دمشق ـ عمّار أبو عابد:
في الطريق الوعر إلى الجبال، حيث أرهقهما التعب والعطش، يلتقي 'الوبش' بفارسين مسلحين يقودان موكباً غامضاً لامرأة تمتطي حماراً، وقد أسدل عليها بالكامل نقاباً أسود، ومن جيبيّ الخرج الذي تجلس فوقه، يطل طفلان صغيران توأمان برأسيهما، ونعلم فيما بعد أن هذين الفارسين هما أخوا المرأة، وقد قاما بخطفها عنوة من بيت زوجها الذي قتل لأنه كان يعمل لصالح الفرنسيين·
ورافقهما الوبش إلى المرعى لتفقد قطيع الماعز، في طريقهما إلى 'قصر البنات' الذي يعيشون فيه: وهو عبارة عن بقايا قصر أثري مهجور في العراء، تحول مع الزمن، إلى ملجأ للمتمردين والصعاليك وقطاع الطرق والرعاة، وهناك يتعرف على 'أبو طلال' الأخ الأكبر للفارسين، وهو رجل كهل غامض، يتكئ على عكازين، ويبدو أنه أصيب في فخذه بطلق ناري فبترت ساقه، وهو مطارد لسبب ما من قبل الفرنسيين، ولذلك يحل الوبش ضيفاً عزيزاً عليه، ويصبح فرداً من هذه الأسرة عندما يدرك أبو طلال بفراسته أنه مطارد أيضاً·
ويجد 'الوبش' ضالته في هذا المكان المناسب جداً لتحقيق غايته الوحيدة التي سيعيش من أجلها، ويبدأ بإعداد ابنته 'جمال' كي تنفذ هذه المهمة الذكورية، فيضطر إلى تربيتها تربية خشنة ويعلمها الفروسية وفنون القتال، ويحاول جاهداً أن يمحوا أنوثتها: فيمنعها من اللعب ورؤية الصبيان، ويحلق شعرها كالفتيان، ويحطم المرايا عندما يراها تتبرج بالرماد وتنظر إلى نفسها في صفحة صحن صقيل، وعندما تبلغ الطفلة مبلغ النساء يهيء لها كل الظروف المناسبة للبدء بتنفيذ عملياتها المدروسة في أم الكحل، ضد الآغا وأعوانه·
حكاية مرحلة ومجتمع
هذا ملمح من حكاية 'قرن الماعز' الذي تقوم من خلاله الفتاة 'جمال' بتنفيذ خطط والدها للانتقام من الآغا المستبد ورجاله، وجنود الاستعمار الفرنسي الذين يمارسون الظلم والاظهاد على الفلاحين، مستخدمة بذلك 'قرن الماعز' المسنون كأداة لقتل الجناة!
لكن الفتاة جمال ليست إلا جزءاً من حكاية كبيرة تشمل أهل القرية والظلم الفادح الذي يلقونه من 'الأغا' ورجاله المتجبرين، وتلك المعاناة القاسية الناجمة عن قسوة الدرك وجنون المستعمر الفرنسي، والذين يدعمون الآغا، وهكذا يصبح الفقر والجوع والظلم والاضطهاد سمة عامة لأهل القرية، الذين لا يريدون إلا حياة كريمة توفر لهم لقمة العيش بكرامة وحرية، ولكن ذلك يبدو مستحيلاً في ظل إرادات الآخرين الطامعين بخيرات القرية والمسيطرين عليها، وأؤلئك القادمين من وراء الحدود ليحققوا مصالحهم في بلاد الآخرين·
وفي هذا العمل الذي كتبه المسرحي غسان الجباعي 'بانوراما' شاملة لحياة المجتمع السوري في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، أي قبل استقلال سوريا ورحيل قوات المستعمر عنها، وهو يتضمن محاور عديدة من حياة الناس، ومعاناتهم مع الفقر والظلم والاستبداد من القوى المحلية المتنفذة، والقوة الأكبر التي تبسط سيطرتها الكاملة على المجتمع والبلاد متمثلة بقوات المستعمر الفرنسي، لذا نجد المضطهدين والهاربين والخارجين على القانون يلتقون جنباً إلى جنب في مواجهة هذه القوى، ونعيش فصولاً وقصص حب محبطة، ومن تشرد وآلام وعذابات مريرة، ذلك أن العمل يضم في محاوره مجموعة من الناس في القرية، ولكل أسرة منهم حكايتها مع الظلم والفقر والتمرد·
