حقاً، ما أشبه الليلة بالبارحة.. ما إن بلغني نبأ ترؤُّس صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، وفد الدولة المشارك في قمم مكة الثلاث، حتى تداعت الذكريات، وتأججت في القلب مشاعر وأحاسيس، واستعدتُ العديد من المواقف التاريخية التي لا تنسى للأب المؤسس الشيخ زايد بن سلطان، طيب الله ثراه، في القمم العربية والخليجية، وكان الحظ حليفي إذ كنتُ إلى جواره أتعلم وأنهل من نبعه الصافي وهو الذي تميّز بين العرب، وتوّجته حكمته زعيماً، وأرى كيف الله مَنَّ على بلادي بامتداد زايد في أبنائه الذين يواصلون المسيرة من بعده، ليؤكد أنه غرس طيِّبٌ، أصله ثابت وفرعه في السماء.
من رحاب مكة الطاهرة وأجواء قمتها، أتذكر بذات الدهشة التي تملكتني حين أصر الأب زايد، رحمه الله، على زيارة القاهرة فور انتهاء قمة بغداد التي دعا إليها صدام حسين ليحشد العرب من خلفه ويعلن عن موقفه بضرورة عزل مصر ومقاطعتها، فكان موقف زايد أكثر بلاغة -فعلاً لا قولاً- حين توجّه للقاء رئيس مصر، ليكون بذلك قد ردّ خير ردٍّ على الموقف الخاطئ.
هكذا كان الأب وعلى دربه يسير أبناء الإمارات، فنحن دعاة وحدة وتعاون، نرفض كل أشكال الفرقة، وننبذ الخلافات، ونبسط أيدينا ونمدها بكل خير، ونتطلع لحل المشكلات والخلافات ضمن أطر دبلوماسية. هذا هو إذاً النهج الذي وضع الإمارات في مكانة مرموقة بين الدول لتحظى بتقدير كبير من المؤسسات الدولية كافة التي ترى بلادنا ديمة خير تمطر بما ينفع البشرية، ومن دون منّة أو أذى، وهكذا كنا منذ تأسست دولتنا في ديسمبر 71، وعلى ذلك الوضع استمر نهجنا، وإني على يقين بأن نهج دولة الإمارات هذا سيبقى مستقبلاً، لأن الخير في بلادي أصيل ومتجذر، لا يحمل أحقاداً ولا ضغائن تجاه أحد.
حاولت ألا أكتب في ذكرى رحيل الأب الشيخ زايد بن سلطان، طيب الله ثراه، ففي قلبي شوق كبير لأنبل من عرفت، ولوعة على فراقه، ومهما مرت الأيام والسنون ستظل ذكراه في القلب حاضرة تحاصرني، إلى درجة أني كثيراً ما شعرت أنه يراني ويشعر بي، خاصة حين تتنازعني الهموم على حال أمتنا العربية الكبيرة، فتستعيدُ ذاكرتي عشرات المواقف والأحداث التي كنت بالقرب فيها منه وإلى جواره، أرقب كيف كان بحكمته وخبرته ينزع فتيل الأزمات قبل أن تعصف، ويبادر بحلول للمشكلات قبل وقوعها.
أتذكر الشيخ زايد حين دعا صدام حسين إلى التخلي عن الحكم ومغادرة العراق (وهو الرأي الذي لم يجد آذاناً صاغية للأسف). أتذكر وأتساءل ماذا لو استجاب صدام لنداء زايد، فيجنّب العراق والمنطقة ما حل بها من ويلات وخراب ودمار وكوارث نتجرع مرارتها كل يوم؟ ماذا لو؟!! وأظن (لو) هذه المرة تنكأ جرحاً لم يندمل، وتكشف لنا بجلاء أن الشيخ زايد -وهو الرجل بحق والأصيل بحق أيضاً- لم يكن يفكّر إلا في صالح المنطقة وشعوبها، ولم ينشغل يوماً بكرسي الحكم، ولم يأبه أبداً بمظاهر السلطة، وأنه في سبيل مستقبلٍ خيّرٍ للإنسانية كان مستعداً للذهاب إلى أبعد نقطة في هذا الكوكب، وأنه من أجل إنقاذ نفس بشرية واحدة كان مستعداً لبذل الغالي والنفيس.
