20 أكتوبر 2009 00:50
ركزت أوراق العمل والمداخلات في أول أيام منتدى الاتحاد الرابع الذي يعقد هذا العام تحت عنوان «الصحافة العربية .. الواقع والطموح» على حال الصحافة المكتوبة ومنافستها الالكترونية، فضلاً عن رصد تأثيرات الأزمة المالية العالمية على الصحافة.
واستهل راشد العريمي رئيس تحرير صحيفة «الاتحاد» فعاليات المنتدى الذي ينظم في فندق قصر الإمارات بأبوظبي قائلاً: «تعلمون جيداً حجم التحديات التي تواجه الصحافة في عالمنا العربي، والتي تمتد من هموم المهنة وطموحاتها ومحددات التميز فيها، خاصة في عالم يموج بالتغيرات السريعة والمتلاحقة». وعبر العريمي عن أمله في أن تسلط فعاليات المنتدى الضوء على مستقبل الصحافة العربية عبر الإجابة على كثير من التساؤلات التي تدور في أذهان خبراء الصحافة وجمهورها.
مرآة المجتمع
وترأس الدكتور عبد المنعم سعيد رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام الجلسة الأولى التي تحمل عنوان «النشر المتخصص وفتح أسواق جديدة»، مهنئاً في بداية الجلسة صحيفة الاتحاد بمرور أربعين عاماً على ولادتها، معتبراً أن هذا الاحتفال «احتفاء بتقدم المعرفة العربية».
ورأى سعيد أن الصحافة العربية كانت خلال العقود الخمسة الماضية بمثابة المرآة لكل ما يجري. وهناك الآن تحد خطير يتمثل في الوحش الرقمي والعالم الافتراضي اللامحدود والذي يفتح آفاق المعرفة لأجيال جديدة ويفتح الباب أمام تواصل غير مسبوق في العالم.
وعرض خلال الجلسة الأولى عدد من أوراق العمل تناولت هموم الصحافة العربية، حيث بين وليد النصف رئيس تحرير القبس الكويتية في ورقة عمل بعنوان «الصحافة ...دروس من الأزمة المالية العالمية»، أثر تلك الأزمة على مهنة الصحافة، مشيراً إلى تسريح 15 ألف صحفي في الولايات المتحدة الأميركية العام 2008، كما أقدمت العديد من المؤسسات الإعلامية على خفض رواتب العاملين لديها.
وأشار النصف إلى أن الصحافة الورقية تتعرض لمنافسة إلكترونية شرسة، وبحسب البيانات المنشورة، فقد زاد عدد قراء الصحف الإلكترونية بنسبة 14% العام 2008 بعدما كان العام 2006 نحو 9%.
وتطرق النصف إلى «المواطن الصحفي»، أي الفرد العادي الذي لا يمتهن الصحافة، وفي الوقت نفسه يمتلك القدرة على تحقيق سبق صحفي مستخدماً التقنيات الحديثة، ضارباً مثلاً بسقوط طائرة الإيرباص 320 الأميركية فوق نهر «هدسون» قبالة مانهاتن بنيويورك يوم 15 يناير 2009، هو الذي يمكن النظر إليه ليس بوصفه خبراً عادياً، بل هو يؤشر لعصر جديد عنوانه «صحافة السرعة» أو «المواطن الصحفي». فأول من التقط صورة الطائرة هو مواطن أميركي عادي يدعى جانيس كروس، هذا المواطن تحول إلى أسرع صحفي في العالم عندما شاهد الطائرة في لحظة السقوط وأمسك بهاتفه النقال ليرسل الصورة إلى الصحيفة وتوزع فيما بعد على المواقع الالكترونية والمدونات.
اتجاهان خليجيان
أشار النصف في ورقته إلى أن معظم الصحف الخليجية ذهبت في اتجاهين، الأول إعادة ترتيب البيت الصحفي من الداخل عبر اتخاذ جملة إجراءات مالية وإدارية هدفت إلى تخفيض النفقات للسيطرة على الوضع والحد من الاستنزاف المالي، والثاني فتح سباق محموم بالمنافسة على تقديم العروض المغرية للقراء عبر برامج تسويق ومسابقات وجوائز لزيادة أعداد القراء والمشتركين وصولاً إلى حصة مناسبة من كعكة الإعلان، تماما كما فعلت مجلة lepoint الفرنسية، والصحف الصادرة باللغة الانجليزية في دولة الإمارات، وعدد من الصحف الكويتية الزميلة، وفي لندن أيضاً هدايا مجانية، تقديم جوائز مغرية، تخفيض الاشتراكات، سحوبات شهرية وإلى ما هنالك من أساليب ووسائل تسويقية تخاطب بلغة مخفية المعلنين ووكالات الإعلان الذين يتشوقون لارتفاع أرقام التوزيع.
