكمة حازمة، لذلك أخذ الثوار ينهبون ما يصدافونه من مواشي واموال الاهلين'·
كان الشيخ 'ضاري' من ين الشيوخ الذين التقاهم 'جدوع ابوزيد'، فكان على أتم الاستعداد لاعلان الثورة على الانجليز، إذ قال له: 'إني عربي ووطني وعراقي، وها اني ابذل كل ما لديّ من نفس ونفيس في سبيل مصلحة بلادي ضد الظالمين، ولينعم العلماء واخواني الزعماء عينا، وها اين باسم الله سأعمل وستسمعون أعمالي وترونها، تلك الاعمال التي سوف يرضاها الله وترضونها أنتم ان شاء الله'·
يروي 'سليمان بن الشيخ ضاري' ان 'ليجمن' اقام في تلك الايام وليمة دعا اليها شيوخ المنطقة، وبعد الانتهاء من تناول الطعام تكلم 'ليجمن' مخاطباً اياهم ضارباً على اوتار الطائفية قائلاً: 'إنه يود الوقوف على رأيهم باعتبارهم من أهل السنة فيما يطالب الثوار الشيعة باقامة حكومة مستقلة' فانبرى 'ضاري' يرد عليه قائلاً: 'ليس في الاسلام سنة وشيعة بل هو دين واحد وعرق واحد وكلمة واحدة'، فقال 'ليجمن': 'إن الحكومة البريطانية حائرة في أمركم لا تدري هل تشكل حكومة شيعية أو سنية'، فرد عليه 'ضاري' بأن العراق ليس فيه شيعة آو سنة بل فيه علماء اعلام نرجع اليهم في أمور ديننا'· وقال 'ليجمن': 'أنتم عشائر والاجدر بكم ان تكونوا مستقلين'· فرد عليه 'ضاري': 'إن علماءنا حكومتنا وقد امرنا القرآن باطاعة الله والرسول وأولي الامر منا، فإذا اعتديتم عليهم فإننا سننتصر لهم ونحاربهم بجانبهم·· والأولى أن تلبوا ما أرادوا'·
لقاء على دكة مخفر
اعتادت العشائر العراقية منذ زمن بعيد على انها إذا أرادت الثورة على الحكومة تبدأ بقطع الطريق على المسافرين· وقد فعل الشيخ 'ضاري' ذلك عندما عزم على إعلان الثورة على الانجليز، إذ راح يحث رجاله على نهب المسافرين بين بغداد وخان النقطة·
أرسل 'ليجمن' إلى 'ضاري' يطلب مقابلته في ظهر 12 آب/ اغسطس في مخفر 'أبومنيصير' الواقع بالقرب من خان النقطة· وقد غادر 'ليجمن' الرمادي قبل يوم واحد متوجهاً إلى بغداد، وبات ليلته فيها· وفي الساعة الحادية عشرة من صباح اليوم التالي توجه إلى المخفر·
يقول 'ويلسون' في مذكراته: 'إن ليجمن زارني قبل مغادرته بغداد لمقابلة 'ضاري'، قود طلب مني السماح له بامهال 'ضاري' وتأجيل مطالبته بتسديد بعض السلف المدفوعة له في السنة الماضية'·
كان 'ليجن' في سيارته الخاصة التي يقودها سائق هندي، وكان في صحبته خادم له اسمه 'حسن'· ولدى وصوله إلى مخفر ابومنيصير ظهراً وجد هناك 'ضاري' ومعه ولداه 'خميس و'سليمان' وبعض اقربائه وعبيده، فجلس مع 'ضاري' على دكة في مدخل المخفر، وأخذ يحدثه عما جرى في بغداد صباح ذلك اليوم من محاولة القاء القبض على 'يوسف السويدي' واصحابه، كما حدثه عن الثورة في كربلاء·وبينما هما في الحديث جاء الى المخفر سائق اسمه 'اسطه فيزان بن قرقاش'، أخبر عن حادثة سلب وقعت بالقرب من سدة الترك، فظهرت امارات الغضب على وجه 'ليجن' والتفت نحو 'ضاري' قائلاً: 'هذه كلها حركاتها، وانت تحدث تشويشات في الطريق'· فأخذ 'ضاري' يوكد الا علم له بهذه الامور· وعند هذا التفت 'ليجمن' نحو آمر الشبانة 'عبدالجبار الجسام' الذي كان واقفاً بالقرب منه موعزاً اليه أن يتوجه مع نفر من رجال لمطاردة اللصوص· ثم طلب من 'عبدالجبار' ان يأخذ معه 'خميس بن ضاري'' لكي يعاونه في مطاردة اللصوص·
