6 ابريل 2012
نورا محمد (القاهرة) - لم ينغص عليهما صفو حياتهما هو وزوجته إلا تأخر الإنجاب، فقد مرت عشر سنوات ولم يرزقا بطفل ولا يشعر بحالهما إلا من كابده، لكنهما كانا صابرين وأسلما الأمر لله والأطباء أكدوا أنه لا مانع لدى أي منهما ولا يعانيان عوائق أو أمراض.
تدخل أفراد أسرته أحياناً هامسين بأن يتزوج، لكنه لم يعرهم اهتماماً، وليس مستعداً للتفريط في المرأة التي عاشت معه كل هذه الأعوام، ولم ير منها إلا كل خير، ولم تخالفه يوماً أو تغضبه لحظة رغم أن زواجهما كان تقليدياً وارتبطا عن طريق ترشيحات من الأقارب، فقد كان اختياراً موفقاً بكل المقاييس وتفاهما منذ اللقاء الأول للتعارف واكتشفا أن بينهما توافقاً في وجهات النظر والطباع.
لقد تأثرا فعلاً واهتزت حياتهما وأصابها بعض الاضطراب، لكنهما لم يفقدا الأمل يوماً وهو لا يتخيل نفسه مع امرأة أخرى غيرها، وهذا ما كان يهون عليه المعاناة وقطع عهداً ألا يكون عدم الإنجاب سبباً في انفصالهما ولا ابتعادهما، فلم ير من أقاربه أو زملائه أو أصدقائه رجلاً واحداً لم يشتك من زوجته ويتمنى لو تخلص منها بوسيلة أو بأخرى، فكلهم يئنون من عدم التفاهم وغياب الحب في المنازل يتمنون استبدالهن، فكاد يحسد نفسه على أنه في نعمة حرم منها الآخرون وان كان حرمانه من نوع مختلف، فكل واحد لديه مشاكل بخلاف غيره.
هو ابن عائلة معروفة بالثراء ووضعه الاجتماعي ممتاز ودخله من وظيفته كبير ويقيم في شقة فسيحة وزوجته تقاربه في المستوى، لكن لم يجدا متعة في هذا كله بسبب الطفل المنتظر الذي يتمنيانه، الزوجة ملأت المسكن بالدمى والألعاب كنوع من تعويض النقص الذي تشعر به ولا تتحمل النظرات التي قد تكون بالإشفاق أو اللوم والتي توجه إليها مثل السهام كأنها المذنبة وعزاؤها الوحيد هذا الزوج الحنون الذي أصم أذنيه عن أي كلام في هذا الموضوع ويرفع دائماً روحها المعنوية بجملته المعتادة وهل أجد طفلاً أفضل منك أداعبه وأحبه.
بعد كل هذا الصبر وبعد أن كادا يفقدان الأمل لأنه تخطى الخامسة والثلاثين من عمره وزوجته تصغره بعامين جاءت البشرى السارة، فالزوجة حامل بعد أن أسلمت الأمر لله وتوقفت عن اللجوء للأطباء والعلاج حتى الوصفات الشعبية لم تتركها وسجد الزوج شكراً وتعهد الزوجة بالرعاية لأن الأطباء نصحوها بالراحة الكاملة لأنها في عمر حرج بالنسبة للحمل.
جاءت إلى الدنيا طفلة جميلة تفتحت مثل الزهرة وأضاءت البيت وأعادت إليه البسمة المفقودة منذ زمن ولقيت من الأب والأم والأجداد والجدات والأعمام والعمات والأخوال والخالات وأبنائهم كل حب واهتمام، لكن حب الأب والأم اللذين ذاقا الحرمان كانت له أشكال أخرى كثيرة، فهناك غرفة الصغيرة التي كانت مثل الحديقة أو محل متخصص في بيع لعب الأطفال، أما عن الملابس، فحدث ولا حرج فقد لا ترتدي الفستان مرة أو مرتين ولا يأتي عليه الدور مرة أخرى وتكون قد كبرت عليه.