تحد قادم من الفضائيات
ورأى النصف أن وجود الأقمار الصناعية والكابلات والفضائيات اختصر المساحات والبحث عن الصحف الورقية، فالقارئ الكويتي بات الآن في مقدوره معرفة أخبار بلده من أي بقعة يتواجد فيها في العالم ومن وسائط قد لا تكون الصحيفة الورقية واحدة منها.
ونقل النصف عن تقارير إعلامية حديثة أن القطاع الإعلامي مستمر بالنمو، ومبيعات الصحف ارتفعت بنسبة 1.3% العام 2008 لتصل إلى 539 مليون نسخة يومياً في العالم، وهذا التحسن لم يسجل في أميركا وأوروبا، بل في باقي القارات.
كذلك يشير ارتفاع أسهم عدد من الشركات المنتجة للصحف، خاصة الاميركية منها غانيت ومكلاتشي ونيويورك تايمز بنسبة 10%، إلى تعافي هذا القطاع من توابع الأزمة الاقتصادية العالمية.
كما لفت النصف إلى أن أسعار النفط في الأسواق العالمية تذهب باتجاه الاستقرار بين الـ 60 والـ70 دولاراً في المتوسط القريب، وهو مؤشر إيجابي لدول المنطقة التي تعتمد على هذه السلعة كمورد رئيس للدخل، بعد أن قفز سعر البرميل في شهر يوليو 2008 إلى 140 دولاراً ليتراجع، ويعيد تصحيح وضعه في الأشهر الأخيرة من عام 2009، ويتراوح بين 66 دولاراً و72 دولاراً. وإن حافظت أسواق الورق على أسعار العام 2009 التي وصلت تقريباً إلى 1100 دولار للطن الواحد، لكنها تشهد تذبذباً وضعفاً بالطلب نتيجة نقص السيولة والتوجه نحو الصحافة الالكترونية.
النشر المتخصص والاقتصاد
في الورقة الثانية، قدم وليد عكاوي المدير التنفيذي، لشركة ITP للنشر، مشاركة تمحورت حول «النشر المتخصص وفتح أسواق جديدة»، استنتج خلالها أن النشر يعبر تماماً عن الحالة الاقتصادية عموماً، فإذا تأثر الاقتصاد لا بد أن يتأثر النشر على اختلاف أنواعه، ومن البديهي أن الأزمة الحالية ليست أبدية ونحن نلاحظ من خلال متابعتنا للسوق عودة متدرجة للإنفاق الإعلاني بسبب عودة الانتعاش المتدرج للأنشطة الاقتصادية.
وقال عكاوي إن ظهور النشر المتخصص هو استجابة أتوماتيكية لظهور قطاعات اقتصادية متخصصة ناجحة مثل قطاع العقار أو قطاع المصارف، وهذا الكلام ينطبق على الطاقة أو المجلات الطبية أو الاقتصادية أو مجلات العقار المتخصصة مثل المقاولات ومواد البناء ومستلزماتها.
ولفت عكاوي الانتباه إلى أنه في طفرة «الدوتكوم» قبل عشر سنوات شهد العالم مئات الآلاف من المطبوعات المتخصصة بالتقنية، وشهدت تلك السنوات مجلات إبداعية استطاعت مواكبة تلك السنوات الذهبية وتوصيل رسائل المعلن من خلال مطبوعة متخصصة في أسلوبها وموضوعها.
ورأى عكاوي أنه بسبب التركيز اليوم على موضوع الطاقة البديلة والنظيفة. فهناك توقعات بإنفاق أكثر من تريليوني دولار على هذه الصناعة في السنوات العشر المقبلة.
وعن تأثير الأزمة المالية على صناعة النشر، قال عكاوي إن تراجع الإنفاق الإعلاني بعد الأزمة، أدى إلى زيادة الضغوط التشغيلية على وسائل الإعلام في المنطقة كلها، خصوصاً في قطاع النشر المتخصص والمجلات، فقد أدى تراجع الإنفاق إلى إغلاق 64 وسيلة إعلام خلال تسعة أشهر من بداية الأزمة، فيما احتجبت 57 وسيلة أخرى عن الظهور بشكل مؤقت، إلى حين تبلور أوضاع السوق.