كيف قتل الكولونيل؟
وعلى اثر مغادرة 'عبدالجبار' للمخفر بصحبة 'خميس بن ضاري' قتل 'ليجمن' وقد اختلفت الروايات في كيفية مقتله اختلافاً عجيباً· وفي رأي الوردي ان محاضر المحاكمة التي جرت لـ ضاري في عام 1928 تلقي شيئاً من الضوء علي الحادثة· ومن يطلع على تلك المحاضر يشعر ان ليجمن وجه الى الشيخ اهانة لم يتحملها،ولاسيما انها جاءت بعد اهانات اخرى سابقة، ولعلها كانت لــ ضاري كالقشة التي قصمت ظهر البعير· وعند هذا اشار ضاري الي ابنه سليمان الذي كان واقفاً بالقرب منه قائلاً: 'دكوه' فاطلق سليمان النار من بندقيته على 'ليجن'، وعند هذا قام ضاري واخرج سيفه من غمده واهوى به على ليجمن يضربه على رأسه وصدره وسمع أحد الشهود ليجمن في تلك اللحظة وهو يقول: 'لا ··· لا ··· لا ···' بينما سمعه شاهد آخر يقول: 'يازي يا ضاري ··· يازي يا ضاري ···'· ثم سقط ليجمن على الارض يتخبط بدمائه، واسرع رجال ضاري بعد ذلك فقتلوا خادمه وسائق سيارته، وسلبوا كل ما كان لدى الشبانة من بنادق وخيل وملابس·
ما قاله في المحكمة
وفي ما يلي ما قاله ضاري نفسه في اثناء محاكمته 'كنت عند الغروب في بيتي فجاءني خيالان من الشبانة وقالا لي: 'إن الكولونيل ليجمن يطلبك، فقلت: 'بأمره'· وعند الصباح ركبت والشبانة معي، وركب اولادي خميس وسليمان واولاد أخي صليبي وصعب وشخص آخر اسمه دحام وبعض الخيالة من خدامنا وهم خليف وطارش وسويلم فجئنا الى نقطة ابي منيصير فبقي رفاقي في الخان وأنا ذهبت الى النقطة وجلست مع 'عبدالجبار' ثم جاء الكولونيل بالسيارة ومعه رجلان لا اعرفهما ثم تسالمت وجلست واياه بالمجاز على الدركة مقداراً من الزمن ثم قام الكولونيل وكانت قد جاءت سيارة لا اعرف لمن هي، ثم قال الكولونيل لي: 'يا ضاري ان الدرب مدكوك فليركب خميس مع العسكر'، فقلت: 'يا صاحب لا اعرف، من ربعي او غيرهم، لا ادري' فقام عليّ يسبني ويشتمني، وبصق في وجهي واشهر عليّ المسدس ورفسني وكنت مريضاً في ذلك اليوم وكنت اقول له: ترحم عليّ يا صاحب انا يدخل عليك، ولكنه سحبني والقاني في الحجرة وحبسني، وغلق باب الغرفة وبعد مدة قليلة سمعت ثلاث طلقات او اربعاً، وكنت في داخل الغرفة· ثم جاء صليبي وفتح الباب، فخرجت وشاهدت الكولونيل مقتولاً···'·
وتجدر الاشارة إلى أن الانجليز فسروا حادثة السلب التي كانت السبب المباشر لقتل ليجمن تفسيراً مناقضاً لما ذهب اليه بعض الكتاب العراقيين فهؤلاء يقولون إن حادثة السلب كانت مدبرة من قبل ليجمن نفسه لك يتخذها ذريعة للحط من كرامة ضاري وسبباً للتنكيل به اما الانجليز فيقولون ان ضاري كان مصمماً من قبل على قتل 'ليجمن'، وهو دبر حادثة السلب لكي يرسل ليجمن الشبانة بعيداً عنه فيسهل عندئذ قتله·
ويقول الانجليزي 'هالدين' في ذلك إن فقدان مثل هذا الرجل في مثل تلك الظروف كان بمثابة صدمة لكل واحد منا، لأنه كان على جانب كبير من الشجاعة والدهاء، كما كانت له معرفة دقيقة بأهل البلاد، فهو قد اسهم في جميع معارك الحرب من معركة الشعبية في عام 1915 حتى تسليم الموصل من قبل الاتراك في عام 1918 وقد تمكن من النجاة من الاسر في الكوت حين خرج مع الخيالة من الكوت قبل ساعات قليلة من بدء الحصار حولها·