أما اليوم الأول لذهابها إلى المدرسة، فقد شهد احتفالية كبرى فاقت احتفالية مولدها ودموع الأب والأم لم تتوقف رغم أنفهما فرحاً بهذا اليوم المشهود ويوماً بعد يوم لم يفتر الاهتمام بالصغيرة، وكانت مدللة بمعنى الكلمة أحلامها أوامر وطلباتها مجابة مهما كانت ولم تعرف الرفض ولم تسمع كلمة «لا» طوال حياتها حتى لو تصرفت مثل الأولاد، فلا مانع لأنهما يعتبرانها تقوم مقام الولد والبنت ولا فرق بينهما وقد كانت أحياناً تتصرف مثل الذكور وربما تشتري ملابسها مثلهم.
انتقلت الفتاة التي دخلت مرحلة جديدة من حياتها إلى الجامعة، وكانت مختلفة تماماً عمّا سبق في بعض النواحي واستمراراً لتصرفاتها مع المزيد في التدليل والاهتمام والاستجابة لمطالبها وأولها أن تكون لها سيارتها الخاصة التي تقودها بنفسها، ويجب أن يكون لونها أحمر لأنها تحب هذا اللون وتعتبره رمزاً للتفاؤل والإقبال على الحياة والتوهج والأمل، ولم لا وليس هناك أي مانع من الاستجابة لأمرها فهو لم يكن خارجاً عن المألوف، فكثيرات مثلها يذهبن إلى الجامعة بسياراتهن وهذا أفضل من التعامل مع سائقي التاكسي والانتظار والأهم من ذلك أنهما يملكان المال الكافي والزائد على الحاجة وفي النهاية فكل حياتهما مسخرة لها ومن أجلها.
دخلت الفتاة في عداد النساء ولا يجوز أن تستمر تصرفاتها بهذا الشكل في ارتداء الملابس الخليعة والتي لم تعد تناسب تلك الفترة العمرية، فلم تعد طفلة تظهر ذراعيها وترتدي البنطلونات إلى جانب أنها تتحدث كثيراً في الموبايل، وربما لا تتوقف ولا يعرفان مع من تتحدث وهذا يثير الريبة حتى لو كان الحديث مع زميلاتها، فلا يجوز أن يستمر ويتواصل ليل نهار بالساعات، وان كان ذلك يمكن السكوت عنه، فإنه لا يمكن التغاضي عن الإهمال في الدراسة إذ لا تتعامل مع الكتب ولا تهتم بالمحاضرات، وهنا لا يمكن الصمت ولا بد من وقفة لإعادة الأمور إلى نصابها وطبيعتها.
كل ذلك جعل الأب يتدخل ويضع النقاط على الحروف ويوقف المهزلة قبل أن ينفرط العقد ولا يجوز أن تتحول الحرية والتدليل إلى انفلات وتوجه إليها بالنصيحة تلو الأخرى باللين من الكلام وشرح لها الأصول والعادات والتقاليد والالتزام والدين، فالعائلة كلها لا تقبل هذه التصرفات، ولا توجد فيها فتاة واحدة تتصرف بتلك الطريقة، لكن لم تجد النصائح صدى لدى الابنة فكررها مرات ومرات بنوع من الصداقة بينهما لا من باب الأمر والنهي والمواعظ، إلا أنها ظلّت على ما هي عليه ترى أن ما يطلبه الأب ليس منطقياً أحياناً لأنه يحرمها من أن تعيش حياتها وما يناسب سنها، وتود أن تنطلق إلى الحياة كالفراشة تروح وتغدو بين الأزهار وقتما تشاء وكلما تكررت النصيحة تكررت اللامبالاة.
بدأ الأب يضيق ذرعاً بأسلوبها ويتحول في طريقة تعامله لها، فلا يجوز أن تستمر هكذا وتبدو كالمسترجلة، وأحياناً تتأخر خارج المنزل وهو يثق بأخلاقها إلا أن هذا لا يصح أصلاً، أما الأم فقد كانت على الحياد ليس لأنها تقبل تصرفات ابنتها وإنما لأنها لا تريد أن تكون القسوة من كليهما وحتى لا يؤدي ذلك إلى مزيد من العناد منها، وتدرك أيضاً أن كلامها ليس مسموعاً، فقد أفسدت المعاملة الطيبة الزائدة على الحد والتدليل الفتاة، وتخشى الأم كذلك أن تفقد ما تبقى من علاقة بينها وبين صغيرتها التي رزقت بها بعد طول صبر وعناء وانتظار.