وكان إجمالي عدد المجلات التي توقفت عن الصدور في المنطقة العربية منذ بداية الربع الأخير من العام الماضي 2008 وحتى نهاية النصف الأول من العام الحالي 103 مجلات منها 52 مجلة توقفت تماما عن الصدور مقابل 48 مجلة علقت صدورها بشكل مؤقت، فيما استغنت بعض الإصدارات عن الطباعة الورقية واكتفت بالتحول التام إلى موقع إلكتروني.
غياب الكوادر
أكد عكاوي أن النشر المتخصص عانى من غياب الكوادر الصحفية التي نفتقدها في كل مجالات التخصص، والتي ينعكس غيابها على المحتوى، فالموضوع المتخصص سبق دائما وجود كوادر مؤهلة، وكل صناعة النشر المتخصص تعاني من قلة المؤهلين.
ويوصّف عكاوي أزمة الإصدارات الصحفية في المنطقة العربية، بأنها تعود إلى التراجع الحاد في الإنفاق الإعلاني وصعوبات التحصيل، علاوة على افتقار تلك الإصدارات لمقومات النمو المستدامة والمتمثلة في جودة المحتوى. فقد تراجع الإنفاق الإعلاني بنحو 30% خلال النصف الأول من العام الحالي 2009 مقارنة مع الفترة المماثلة من العام الماضي 2008.
وقال: «أنا أعتقد أن تراجع الإنفاق الإعلاني علاوة على صعوبات التحصيل التي تواجهها وسائل الإعلام ووكالات الإعلان على حد سواء، زاد من حجم الضغوط التشغيلية في تلك الإصدارات، حيث تراجع الإنفاق في الصحف بنسبة 10% مقابل تراجع لا يزيد على 5% في الإعلانات التليفزيونية، في ظل أفضلية مؤقتة لمواقع الانترنت المتخصصة على المجلات والصحف المتخصصة». وعن النشر الإلكتروني، أكد عكاوي أن الإنفاق الإعلاني على الانترنت سيحافظ على نموه خلال الفترة المقبلة نظراً لازدياد عدد مستخدمي الشبكة وزيادة عدد المواقع المتخصصة ومتنوعة المحتوى، وهذا يعيدنا إلى أهمية التخصص، فالمواقع الالكترونية العربية في تزايد، وتتجه إلى التخصص.
التركيز على المستهلك
أما الورقة الثالثة في الجلسة الأولى، التي أعدها الدكتور علي الأعسم، فسلطت الضوء على «توظيف التقنيات الجديدة»، حيث ركز على الحاجات الجديدة للقراء في عالم جديد يحتاجون فيه إلى معلومات على مدار الساعة.
ولفت الأعسم الانتباه إلى أن القارئ لم يعد مستهلكاً للأخبار وحسب، بل أصبح محرراً وناشراً لها أيضاً، داعياً إلى التغلب على سلبيات العمل التحريري المعمول بها في كثير من الصحف، كعدم استخدام نظام النشر المباشر للأخبار المستجدة على الانترنت بالنص والصورة المتحركة والصوت أو الخدمات الهاتف النقال، وغياب التخطيط المسبق للتغطية الإعلامية.
وتطرق الأعسم في ورقته إلى تطور العمل التحريري في «الاتحاد» من خلال تفعيل نظام «رابيد براوزر»، واعتماد هذا النظام في أرشفة النصوص والصور وصفحات PDF.
وقال الأعسم إن الجرائد جزء من تاريخ المجتمعات وجزء من حياة الناس، مشيراً إلى بعض المشكلات التي تواجه الصحف في الوقت الراهن، مثل المديونية العالية، فعلى سبي ل المثال تعاني «النيويورك تايمز» من ديون تعادل مليار دولار.
وعرج الأعسم على التطورات التقنية وأثرها على النشر، حيث أصبح القارئ الآن ناشراً للمعلومات عن طريق الفيس بوك والتويتر، كما حدث في التوترات التي شهدتها إيران مؤخراً.
وعرض «الأعسم» خلال الجلسة فيلماً قصيراً يرصد إعلاناً ترويجياً لصحيفة تايم أوف إنديا، وهو يعكس مدى حرص هذه الصحيفة على توجيه الناس نحو الارتباط بها، علماً بأن توزيع هذه الصحيفة قد ازداد في السنوات الماضية بنسبة 15%. وحذر الأعسم من وجود ما يشبه سور الصين العظيم بين غرف التحرير والإنتاج.