عزل قواتنا في الفلوجة
ثم يقول 'هالدين' إن ثورة زوبع ادت الى عزل قواتنا الموجودة في الفلوجة والرمادي، وان كانت هذه القوات قد امدت بالتجهيزات من قبل وقد قام الميجر 'ايدي' بعمل يدعو إلى الاعجاب في المحافظة على الوضع هناك'· ويضيف: 'إن مقلت ليجمن وقع في فترة كانت فيها النكسات والهزائم تتوالى على الانجليز، واستعاد تلك النكسات واحدة بعد الاخرى ثم علق عليها بصورة تدل على الحالة النفسية التي كان يواجهها حيث قال: '··· إن المصائب لا تأتي في الغالب منفردة، وهي أتت تكملة لكارثة رتل مانجستر - يقصد كارثة الرازنجية - التي حدثت قبل ذلك بعشرة أيام، إن توالي هذه المصائب قد يجعل الانسان يشعر بأن الآلهة لا تجارب الى جانبنا· وعلى أي حال فإن المآزق التي واجهتني في حياتي جعلتين اشعر بالثقة باجتياز العاصفة بسلام، مع امكانية الضحك في بعض الاحيان في وجه السحب السوداء التي هي فوق رأسي'·
إنه ملك انجلترا
كان لمقتل 'ليجمن' تأثير معنوي كبير على العشائر في تلك المنطقة يقول 'براي': 'ان خبر مقتل ليجمن انتشر بين العشائر كانتشار النار في الهشيم وصارت العشار تقول: 'راح ليجمن انتهت الحكومة كلها ويعلل 'براي' ذلك بأن العشائر كانوا يتصورون ليجمن كأنه قائد لجميع القوات الانجليزية أو هو ملك انجلترا ولهذا عمدت العشائر الى اشهار سلاحها عقب مقتله واعلنت الثورة·
في اليوم التالي لمقتل 'ليجمن' توجه ضاري على رأس جمع من عشيرته وعشيرة المصالحة المتحالفة معه نحو محطة التاجي الواقعة في شمال الكاظمية بغية اقتلاع قضبان السكك الحديدية وقد وصلوا الى هنالك عقب غروب الشمس، وحين بدأوا عملهم فاجأهم قاطر قادم من الشمال، وأخذ من في القطار يوجهون اليهم نيران الرشاشات، ففروا ولم يفقدوا في هذه الحادثة سوى حصان واحد·
توجه 'ضاري' مع رجاله بعد هذا إلى الفلوجه، وكان في صحبته ضابط بغدادي هو 'محمود رامز'، وحين وصل الى مقربة منها دعا اليه بعض رؤساء المنطقة، واجتمع بهم في بيت 'مشوح الجاسم' من رؤساء الجميلة· وأخذ يحثهم على إعلان الثورة·
وفي هذا الصدد يروي 'فريق المزهر الفرعون': 'ان ضاري ذكر لهم انه أصبح يقلد علماء الدين الأجلاء وانهم هم الذين أمروه بالثورة، ثم أخرج الكتب التي وصلته من كربلاء وأوعز الى كاتبه أن يقرأها عليهم، ولدى الانتهاء من قراءته قال ضاري لهم: 'وأزيدكم علماً ويقيناً أني تابع خطى عبدالواحد الحاج سكر والسيد نور الياسري، وانني مسلم وأنتم مسلمون فهلموا وقوموا لنقاوم أعداء الدين والبلاد'·
إغراق 4 بواخر
ولا يُعرف مدى الصحة في الرواية، لكن المؤكد أن بعض العشائر في تلك المنطقة أعلنوا الثورة تضامناً مع الشيخ ضاري· وفي 15 آب / أغسطس بينما كانت أربع بواخر تسير في الفرات بالقرب من الرمادي تتجه نحو الفلوجة هاجمتها جماعة من العشائر من الضفة اليسرى للنهر حيث أطلقت نيران بنادقها، وظلت تطاردها حتى جنحت اثنتان من البواخر فنهبوها ثم أشعلوا النار فيها غير أنهم لم يمسوا رجالها بأذى·