رغم ذلك اعتبرت الفتاة أن النصائح قيوداً حديدية تحد من انطلاقها وحريتها فرفضت التحذيرات والتوجيهات لأنها لم تعتد على تلقي التعليمات من قبل، فكيف تتقبل تلك القائمة من الممنوعات والمحظورات التي ظهرت في حياتها فجأة فكثير من صديقاتها يفعلن مثلها تماماً ولا تواجههن مشكلات أو أوامر مثل ما تواجه ولا يعانين ما تعاني في الفترة الأخيرة التي تغير فيها الأب والأم، وترى أنهما انقلبا عليها ويقفان ضد سعادتها. وعندما تشكو لصديقات وعضوات «الشلَّة» يستنكرن تدخلات الأب.
أخذت الفتاة وحيدة أبيها وأمها رأي صديقاتها على محمل الجد وعلى أساس أنها نصائح مخلصة لأنها تتماشى مع رغباتها وقررت أن تلقن الأب والأم درساً عملياً وقاسياً تثبت من خلاله أن لها شخصيتها المستقلة ومن حقها اتخاذ القرارات التي تخصها بنفسها من دون تدخل وأنها ليست بحاجة لاستشارة أحد، اختفت من المنزل لا يعرف أحد أين ذهبت بعد أن فكرت وقدرت ودبرت من رأسها بشكل حاسم فلا يحق لأحد أن يتدخل فيما يعنيها حتى لو كان المتدخل أباها رأت أنها لا بد أن توقفه عند حده لأنه تغير ويجب أن يعود إلى ما كان عليه وتجبره فيما بعد على عدم المساس بحرياتها واختياراتها وتصرفاتها.
خرجت ولم تعد وأغلقت هاتفها المحمول وصديقاتها لا يعرفن عنها شيئاً، بحث الأب والأم والأسرة عنها في كل مكان يمكن أن تصل إليه والدموع سيدة الموقف والليالي تمر ثقيلة بلا نوم وخيم الحزن على البيت والكل ينتظر بارقة أمل أو نقطة ضوء في النفق المظلم الطويل عشرون يوماً مضت ببطء وملل حتى جاءت اللحظة الأكثر مرارة كان وقعها كالصاعقة على الأذان والرؤوس، وتلقى الأب رسالة قصيرة على الموبايل من ابنته كتبتها باللغة الأجنبية التي تدرسها كانت كلماتها القصيرة مثل طلقات الرصاص تصيبه في كل أجزاء جسده تقول: «إنها تزوجت صديقها».
انطلق الأب إلى العنوان الذي ذيلت به الرسالة ووجدها في غرفة ضيقة والزيجة عرفية بورقة لا قيمة لها وطأطأت رأسها لأول مرة أمامه اعترافاً بالخطأ لأنها سقطت في مستنقع التهور وإلغاء العقل وظنت أنها كانت تفعل الصواب إلا أنها فوجئت بشاب زميلها ادعى أنه يحبها، بينما في الحقيقة أنه كان يبتزها ويسعى وراء أموالها وظهرت حقيقته الآن عندما طالبته بتوثيق الزواج وإعلانه وتبين معدنه عندما طالبه أبوها بتطليقها بالمعروف فرفض وطلب مبلغاً كبيراً من أجل أن يخلصها من براثنه مستغلاً الموقف فهو يرى أن الأب والابنة في لحظة ضعف وهدد بأن يعلن الأمر كله ويسبب لهم فضيحة.
انتهت التجربة المرة بجرح غائر في نفس الصغيرة، لكنها تعلمت الدرس الذي كان غاية في القسوة بعد فوات الأوان والأب والأم يشعران بالذنب لأنهما يتحملان المسؤولية عمَّا حدث من البداية نتيجة تدليلها الزائد وان التمسا لنفسيهما العذر لأنها جاءت بعد الحرمان الذي كان في الحقيقة أخف وأهون من نتائج العطاء!!