وعقب مدير الجلسة الدكتور عبد المنعم سعيد قائلاً إن الأزمة المالية العالمية عثرة تعترض مسيرة العمل الصحفي، من حيث تأثيرها على الجانب الإعلاني، فضلاً عن أنها أثرت على الجانب التحريري كونها فرضت قضايا جديدة مثل زيادة البطالة ونقص الموارد العامة ومدى نجاح الحكومات في معالجة الأزمة.
وأكد سعيد على أن التحديات التقنية التي تطرق إليها الأعسم باتت مواجهتها والسير في اتجاهها سيناريو حتمياً، وبدونها سيكون الأفول، حيث يوجد سوق تنافسي شديد، ففي مصر يوجد ما يقرب 170 ألف مدونة.
وانتقد جميل مروة رئيس تحرير «الديلي ستار» اللبنانية على الجلسة الأولى، ما طرحه وليد النصف حول عدم وجود مصادر يعتمد عليها لرصد تداعيات الأزمة المالية على الصحافة العربية، مستغرباً طريقة تناول النصف للبعد المحلي في الصحافة الكويتية، لافتاً إلى التجربة اللبنانية التي انهمكت في مسائل إقليمية وأهملت الجانب المحلي.
وتطرق مروة إلى المدونات وقال إنها أرجعت المهنة إلى أصلها أي من الكاتب إلى القارئ مباشرة.
وعلّق الدكتور عبدالله المدني حول ما أورده الدكتور الأعسم أن الهند والصين لم تتأثرا بالأزمة المالية، قائلاً إن هناك عوامل أخرى إضافة إلى التواصل مع الجماهير، من بينها أن الهند والصين قد شهدتا تحسناً في مستويات المعيشة، فالمواطن صار لديه القدرة على الاشتراك في الصحف، وتحسن وضعه، وحصل على مستوى تعليمي أفضل ما دفعه للحصول على الصحف والاشتراك فيها.
وقارن المدني بما يحدث في العالم العربي. فثمة استبيان حول الصحف المحلية، كان هدفه الإجابة على تساؤل من يشتري الصحف؟ وكيف يشتريها؟، وكانت النتيجة أن المواطن العربي لا يشتري الصحيفة وإنما يتصفحها بسرعة ثم يتركها.
أما الدكتور أكمل عبدالحكيم، فرأى أن من مشكلات الصحافة العربية فقدان المصداقية.. وهذا ما يدفع نحو الاعتماد على الصحف الأجنبية كمصدر لتفاصيل الأخبار، هذا يؤدي إلى عزوف القارئ العربي عن الصحافة، في حين رأى عبد الحميد أحمد أن 90% من الصحف تمتلكها الحكومات في العالم العربي ونسبة قليلة من الصحافة العربية يمكن اعتبارها مستقلة. ولا توجد أزمة في الصحافة العربية طالما أنها تحقق الأهداف المطلوبة، وصناعة الصحافة تعرض لمشكلات قبل الأزمة المالية.
أما زينب حفني، فلفت انتباهها كلمة وليد النصف حول البعد المحلي في الصحافة الكويتية. وقالت: «لاحظنا في أوروبا أن هناك توزيعاً لصفحات مجانية توجد في محطات المترو والحافلات .. لماذا لا تقوم الصحف بطبع نسخ رخيصة لدعم الصحافة الورقية. إذا تعوّد الشباب على القراءة، ستظل الصحف راسخة في مكانها».
ورأى الدكتور خالص جلبي أن الكتابة عن الأمور ذات الصلة بالجنس والدين والسياسة تجد صعوبات في الصحافة العربية.
كما قال الدكتور برهان غليون أن «الصحافة العربية تعيش نظاماً سوفييتياً لكن بشكل مخفف»، داعياً إلى تفاعل الصحافة مع مشروع حضاري حقيقي. ولابد من بلورة ثقافة ورؤية للمجتمعات من أجل المستقبل.
تحذيرات من اختفاء الصحفي المواطن
الصحافة الورقية تواجه تحديات «المسؤولية» و الإعلام الرقمي
ناقشت الجلسة الثانية من منتدى الاتحاد الرابع موضوع «المسؤولية في بيئة الصحافة الورقية»، فضلاً عن رصد التحديات التي تواجه الصحافة في الإمارات ومشاكل الصحافة العربية بشكل عام.