هذه الحادثة شكلت حافزاً آخر بالنسبة الى العشائر المترددة في الانضمام الى الثورة· يقول هالدين: 'لقد أمكن استعادة تلك البواخر بعد ذلك رغم أنها تحولت الى مادة ثرية للدعاية ضد الانجليز بين الذين لا يعرفون الحقيقة جيداً، فقد شاع بين هؤلاء ان الأسطول البريطاني أصبح في خبر كان'·
إنذار رئيس الدليم
في الوقت الذي انتشرت فيه الثورة بين عشائر الفلوجة كانت هناك عشائر ثائرة أخرى قد انحدرت من الفرات الأعلى ووصلت الى مقربة من هيت، ولقد كان من المحتمل التقاء هاتين المجموعتين من العشائر في الرمادي، وسقوط تلك البلدة في أيدي الثوار، ولكن الذي وقف حائلاً دون ذلك هو الشيخ علي السليمان رئيس الدليم الذي يروي أنه كتب الى ضاري بما معناه: 'اني وعشائري لا أشترك معك في الثورة على الانجليز مطلقاً مهما كلفني الأمر، واني أنذرك لمدة أربع وعشرين ساعة أن تخرج من الدليم وتسحب عشائرك، وإن كنت تريد أن تحارب الإنجليز فيمكنك أن تذهب الى بغداد وتحاربهم هناك، وإلا فأنا أنازلك الحرب وأكون خصمك بعد انتهاء مدة الإنذار هذه'، فاضطر ضاري تجاه هذا الإنذار أن يعود الى أراضيه في خان النقط·
أعد الجنرال هالدين رتلاً ضخماً لفتح الطريق بين بغداد والفلوجة بقيادة الجنرال ساندرز، وقد تحرك الرتل من بغداد في 3 أيلول / سبتمبر ،1920 ليواجه في طريقه مقاومة متصلة من العشائر، غير أن العشائر لم تكن لتصمد أمام قصف المدافع· وقد وصل الى خان النقطة في 20 أيلول / سبتمبر· وفي اليوم التالي هدمت قلعة ضاري وسويت مع الأرض، ثم قطع الماء عن أراضيه، ثم واصل الرتل زحفه حتى وصل الى الفلوجة في 24 منه·
أدرك ضاري أن ليس في مقدوره محاربة جيش منظم لديه المدافع والطائرات فجمع أتباعه وقال لهم: 'إن هذا هو أمر من الله الذي أراده، وهو مقدر محتوم علينا، وإني أوصيكم أن تكونوا رجالاً صابرين على البلوى وعلى ما يصيبكم، واتفقوا ولا تتفرقوا'·
أرسل ضاري ولده خميس مع القسم الأكبر من عشيرته الى نواحي نصيبين داخل الحدود التركية، أما هو فتوجه مع الباقين من رجاله الى جبهة الوند التي كانت بعض عشائر الفرات تقاتل فيها· ومن الطرائف التي تروى في هذا الشأن ان ضاري عندما كان جالساً في خيمة محسن أبو طبيخ مع بعض قادة الثورة دخل عليهم مرزوق العواد وقال انه أقسم يميناً بالطلاق أن يقبِّل اليد التي قتلت ليجمن، ثم طلب من ضاري مد يده لتقبيلها، ولكن ضاري رفض مد يده فقال مرزوق: 'إذن فامرأتي طالق وهي أم لأطفال وسيكون الحاضرون شهوداً على هذا الطلاق'· عند هذا وجد ضاري نفسه مضطراً الى مد يده·
غادر ضاري جبهة الوند الى كربلاء حيث حضر تنصيب محسن أبوطبيخ لمتصرفية كربلاء في 6 تشرين الأول / أكتوبر ،1920 لكنه لم يبق هناك طويلاً وغادر مع آخرين عندما اقتربت القوات الانجليزية من المدينة، وتوجه الى النجف، ومنها خارج الى البادية وصار يتنقل بين القبائل حتى وصل به المطاف أخيراً الى نصيبين حيث التحق بعشيرته، وظل هناك حتى عام 1927 عندما ألقي القبض عليه في أحد أيام النصف الأول من رمضان·
'أورينت برس'
(يتبع)
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2025©
نحن نستخدم "ملفات تعريف الارتباط" لنمنحك افضل تجربة مستخدم ممكنة. "انقر هنا" لمعرفة المزيد حول كيفية استخدامها
قبول رفض