الإسكندرية ـ آمال حسين:
الفتوحات العسكرية التى زين بها صلاح الدين الأيوبي صفحات التاريخ ألهمت العديد من الثوار، وأشعلت الحماس لدى الكثير من الحركات التحررية ضد الاستعمار فى الوطن العربي، وطبعت لدى أجيال عدة بصمتها كدليل على اقتران المجد السياسى بالورع الدينى·· فقد أجمع الباحثون على أن القائد صلاح الدين كان زاهداً لله، مترفعاً عن السلطة، واستدل هؤلاء بمواقفه التى اختلط فيها الدين بالسياسة، لكن باحثاً واحداً هو الذي نبش أكثر من غيره في الوثائق التاريخية والمخطوطات، ليقدم لنا صورة أدق عن الجانب الديني فى شخصية صلاح الدين، ذلك الجانب الذي اعتقدنا لمئات الأعوام أنه لم يزد عن أداء الفروض والاسترشاد فى الأفعال بالقرآن والسنة، فيما الحقيقة ـ كما يؤكدها بحث جرئ لخبير المخطوطات المصري الدكتور يوسف زيدان ـ هي أن صلاح الدين الأيوبي بلغ من التدين حد التصوف، وأن له قصة مثيرة مع الصوفية، جرت فصولها فى الإسكندرية، التى كانت فى منتصف القرن السادس الميلادي قد خلعت ثوبها اليوناني، وارتدت ـ على يد الفاتح عمرو بن العاص ـ عباءة الإسلام···
ولأن الإسكندرية ارتبطت منذ مولدها بثقافات أصيلة ومتجذرة فى الحضارة البشرية، لم يكن سهلاً على المد العربي الإسلامي أن يجرفها معه إلى ثفافة جديدة ذات عناصر جوهرية مختلفة، واعتبر بلوغ المسلمين بوابة المدينة ـ بعد جهد فائق ـ فى العام الهجري الثانى والعشرين أهم حلقات التوسع الإسلامي فى تلك المرحلة المبكرة من تأسيس الدولة الإسلامية، يقول الدكتور يوسف زيدان إن المزيج الثقافي المتماسك الذى تميزت به الإسكندرية حينئذ، جعل منها أكثر مدينة استعصت أمام الفاتحين المسلمين، حيث لم تكن الإسكندرية مندمجة فى الحالة المصرية العامة، بل كانت أقرب إلى الروح اليونانية، وكان أهل اليونان يطلقون عليها: الإسكندرية المتاخمة لمصر!
من العشق إلى الجهاد!
تردد الأذان بالتوحيد في فضاء الإسكندرية اليونانية لأول مرة ـ بعد الحقبة البطلمية الطويلة التي شهدت تشييد مكتبتها الشهيرة، وتغذيتها بأربعمائة ألف كتاب مخطوط، ثم الحقبة المسيحية التي شهدت تخريب وحرق المكتبة على أثر تعصب بعض الأساقفة ـ واحتلت الثقافة الإسلامية موقع الصدارة في بستان الثقافات السكندرية، لتغازل فلاسفة الإسلام فى كل حدب وصوب، مثلما كانت من قبل تغازل فلاسفة اليونان والرومان، لكنها لم تعد مدينة العشق والهوى كما صورتها ملحمتا (هوميروس) و(الإلياذة)، وإنما صارت مدينة الرباط والجهاد الديني، حتى يقول عنها الواقدي: خير سواحلكم رباطاً الإسكندرية! ويترك ابن هرمز من أجلها المدينة المنورة، ويرابط بها حتى وفاته فى العام الهجري 117!
وفي الحقبة الفاطمية كانت الإسكندرية قد شملت بسحرها الغامض معظم أئمة الفكر الإسلامي، ووجد بعضهم في نسيمها ودفء شواطئها مناخاً نموذجياً للتأمل والتعبد والدراسة، وكان منهم الطرطوشي صاحب كتاب سراج الملوك، وابن الخطاب الرازي، وأبو طاهر السلفى الذي اشتهر برواية وتفسير الأحاديث النبوية، وطبقاً للدكتور زيدان كان مجلس الحافظ أبي طاهر السلفي هو الذي جذب صلاح الدين الأيوبي إلى الإسكندرية في شبابه، وجعلها معسكره الرمضاني كل عام، يأتي إليها خصيصاً لتعلم الحديث النبوي، وظلت الإسكندرية تتمتع لدى صلاح الدين بمكانة خاصة، حتى عندما طرح مشروعه فيما بعد لتحويل مصر إلى دولة سنية تلقى الدعم والمساندة من علماء السنة في الإسكندرية··
معقل الصوفية!