وفي مستهل تقديمه للجلسة الثانية، أشاد جميل الذيابي المدير العام للتحرير - دار الحياة، بتجربة «الاتحاد»، قائلاً: إن هذه الصحيفة أصبحت تمتلك أقلاماً و«وجهات نظر» مميزة... لا أعتقد أن هناك إعلامياً عربياً لا يتصفح جريدة الاتحاد.
وأشار الذيابي إلى أن الأزمة التي تعرضت لها الصحافة الورقية ليست وليدة اللحظة. وطرح تساؤلات من بينها: هل الأزمة المالية فاقمت من حرية الصحافة؟ هل اختفاء «كريستيان ساينس مونيتور» له انعكاساته؟، وفي ظل الحديث عن السبق والصدقية والمهنة والموثوقية، هل هناك سبق طائش يسبق المهنية؟
أليس من المفترض أنه لا تهاون في الصدقية كي لا تتهاوى المهنية؟ هل البث الإلكتروني طائش أم لا؟ أسئلة كثيرة تقف حائرة، هل قتلت الفضائيات فرصة السبق الصحفي؟
وهل الجوائز والمسابقات.. مقامرة أم مغامرة؟
وكانت الورقة الأولى لإبراهيم بشمي، رئيس هيئة تحرير جريدة «الوقت» البحرينية، التي جاءت تحت عنوان «ثلاثية السبق والمصداقية والمهنية»، وطرح خلالها بشمي تساؤلات حول مصير الصحافة الورقية في ظل منافسة من الصحافة الإلكترونية ووجود تشريعات تراقب وتحاسب منذ العهد العثماني مروراً بأحدث القوانين العربية التي أبقت على موانع «الرقابة» مع تغيير العبارات فقط.
كما تساءل عن توصيف وضع الصحافة العربية «التي لا تزال إحدى قدميها مطوطحة في الهواء لا تستطيع أن تحط على الضفة الإلكترونية الأخرى لألف سبب وسبب، بينما القدم الأخرى موضوعة في حذاء ورقي قابل للتمزق في أي لحظة لألف سبب وسبب أيضاً».
بين الواقعي والافتراضي
ورأى بشمي أن الصحافة العربية في هذه اللحظات في برزخ صحفي، تقبع بين عالم افتراضي يتطلب ما يتطلبه من شروط تقنية ومجتمعية، وواقع حقيقي ورقي يلقى من الرقابات والإحباطات ما يلقاه. أليس من حقنا أن نقول إن أصغر مدوّن عربي يملك أكبر حرية لتحقيق السبق الذي يبتغيه وينشره، ونغبطه على هذا الأفق الواسع من الحرية الافتراضية التي مهما وضعت عليها القيود يمكن اختراقها وتمرير الحقيقة حتى من خرم الإبرة؟
وقال بشمي: إن الانترنت والفضائيات قتلتا فرصة السبق بالنسبة للصحافة المكتوبة، أما المصداقية. إذن على الصحافة الورقية أن تمد جسورا أخرى للقارئ، جسورا ليست تقليدية وليست حديثة، بل إبداعية بقدر أقل من الاستهلاكية حتى لا تتحول الصحف إلى «مولات» لاقتناص الجوائز: سيارة وعمارة... في موسم الجوائز المفتوح طوال السنة. وطالب بشمي بتخفيف الرقابة المفروضة على المعلومات، وتمكين الصحفيين من الوصول إلى مصادر الأخبار دون رقابة.
وفي المحور الثالث من الجلسة الثانية، سلط أحمد المنصوري رئيس قسم الشؤون المحلية في جريدة الاتحاد الضوء على المحددات والعوامل التي يراعيها الصحفي أثناء قيامه بمهمته، حيث يواجه العاملون في المجال الصحفي قيوداً تحد من دورهم في مراقبة أداء مؤسسات الدولة بحريّة وشفافيّة ومسؤولية تجاه المجتمع، وهي إما قيود ثقافية اجتماعية نابعة من طبيعة النظام السياسي الاجتماعي السائد في البلد، أو قيود قانونية وضعت للسيطرة وضبط أداة وسائل الإعلام.
وأشار المنصوري إلى أن ثمة اعتبارات تتم مراعاتها في الصحافة الإماراتية من أهمها: مبادئ الدين والعقيدة، والأعراف والتقاليد القبلية، وتحديات التركيبة السكانية والعولمة، إضافة إلى ثورة الاتصالات الحديثة.