إثارة وعمق
كان غسان الجباعي بارعاً في عرض مشهدية الدراما الاجتماعية السياسية التي كتبها، فهي تتضمن الإثارة والتشويق، وتطرح ما يريد الكاتب قوله بأسلوب يجمع ما بين الحبكة البوليسية والعرض الاجتماعي لحياة الناس، دون أن تخلو من سخرية مريرة! فالفتاة 'جمال' أصبحت قاتلاً مجهولاً، وهذا القاتل يتحول إلى أسطورة يتردد اسمه على كل شفة ولسان، ويبث الرعب في قلوب رجال الدرك وجنود المستعمر، وفي قلب الآغا وأعوانه بشكل خاص، والذين أطلقوا جميعاً على 'القاتل المجهول' اسم 'قرن الماعز'، وراحوا ينسجون الأساطير حول قوته وشجاعته وقدراته الخارقة، لكن هذه الأسطورة تتحول في نهاية العمل إلى متسولة عجوز في إحدى حدائق دمشق، وهو ما يعكس جو السخرية السوداء التي تعمدها الكاتب، وربما امتاز بها، لا سيما أن كل أبطال العمل الإيجابيين ينتهون إلى الإخفاق والفشل، مما يطرح سؤالاً كبيراً: لماذا؟ ولعل هذا السؤال هو ما يفسر أسلوب الجباعي في عرض عمله الدرامي·
قصتان
يبدأ العمل بقصة معاصرة! إذ أنه إثر فشل مؤلم في علاقة عاطفية، وخلاف عائلي حاد مع أمه الأرملة، التي تريده أن يتزوج ابنة أخيها، ويستقر في القرية مثل أخيه محمد، وبسبب طبيعته المتمردة الطموحة، يقرر مازن سرا مغادرة أسرته الفقيرة التي تعيش حياة وادعة رتيبة في قرية جبلية، ويتجه إلى دمشق، ليدرس في جامعتها متحدياً ظروف الغربة وقسوة الحياة المعاشية والنفسية وسطوة الذكريات والحنين الغامض الذي يواجه أي إنسان بعيد عن مسقط رأسه، وخاصة إذا كان مثل مازن الشاب القروي الرومانسي الحساس المفعم بالعشق، والذي يكتب الشعر ويملك روحاً خلاقة قلقة، ويحلم أن يصبح مخرجاً سينمائياً·
في المدينة يعمل مازن مصوراً، ويضطر لجلي الصحون ليلاً في أحد المطاعم! ويتابع دراسته الجامعية، ويعجب بزميلة ثرية، كما يتعرف إلى عجوز متسولة في السبعين من عمرها، فيتعاطف معها، ويحبها لأنها تشبه أمه، ثم عندما يكلف مع زميلته الثرية بإعداد حلقة بحث، يختار أن تكون هذه العجوز محور الحلقة، وهكذا نعيش القصتين معاً! قصة مازن المعاصرة ومغامرته في الحياة والدراسة والحب، وقصة العجوز التي لم تكن إلا الفتاة 'جمال'!
وبأسلوب سينمائي نعيش الماضي من ذاكرة العجوز جمال، وقصة الحاضر من خلال حياة جمال ومعاناتها· وهي ليست أقل إيلاماً من الدراما المؤلمة التي عاشتها العجوز، فالعلاقة الحميمة التي تنشأ بالتدريج بينه وبين زميلته الثرية، تنتهي بالفشل، بسبب الفوارق الاجتماعية ومصير مازن المجهول·
ومن خلال هذا التوازي والتماهي بين قصة الماضي وصورة الحاضر، ربما أراد الكاتب أن يقول لنا: إن قصة الظلم لم تنته رغم تغير الظروف والزمن، فقد تغيرت الأساليب، وبقي الظلم واحداً لا يتغير!
