القاهرة ـ حلمي النمنم:
في العاشر من رمضان من العام 1123 هجرية، أكتوبر 1711 ميلادية، جاء رجل رومي إلى القاهرة، وجلس 'صفطا' أي واعظا بجامع المؤيد، وما زال هذا الجامع قائماً إلى اليوم بالقرب من باب زويلة، وأخذ يعظ الناس بكلام أعجبهم، فازداد الإقبال عليه، وكان معظم جمهوره من الأتراك، واستمر على هذه الحال عدة أيام، لكنه لم يتوقف عند الوعظ وشرح مفاهيم الدين، فقد انتقل لينتقد ما يقوم به أهل مصر من زيارة الأضرحة وتعظيم المقامات، فضلاً عن تقديم النذور إلى الأولياء وإيقاد الشموع على قبورهم وتقبيل الأعتاب، واعتبر ذلك 'تعز يجب على الناس تركه' وطالب ولاة الأمر أن يتدخلوا لمنع ذلك، باعتباره منكرا يجب تغييره، وهاجم الإمام الشعراني الذي قال في طبقاته إن بعض الأولياء اطلع على اللوح المحفوظ، ولا يجوز ذلك، لأن الأنبياء بمن فيهم نبي الإسلام لم يطلعوا على اللوح المحفوظ، فما بالنا بالأولياء؟ وطالب أيضا بهدم القباب التي تبنى على الأضرحة والتكايا، ودعا ولاة الأمر إلى القيام بذلك، ولم ينتظر جمهوره أو حزبه - حسب قول الجبرتي- ولاة الأمر القيام بذلك، بل سارعوا هم إلى تنفيذه، فقد خرجوا بعد صلاة التراويح وحملوا النبابيت والسلاح إلى المنكر الذي يجاورهم وحدثهم عنه وهو وقوف الفقراء بالشموع على باب زويلة ليالي رمضان، وانهالوا عليهم ضرباً وطردوهم، وزاد أحد الأتراك، فبال في طاقة موجودة بالباب!!
ليس عند باب زويلة مقام ولا ضريح، ولكن هناك شيء لم يدركه ذلك الواعظ ولا جمهوره، فعنده أعدم شنقا آخر سلاطين مصر طومان باي وبإعدامه فقدت مصر استقلالها وتحولت إلى ولاية تابعة للدولة العثمانية وبالمعنى المعاصر صارت مصر بلداً محتلاً، حتى لو كان المحتل مسلماً، وكان المصريون يحبون طومان باي، فهو عندهم السلطان العادل، محب الفقراء والذي ظل مدافعاً ومقاوماً حتى قبض عليه، وعرض عليه الإرهابي الأكبر سليم الأول أن يكون حاكماً لمصر، لكن باسمه هو، فرفض ولقي مصيره مرفوع الرأس، ومن يومها صار لهذا الباب معنى خاص لدى المصريين هرب الناس أمام النبابيت والسلاح، وصاح حزب الواعظ بهم أين الأولياء
وهكذا بدأت الحرب، ففي اليوم التالي مباشرة، ذهب بعض هؤلاء الذين كانوا يقفون عند باب زويلة ويقيمون الأذكار إلى علماء الأزهر، وأطلعوهم على ما قاله الواعظ الرومي بشأن الأولياء والأضرحة، وطلبوا منهم فتوى بهذا الأمر، فأجابهم الشيخ أحمد النفراوي من المالكية، والسيد علي من الحنفية، والشيخ أحمد الخليفي، والشيخ عبده الدوي من الشافعية، وقالوا إن كرامات الأولياء حق وأنها جائزة في حال حياة الولي وبعد الممات، وأن الاطلاع على اللوح المحفوظ حق، ومن أنكر ذلك فإنه 'معتزلي'·
أما إنكار الواعظ أن النبي 'صلى الله عليه وسلم' لم يطلع على اللوح المحفوظ، فذلك في نظر العلماء 'كلام لا يجوز التكلم به، وأن قائله يجب على الحاكم زجره بل وقتله'، وكما يروي صاحب التاريخ العيني أحمد شلبي بن عبدالغني المصري، أن بعض الناس انتظروا في جامع المؤيد يرقبون وصول الواعظ، وما أن جلس على الكرسي حتى دفعوا إليه بالفتوى محررة وموقع عليها من العلماء، وهنا أصابه الغيظ، ولم يستطع أن يكتم مشاعره، وصاح في جمهوره: أيها الناس، إن علماءكم، أولاد العرب، أفتوا، بخلاف ما ذكرته لكم، بجواز قتلي، وإني أريد المباحثة معهم، في مجلس شيخ الإسلام، فهل منكم من يساعدني على ذلك، ويقوم معي لنصرة الحق وتأييده، وإخماد شوكة هؤلاء 'الكفرة الزنادقة، الذين أفتوا بالباطل'
غضب له أعوانه، وهتفوا به: اذهب بنا أي محل أردت، ونحن معك في كل ما تريد، نزل من كرسي الوعظ وخرج من الجامع ومعه نحو الألف من مؤيديه، وكان معظمهم كما يقول أحمد شلبي' من جنس الأتراك الذين لا يفرقون بين ميم ونون، إذا وضعت، وسار بهم من الجامع إلى بيت القاضي، كان ذلك يوم الاثنين التاسع عشر من رمضان، وكان الوقت قرب العصر، فلما رأى القاضي، هذه الجموع كلها، انزعج منهم، وسألهم مطلبهم، وأجابوه بأن عليه أن يستدعي العلماء الذين وقعوا على الفتوى، وعرضوا نصها عليه، فطلب هو إليهم أن يصرفوا الجمهور وبعد ذلك يستدعي العلماء ويستمع إلى دعوى الغاضبين من فتواهم، لكنهم لم ينصتوا إليه وسألوه الرأي، رأيه هو، في تلك الفتوى، فأجابهم بأنها باطلة فطلبوا منه أن يقدم لهم حجته على بطلان الفتوى، فاعتذر بأن الوقت قد ضاق وأن الشهود، أي الكتبة قد انصرفوا إلى بيوتهم، وطلب أن يصبروا إلى الغد، فخرج 'ترجمان القاضي' ليعرض على الجمهور قول قاضيه، فلم يستمعوا إليه، بل انقضوا عليه وضربوه ضرباً مبرحاً، أما القاضي فقد دخل إلى الحريم، حتى لا يتمكنوا منه، وهرب كل من كان بالمحكمة، واضطر نائب القاضي أن يكتب لهم حجة -أي وثيقة- بما يطلبونه وهو بطلان فتوى العلماء وصحة رأي الواعظ!!
أرسل الباشا إلى قادة العسكر في مصر، وأحاطهم علما بكل شيء،واجتمع الاغوات والصناجق في بيت الدفتردار وتقرر طرد ذلك 'السقط' من جامع المؤيد وغيره من الوعاظ، وكلف الأغا بأن يدخل الجامع وينفذ ذلك فوراً، وفي اليوم التالي ذهب الجاويشية إلى الجامع فلم يجدوا أحداً منهم، فأخذوا يفتشون الجامع وكل من وجوده من المتعصبين لذلك الواعظ أرسلوه إلى الأغا في منطقة السكينة، حيث يضرب، وتم نفي بعضهم خارج منطقته، وهكذا 'سكنت الفتنة' وعاد الهدوء وكتب شاعر معاصر هو الشيخ حسين حجازي قصيدة مطولة في تلك الواقعة جاء فيها: 'والواعظ قد فر وقيل قُتل وعليه الخزي قد استربض'·