ورأى المنصوري أن ثمة قيوداً وعوائق تواجه العمل الصحفي وتؤثر في أدائه من بينها: قصور النظرة الاجتماعية للعمل الصحفي، والضغوط الأسرية والمجتمعية على العاملين في المهنة.
وحذر المنصوري في ورقته من أن هناك تحديات تواجه الصناعة الصحفية في دولة الإمارات تحدياً حقيقياً، وهي المحافظة على وجود الكوادر المواطنة المؤهلة والمدربة في الصحف، خصوصاً بعد أن تزايدت في السنوات الأخيرة حالات تسرب الكوادر المواطنة من الصحافة إلى وظائف أخرى أقل أعباء وأعلى دخلاً. كما يزيد من المشكلة ضعف الإقبال على العمل الصحفي من الخريجين المواطنين.
وقال: «إذا تفاقمت ظاهرة تسرب الكوادر الصحفية المواطنة من المهنة، مع ضعف القدرة على استقطاب كوادر جديدة، يمكن التنبؤ بأنه بعد سنوات من الآن قد يختفي الصحفي المواطن من المهنة خاصة بالنسبة للذكور».
ولفت المنصوري الانتباه إلى أن مسارات الصحافة في كليات الاتصال الجماهيري بجامعات الدولة تعاني من عزوف الطلاب المواطنين، حيث يتجه معظم الذين يختارون التخصص في مجال الإعلام إلى مسارات العلاقات العامة أو الإذاعة والتلفزيون للعمل لاحقاً في جهات أكثر ألقاً وبهرجة من العمل الصحفي، الذي يتطلب من الشخص العمل لسنوات عديدة وكفاحٍ طويل حتى يبني لنفسه اسماً ومكانة في الوسط الإعلامي، هذا إذا وقع في غرام «مهنة المتاعب» وشغف بها.
محاذير قانونية
وقال المنصوري إن قوانين النشر والمطبوعات والأنشطة الإعلامية من أهم الوسائل التي تستخدمها الحكومات للسيطرة على وسائل الإعلام في بلدانها، خاصة لدى الأنظمة التي يغيب فيها فصل حقيقي بين السلطات ولا يمكن اعتبار الصحافة فيها سلطة مستقلة بعيدة عن التبعية أو السيطرة الرسمية.
ولا يزال قانون النشر والمطبوعات رقم 15 الذي صدر العام 1980 سارياً، وهو مثار جدل بين الصحفيين والمثقفين، وتزايدت مطالبهم بتعديله وإلغاء البنود المقيدة لحرية الممارسة الصحفية، حتى أقر المجلس الوطني الاتحادي في 20 يناير 2009 مقترح مشروع الأنشطة الإعلامية الذي قدمه المجلس الوطني للإعلام، ورفع بعدها إلى المجلس الأعلى للاتحاد للتصديق عليه ليكون نافذاً.
وقال المنصوري إن مشروع هذا القانون الجديد أثار خيبة أمل الوسط الإعلامي الذي يرى أنه يحتوي على مواد مبهمة ولا يرقى لتطلعات الصحفيين ولا حتى يواكب الإنجازات الحضارية التي حققتها الدولة في السنوات الماضية على صعيد التنمية البشرية والمجتمعية.
بالقطري الفصيح
قدم جابر الحرمي، رئيس تحرير الشرق القطرية، في ورقة العمل الثالثة التي تحمل عنوان «البعد المحلي كأداة للتميز: صحيفة الشرق القطرية نموذجاً»، تجربة صحيفته لملحق شهري بعنوان «بالقطري الفصيح» يقوم بإعداده وتحريره فريق قطري مائة في المائة بدون أدنى تدخل من الخبرات الوافدة.
ورأى الحرمي أن هذه التجربة تسجل الريادة لمؤسسة دار الشرق للطباعة والنشر والتوزيع، التي أخذت على عاتقها دعم وتشجيع الطاقات القطرية وحملت لواء إعداد وتدريب وتأهيل الكوادر القطرية من الجنسين في المجال الصحفي، وعملت على صقل مواهبهم من خلال هيئة تحرير الشرق ومركز الشرق للدارسات والإعلام والتدريب للدخول الى عالم الصحافة.
وكان ملحق «بالقطري الفصيح» قد صدر لأول مرة في السادس من أكتوبر عام 2006 بعد الانتهاء من دورة «الإعداد للعمل الصحفي»، التي أقامتها جريدة «الشرق»، حيث وزع حوالي 60 متدربا ومتدربة في مختلف أقسام الجريدة من خلال برنامج وضع خصيصا لتدريبهم في 30 سبتمبر عام 2006.