وعلى الدرب يسير أبناؤه من بعده، وها هو صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، يستقبل الفريق أول عبدالفتاح البرهان، رئيس المجلس العسكري الانتقالي في السودان الشقيق، ليؤكد أن الإمارات تقف مع السودان حتى تتعافى وتتجاوز ما تمر به من أحداث، مؤكداً أن المصير المشترك تدفعها إلى دعم كل ما يحفظ أمن السودان واستقراره.
تلك الروح التضامنية هي التي دفعت البرهان حتماً لزيارة أبوظبي من أجل التشاور مع صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، لأنه على يقين كامل وإيمان راسخ أن الإمارات صادقة نواياها من أجل دعم الأشقاء، ولعل رصيدها الحافل بالمواقف التي سجلها التاريخ بأحرف من ذهب شاهدة على ذلك.
وبالعودة إلى مكة وريحها العطرة، فإن حضور صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان القمة مترئّساً وفداً رفيع المستوى لم يفاجئني، فهو أمر كنت أتوقّعه، وقد أشرت في مقالتي السابقة إلى أن دعوة الملك سلمان للقمتين الخليجية والعربية، إنما تلاقت وبشكلٍ عملي مع تصريحات صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان بضرورة اللقاء للتنسيق والتشاور بشأن تداعيات التطورات التي تهدد أمن واستقرار المنطقة.
إن حرص ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة على الحضور والمشاركة يعكس بجلاء إدراكه العميق وفهمه الكامل لحجم المخاطر والمخططات التآمرية على المنطقة وشعوبها، وتؤكد استعداده التام لوضع يده في يد الأشقاء الجادّين من أجل مجابهة تلك التحديات بهدف العبور إلى بر الأمان والنجاة من مكائد الشيطان وأعوانه وأذنابه، فهذا هو السبيل الوحيد -ولا سبيل سواه- لإنقاذ الأمة والتصدي للفوضى وأعمال العنف والإرهاب التي تدعمها إيران وتسعى لتنفيذها عبر أذرعها الموجودة في أكثر من موضع في عالمنا العربي، بل وفي الحديقة الخلفية للخليج ذاته.
واليوم وبكل صدق أقول: إن حالة الفوضى والتردي التي تضرب أكثر من قطر عربي أضعفت المنطقة أكثر، وتركت فراغاً كبيراً في أمنها واستقرارها، وهو ما حرك أطرافاً إقليمية بما تحمل من نوايا وأطماع خبيثة بدأت اللعب (ع المكشوف) ظناً منها أن الفرصة مواتية لها كي تبسط هيمنتها، وتفرض نفوذها، وتنفذ مخططاتها، وتقيم مشروعها.
من هنا جاءت أهمية لقاءات مكة التي أتمنى أن تكون رسالتها قد وصلت إلى من يهمه الأمر، لتعي إيران وغيرها من أطراف إقليمية كلمة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد وكلمة خادم الحرمين الملك سلمان بن عبدالعزيز كذلك في القمة، وكي تقوم دوائر صنع القرار ومراكز الأبحاث لديها بدراستها جيداً لتتيقّن أن إشعال نيران الحرائق في المنطقة مسألة خطيرة، فالنيران ستكوي الجميع وتحرقهم، وتمتد آثارها إلى كل أصقاع الأرض لتهدد السلام العالمي برمّته.
هذه بعض الخواطر التي تداعت إلى ذهني من وحي قمة مكة، بما يمثله ذلك المكان من رمزية ومكانة كبيرتين لدى العالم الإسلامي، مستعيداً صورة زايد الذي فارقنا بجسده فقط، فأفكاره ومبادئه باقية ومستمرة في الحكمة وسداد الرأي والشجاعة، وهو ما يذكرني بقول المتنبي:
الرّأيُ قبل شجاعةِ الشّجعانِ
هوَ أوّلٌ وهيَ المحلُّ الثّاني
وإذا هُمَا اجتمعَا لِنفْسٍ حرّةٍ
نالتْ مِنَ العلياءِ كلَّ مكانِ