أبطال العمل
يقع مسلسل 'قرن الماعز' في أربع وعشرين حلقة ويخرجه طلال محمود، وهو من إنتاج الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، ويشارك فيه نخبة من الفنانين في مقدمتهم الفنانة القديرة سمر سامي، التي تقوم بدور العجوز 'جمال' وتيسير إدريس وطلحت حمدي وعبد الرحمن أبو القاسم ونسرين طافش وقمر خلف وهناء نصور وعزة البحرة ومريم علي وفدوى سليمان وقيس الشيخ نجيب وغيرهم·
الفنان المخضرم تيسير إدريس يقوم ببطولة العمل الذكورية فيجسد شخصية 'الوبش' الذي هو لقب بطل القصة، فهو والد العجوز السبعينية التي تشردت في الحدائق وعاشت كل عذاباتها في القرية، وكانت الفارس المجهول الذي أرعب الآخرين·
ويقول الفنان إدريس: إن 'الوبش' يحمل معاناة وألماً، يبقيانه متشرداً لنهاية حياته، وهو حين يتيقن من أنه لن يستطيع الانتقام من أعدائه المستبدين، يسخّر ابنته لهذا الهدف، ويربيها انطلاقاً من هذه المهمة التي رسمها لها·
أما الفنانة هناء نصور، فتقوم بدور نايفة الفتاة الريفية البسيطة التي عانت القهر وحرمت من أولادها الصغار، بعد أن تركها زوجها، لكنها تتابع الحياة بإصرار وترعى والديها، وعندما يعود ابن عمها 'الوبش' إلى القرية مطارداً ومتخفياً، تقوم بمساعدته، وتندب نفسها لرعاية ابنته، بعد وفاة زوجته، وتصبح مكمن سره·
وتتحدث هناء عن دورها فتقول: لقد أحببت النص منذ القراءة الأولى، وما يميز هذا العمل هو تلك الحبكة الرائعة، والأسلوب القريب إلى قلب المشاهد، إذ إننا كعرب نميل إلى الحكايات، وهذا المسلسل هو حكاية مفعمة بتفاصيل الألم الإنساني، ترويها سيدة مسنة، وقد برعت الفنانة سمر سامي في أدائها لهذا الدور·
ويعلق الفنان قيس الشيخ نجيب على دوره في العمل فيقول: أجسد شخصية 'مازن' الشاب الجامعي الفقير القادم من القرية ليتعلم، وهو طموح وموهوب، لكن ظروفه المادية، لا تسمح له، بأن يحقق حلمه في دراسة الإخراج السينمائي، لذا يعمل في مطعم، ويغسل الصحون، كي يؤمن معاشه وقوت يومه، وعندما يكلف بحلقة بحث جامعية، يختار العجوز المتسولة التي أحبها وتعاطف معها، لتروي قصة الحياة والعذاب التي عاشتها·
ويضيف قيس: إن شخصية مازن استفزته كممثل، ولأول مرة يؤدي هذه الشخصية النبيلة والتي تسعى نحو الأفضل، لا سيما أن مازن يحب وطنه، ويريده أن يكون الأفضل، لذا فهو ينتقد كل ما هو سلبي·
تقوم الفنانة 'عزة البحرة' بأداء شخصية 'أم وردة'، وهي امرأة محبة وقوية، ولديها ابنة بكماء تؤدي دورها الفنانة 'فدوى سليمان'، وزوج أم وردة يعمل لدى الإقطاعي 'الآغا' ويضرب الفلاحين بسوطه، وهو من الشر إلى درجة أنه ضرب ابنته بالسوط حتى الموت· لذا تظل أم وردة في حالة دفاع عن النفس في مواجهة زوجها الشرير والإقطاعي المستبد، حتى تقتل·
وتعلق عزة على دورها فتقول: العمل جيد، ودوري فيه جميل ومؤثر، لا سيما أنه يرصد العلاقات بين الإقطاعيين المستبدين وبين الفلاحين المضطهدين، ويرسم صورة واقعية لحياتهم، بكل ما فيها من شقاء وبؤس وظلم·
المخرج والتجريبية
المخرج طلال محمود رأى أن نص 'قرن الماعز' شكل مادة جميلة، أغرته فيها هذه التجريبية التي ربطت بين الحاضر والماضي، لتؤكد أن الظلم يتكرر على الأرض، وإن اختلفت وسائله وأساليبه، ويقول طلال: إن الآغا رمز الظلم في الماضي، أصبح في وقتنا الحاضر يرتدي بدلة أوروبية معاصرة، ويتزين بربطة عنق، أما الفلاحون فقد أصبحوا عمالاً وموظفين، وهذه الفكرة استهوتني كثيراً، لذا فقد قاتلت من أجل أن أخرج هذا العمل·
ويتحدث المخرج عن خصوصية هذا النص الذي يطرح صورة معبرة لبيئة محلية، فيقول: إن النص محكم جداً، وهو مكتوب بحرفية عالية، والحوارات ضمنه جميلة، ورغم أنه كتب بوحي من البيئة السورية المحلية الجنوبية، فإنني وجدت بيئتي المحلية فيه أيضاً، وأنا ابن الساحل· ذلك أن الطرح ينطلق من البيئة المحلية ليتحول إلى طرح عام يخص الإنسانية، فمفهوم الظلم موجود في كل مكان، وهويته واحدة في كل زمان·