ويتصدر غلاف ملحق (بالقطري الفصيح) الذي صدر 38 عدداً منه حتى مطلع سبتمبر 2009 عبارة: «بالقطري الفصيح – بأقلام قطرية 100% (جريدة خاصة تصدر بأقلام متدربين قطريين بإشراف جريدة الشرق، وتدرس إدارة الشرق تطوير هذا الملحق المتميز ليصدر أسبوعياً ثم يومياً في المستقبل القريب.
كما استهل جابر الحرمي رئيس تحرير الشرق القطرية، الذي استهل ورقته بتهنئة «الاتحاد» على مرور أربعين عاماً على انطلاقها، ويفتخر الحرمي بأن «الاتحاد» من إحدى المدارس التي تعلم داخلها.
البعد المحلي
كما أكد أن البعد المحلي يمثل تميزاً في الصحافة، «ولا أعتقد أن صحيفة قطرية تستطيع منافسة زميلاتها داخل دول أخرى، فالصحيفة يجب أن تحمل هموم القارئ قدر الإمكان، والرهان الفعلي يتعلق بمدى ملاءمتها للشأن المحلي».
ولفت الحرمي الانتباه إلى أن غياب الكادر المحلي أدى إلى غياب القضايا المحلية في الصحافة القطرية، لكنه نوه إلى أن ذلك لا يعني إنكار دور الإخوة العرب في تطوير الصحافة، لكن يبقى العنصر المواطن أقدر على طرح القضايا المحلية.
وتطرق الحرمي إلى تجارب تم تطبيقها في «الشرق القطرية»، منها تنظيم حملات مساعدات إنسانية واجتماعية تعبر عن التصاق الصحافة بالمجتمع والتعبير عن همومه.
وعقب الكاتب والمحلل السياسي عبدالوهاب بدرخان على الأوراق الثلاث المقدمة، قائلاً: «قدمت لنا الأوراق الثلاث صورة قريبة وواضحة لواقع الصحافة العربية المكتوبة، أو الورقية. وعرض كل منها جانباً مختلفاً من المشهد الصحفي، لكنها تتكامل عملياً».
وأضاف أن «بشمي لخص بشفافية لكن برقابة ذاتية أيضاً معاناة كل رئيس تحرير في كل صحيفة عربية. وعرض الحرمي بإسهاب لكن برضا عن النفس نحسده عليه جميعاً لما يمكن أن تذهب اليه أي جريدة من توسع وتنوع لدعم موقعها التجاري في السوق، كما وضع المنصوري بواقعية لكن بجرأة محسوبة لائحة بما للصحافة الورقية وما عليها، بما يراد لها من تقدم وما لا يزال يعوق تقدمها، حتى أنها يمكن أن تنقرض وتختفي قبل أن تحرز هذا التقدم، طالما أننا بتنا نسمع شبه نعي يومي لها بسبب سطوة إعلام الفضائيات والانتشار المؤكد للإعلام الالكتروني».
واعتبر بدرخان أن الأولوية في أية صحيفة كانت وستبقى للصحافة المحلية، فهي محك المهنية ومختبر التأثير ومعيار النجاح ومؤشراته، «فالنجاح المحلي جواز مرور إلى السمعة والمكانة الخارجيين، والصحيفة القوية في ديرتها تصبح نوعاً من المرجعية للخارج الذي يريد أن يفهم ما الذي يجري في الداخل».
مشاكل الصحافة الورقية
ولخص بدرخان مشاكل الصحافة الورقية العربية في ثلاثة جوانب، أولاها طبيعة النظم السياسية وقابليتها للتطور، فهذه تتحكم بنوعية الصحافة الممكنة وسوية مهنيتها وحدود ممارستها لدورها. فالمهنية الصحيحة لا تعمل إلا في بيئة تحترم قيم العدل والحرية والمساواة والحقوق الطبيعية للانسان، أما غياب هذه القيم فلا يخفض مهنية الصحفي بل يخفض أيضاً مهنية السياسي والمسؤولين بمستوياتهم كافة.