نشر هؤلاء العلماء في الإسكندرية عطر الصوفية، ليتنفسه المقيمون والوافدون، وعندما قبض الأيوبيون على السلطة كانت الإسكندرية قد صارت حلماً لكل راغب في ترويض النفس والانقطاع بالدين عن الدنيا، ولم يجد الشاعر الصوفي ابن الفارض غيرها ليفر إليه من بطش الملك الكامل، ويختبئ في منارة الإسكندرية ـ إحدى عجائب الدنيا السبع ـ فيواصل فيها التعبد والتضرع إلى الله، وبمضى الوقت تتحول المنارة إلى معقل للصوفية، وتشتهر الإسكندرية ـ كما يقول المقريزي ـ بجماعات الصوفية، الزاهدة في الدنيا، والمتمردة على السلطان·· وكان من أشهر الطرق الصوفية التي اتبعتها تلك الجماعات الطريقة الشاذلية ـ المنسوبة إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي ـ وقد ظل يمتد نطاق هذه الطريقة من الإسكندرية إلى بقية ربوع مصر، حتى بلغت أفرعها الآن نحو 90 فرعاً!
وقد لا يعرف الكثيرون عن الشيخ الشاذلي دوره في الجهاد مع صلاح الدين الأيوبي ضد الصليبيين، فقد شارك في موقعة المنصورة التي جرى فيها أسر لويس التاسع، وكان الشاذلي في ذلك الوقت خطيباً لمسجد العطارين بالإسكندرية وبعض المساجد فى القاهرة، وكان المرسي أبو العباس قد تتلمذ على يديه في تونس عام 640 هجري، ورحل معه إلى مصر بعد عامين، ولا يستبعد أن يكون قد لحق به في المعركة إلى جانب صلاح الدين، وفى العام الهجري 656 اعتزم الشاذلي أداء فريضة الحج، لكن المنية وافته ببلدة حميثرة في صحراء عيذاب جنوبي شرق مصر، فيما كان يتجه للعبور إلى الحجاز عن طريق البحر الأحمر، وقد دفن هناك، وتحول قبره إلى مزار للناسكين حتى اليوم·· أما المرسي أبو العباس فقد خلفه في مشيخة الطريقة الشاذلية لفترة 44 عاماً حتى مماته، ومن بعده تولى المشيخة حكيم الصوفية ابن عطاء الله السكندري أول مؤلف شاذلي، ترك للمكتبة الإسلامية: التنوير في إسقاط التدبير، تاج العروس، لطائف المنن في مناقب الشيخ أبي العباس المرسي وشيخه أبي الحسن الشاذلي، وغيرها···
الفاتحة لأبي العباس!
ولمسجد المرسي أبو العباس ـ أبرز علامات الإسكندرية في الوقت الحاضر ـ قصة ليست بشهرته، وأبو العباس هو شهاب الدين أحمد بن عمر بن علي الخزرجي البلنسي، عرف بين الناس بكنيته 'أبو العباس'، وبلقب 'المرسى' نسبة إلى مرسيه، البلدة التي ولد فيها عام 616 هجري، قبل أن يلتقي شيخه أبا الحسن الشاذلي في تونس·
يقول الدكتور يوسف زيدان أن أبا العباس استقر مع شيخه الشاذلي في منطقة كوم الدِّكة ـ وهي حي شعبي قديم لا يزال قائماً في الإسكندرية حتى اليوم ـ وعندما بلغ الأربعين من عمره كان قد تقلد مشيخة الطريقة الشاذلية، واستطاع بنجاح أن يعرّف بها في كل مكان، فتألق نجمهما، وتضاعفت شهرتهما، وقد نال ذلك الجهد من صحته، حتى لقي ربه، ودفن في جبانة الأولياء المطلة على شاطئ رأس التين، وبعد ستة أعوام من وفاته أقيم على قبره بناء لتمييزه، وهكذا تحول إلى مزار يقصده العامة لقراءة الفاتحة على روحه، ثم جعله زين الدين القطان مسجداً صغيراً، أعيدت توسعته عام 1189 هجري، وفى العام 1362 هجري الموافق عام 1943 ميلادي اتخذ مسجد المرسي أبى العباس هيئته الحالية ليصبح أكبر مساجد الإسكندرية، حيث قام بتطويره وزخرفته المهندس الإيطالى الشهير ماريو روسي، الذي ما أن انتهى من عمله فيه حتى سارع بإشهار إسلامه، ثم مات في الحجاز، ولا تزال عائلته تعيش في مصر·
مكتبة أبي العباس فى خطر!
اعتقدت وزارة الأوقاف في مصر قبل عدة عقود أنها تحمي المخطوطات التاريخية المبعثرة فى مساجد الإسكندرية، عندما جمعتها في مكتبة ملحقة بمسجد المرسي أبي العباس، أطلقت عليها اسم (مكتبة التراث الإسلامى)، ولم تكن المشكلة في هذا الإجراء هو عشوائية تنفيذه، إذ لم تتبع هذه الخطوة فهرسة وتصنيف المخطوطات، ولا حفظها وتسجيلها، وهي العمليات التقنية الجوهرية التي ينبغي الالتزام بها في أقل المكتبات حظاً، وعلى أية حال فقد قام الدكتور يوسف زيدان بهذا الجهد متطوعاً، لكن المشكلة الحقيقية هي أن إطلالة المسجد على شاطئ البحر مباشرة، يهدد المخطوطات المحفوظة في المكتبة بالتلف نتيجة نسبة الرطوبة المرتفعة، وينذر بفقدان المجموعة الخطية منها، والأمر يستحق من وزير الثقافة فاروق حسني مشروعاً لحماية هذا الكنز التاريخي قبل فوات الأوان!