وثانيها الكيان القانوني الذي يعترف بمهنة الصحفي والاعلامي، أي يعترف بخصوصية عملها ويحميها. هنا لا بد للصحافة من أن تتابع بدأب ونشاط العمل للحصول على أفضل إطار قانوني لعملها. والواقع أن الصعوبات التي يتعرض لها الصحفي في عمله تُعزى الى بطء تبلور ثقافة احترام حق الرأي العام في المعرفة، وهي الثقافة التي تلزم الدولة بمؤسساتها وأشخاصها بالتعامل الجاد والايجابي مع الصحافة، وثالثها التمويل، وقد أدى العهد الطويل من الاعتماد على العطاءات الحكومية، المباشرة أو المقنّعة، الى استشراء أمراض في جسم الصحافة جعلت العلة منها وفيها. فمن يعول على هذا التمويل يفقد تلقائياً أهلية المطالبة بالحقوق والحريات التي يحتاجها ليمارس المهنة وفقاً لأصولها، وليس له سوى أن ينتظر حتى تدرك هذه الجهة الحاكمة أن لديها مصلحة في أن تُعرف الحقائق وأن يكون هناك نوع من «السلطة» في يد الصحافة، وهذه أمنية ترقى الى المستحيلات. ومع نشوء صحافة بتمويل خاص أمكن التعرف الى محدودية التحسن الذي جلبته ميزة القطاع الخاص الذي يرتبط أشخاصه بتبعية لمصالحهم ولمن يتحكم بهذه المصالح، فصحافتهم «المتحررة» نظرياً من قيود التمويل الحكومي تخضع واقعياً وعملياً لشروط مزدوجة غالباً ما تكون أشد تضييقاً على الصحافة والصحفيين.
وتابع بدرخان رصده لتأثير ظهور الفضائيات والإنترنت على الصحافة المكتوبة، من حيث استقطاب التمويل الأكبر واجتذابه معظم ميزانيات الإعلان.
وطمأن بدرخان أن المنافسة التلفزيونية والالكترونية كسرتا حواجز التواصل إلا أنهما لن يتمكنا من إلغاء الكتابية كفن انساني متقدم. ولعل أهم التقصيرات التي ارتكبتها الصحافة العربية في حق نفسها أنها استسلمت للتقصير الحاصل في التعليم وفي التربية عموماً ولم تعتبر أن من أهدافها الرئيسية الحاسمة أن تحافظ على الكتابية لتساهم في تطوير اللغة وعصرنتها، واعتقد أن هذا كان من أهم الإنجازات في إرث الصحافة الغربية وستبقى آثارها حتى بعد الانقراض المفترض لهذه الصحافة.
الخوف من «الالكتروني»
وفي تعقيب له، استغرب الإعلامي تركي الدخيل الخوف من الصحافة الإلكترونية، موضحاً أن المشكلة في المواقع الإلكترونية للصحف العربية أنها نسخة من الطبعة الورقية. بيد أنه ألمح إلى وجود كثير من المواقع الإلكترونية التي لا تتحرى الصدقية في نقل الأخبار، حيث تحرص على السبق دون الاهتمام بالمهنية.
من جانبه، قدم الدكتور إبراهيم البحراوي تهنئتين لـ«الاتحاد» بعيدها الأربعين، وللمنتدى الذي دخل عامه الرابع، وبات جامعاً بين المثقفين ورجال الأعمال في جميع الأقطار العربية. ودعا البحراوي الصحفيين إلى وضع الأيدي على هموم المواطن عن طريق التحقيق الاستقصائي ومعرفة الأسباب العميقة للمشاكل، وبالتالي التفاعل الأعمق مع القارئ.
واعتبر الدكتور سعد بن طفلة العجمي أن هناك خلطاً بين الصحافة والإعلام. ولا يجوز ذلك، بحسب ابن طفلة، كما أن السبق في الصحافة، بات نادراً في ظل الفضائيات والتقنيات الإلكترونية، معتبراً أن صحافة التحقيقات لن تكون كافية كي تجعل الصحافة تحقق الطموح، وأن الثورة التقدمية لن تزعزع الصحافة فحسب، بل ستزعزع العقول التي تربت على نمط معين خلال العقود الماضية. وفي تعقيبه على ما دار في الجلسة الثانية، قال الدكتور عبدالله خليفة الشايجي إنه لا توجد صحافة عربية واحدة، فهناك صحافة تمثل الرأي الرسمي، وهناك صحافة تمثل الرأي المستقل، والصحافة لم تعد صحافة خبر، بل صحافة تحقيق، كما أن الصحافة يجب أن تعيد اكتشاف نفسها.
المصدر: أبوظبي