قال الجاحظ: وحدثني صاحب لي قال: دخلت على فلان بن فلان، وإذا المائدة موضوعة بعد، وإذا القوم قد أكلوا ورفعوا أيديهم· فمددت يدي لآكل، فقال: أجهز على الجرحى، ولا تتعرض للاصحاء! يقول: اعرض للدجاجة التي قد نيل منها، وللفرخ المنزوع الفخذ· فأما الصحيح فلا تتعرض له· وكذلك الرغيف الذي قد نيل منه، فأما الصحيح فلا تتعرض له· وكذلك الرغيف الذي قد نيل منه، وأصابه بعض المرق·
وقال لي الرجل: أكلنا عنده يوماً، وأبوه حاضر، وبني له يجيئ ويذهب· فاختلف مراراً· كل ذلك يرانا نأكل· فقال الصبي: كم تأكلون؟ لا أطعم الله بطونكم! فقال أبوه، وهو جد الصبي: ابني ورب الكعبة!
حدثني أبو الجهجاه النوشرواني، قال: حدثني أبو الأحوص الشاعر، قال: كنا نفطر عند الباسياني· فكان يرفع يديه قبلنا، ويستلقي على فراشه، ويقول: 'إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً'·
حديث خالد بن يزيد
وهذا خالد بن يزيد مولى المهالبة· هو خالويه المكدي· وكان قد بلغ في البخل والتكدية، وفي كثرة المال، المبالغ التي لم يبلغها أحد· وكان ينزل في شق بني تميم فلم يعرفوه· فوقف عليه ذات يوم سائل، وهو في مجلس من مجالسهم· فأدخل يده في الكيس ليخرج فلساً، وفلوس البصرة كبار· فغلط بدرهم بغلي· فلم يفطن، حتى وضعه في يد السائل· فلما فطن استرده وأعطاه الفلس· فقيل له: هذا لا نظنه يحل· وهو بعد قبيح! قال: قبيح عند من؟ إني لم أجمع هذا المال بعقولكم، فأفرقه بعقولكم! ليس هذا من مساكين الدراهم· هذا من مساكين الفلوس! والله ما أعرفه إلا بالفراسة·
قالوا: وإنك لتعرف المكدين؟ قال: وكيف لا أعرفهم! لم يبق في الأرض مخطراني، ولا مستعرض الأقفية، ولا شحاذ ولا كاغاني، ولا بانوان، ولا قرسي ولا عواء، ولا مشعب، ولا مزيدي، ولا إسطيل، إلا وقد كان تحت يدي· ولقد أكلت الزكوري ثلاثين سنة· ولم يبق في الأرض مكد إلا وقد أخذت العرافة عليه·
وإنما أراد بهذا أن يؤيسهم من ماله، حين عرف حرصهم وجشعهم وسوء جوارهم· وكان قاصاً متكلماً، بليغاً داهياً· وكان أبو سليمان الأعور وأبو سعيد المدائني القاصان من غلمانه·
وهو الذي قال لابنه عند موته: إني قد تركت لك ما تأكله إن حفظته، وما لا تأكله إن ضيعته· ولما ورثتك من العرف الصالح، وأشهدتك من صواب التدبير، وعودتك من عيش المقتصدين، خير لك معين من هذا المال· وقد دفعت إليك آلة لحفظ المال عليك بكل حيلة· ثم إن لم يكن لك معين من نفسك، ما انتفعت بشيء من ذلك· بل يعود ذلك النهي كله إغراء لك، وذلك المنع تهجينا لطاعتك·
ومات من ساعته· وكفنه ابنه ببعض خلقانه، وغسله بماء البئر، ودفنه من غير أن يصرخ له، أو يلحد له، ورجع·
فلما صار في المنزل، نظر إلى جرة خضراء معلقة· قال: أي شيء في هذه الجرة؟ قالوا: ليس اليوم فيها شيء· قال: فأي شيء فيها قبل اليوم؟ قالوا: سمن· قال: وما كان يصنع به؟ قالوا: كنا في الشتاء نلقي له في البرمة شيئاً من دقيق نعمله له، فكان ربما برقه بشيء من سمن· قال: تقولون ولا تفعلون! السمن أخو العسل· وهل أفسد الناس أموالهم إلا في السمن والعسل؟ والله إني لولا أن للجرة ثمناً لما كسرتها إلا على قبره! قالوا: فخرج فوق أبيه، وما كنا نظن أن فوقه مزيداً!
أخبار الحمقى والمغفلين
علامتها سحابة
وذكر أنه اجتمع على باب دار أبي جحا تراب كثير من هدم وغيره، فقال أبوه: الآن يلزمني الجيران برمي هذا التراب وأحتاج إلى مؤنة وما هو بالذي يصلح لضرب اللبن فما أدري ما أعمل به، فقال له جحا: إذا ذهب عنك هذا المقدار فليت شعري أي شيء تحسن؟، فقال أبوه: فعلمنا أنت ما تصنع به· فقال: يحفر له آبار ونسكبه فيها·
واشترى يوماً دقيقاً وحمله على حمال فهرب بالدقيق، فلما كان بعد أيام رآه جحا فاستتر منه، فقيل له: ما لك فعلت كذا؟ فقال: أخاف أن يطلب مني كراه·
ووجهه أبوه ليشتري رأساً مشوياً، فاشتراه وجلس في الطريق، فأكل عينيه وأذنيه ولسانه ودماغه، وحمل باقيه إلى أبيه، فقال: ويحك ما هذا؟ فقال: هو الرأس الذي طلبته· قال: فأين عيناه؟ قال: كان أعمى· قال: فأين أذناه؟ قال: كان أصم· قال: فأين لسانه؟ قال: كان أخرس· قال: فأين دماغه؟ قال: فكان أقرع، قال: ويحك، رده وخذ بدله· قال: باعه صاحبه بالبراءة من كل عيب·
وحكي: أن جحا دفن دراهم في صحراء وجعل علامتها سحابة تظلها·
ومات أبوه فقيل له: إذهب واشتر الكفن، فقال: أخاف أن أشتري الكفن فتفوتني الصلاة عليه·
وحكي: أن المهدي أحضره ليمزح معه، فدعا بالنطع والسيف، فلما أقعد في النطع، قال للسياف: أنظر لا تصب محاجمي فإني قد احتجمت·
ورأوه يوماً في السوق يعدو فقالوا: ما شأنك؟ قال: هلا مرت بكم جارية رجل مخضوب اللحية؟ واجتاز يوماً بباب الجامع فقال: ما هذا؟ فقيل مسجد الجامع، فقال: رحم الله جامعاً ما أحسن ما بنى مسجده·
ومر بقوم وفي كمه خوخ، فقال: من أخبرني بما في كمي فله أكبر خوخةٍ، فقالوا: خوخ، فقال: من أخبركم؟
وسمع قائلاً يقول ما أحسن القمر، فقال: أي والله خاصة في الليل·
وقال له رجل: أتحسن الحساب بإصبعك؟ قال: نعم، قال: خذ جريبين حنطة، فعقد الخنصر والبنصر، فقال له: خذ جريبين شعيراً فعقد السبابة والإبهام وأقام الوسطى فقال الرجل لم أقمت الوسطى، قال: لئلا تختلط الحنطة بالشعير·
ومر يوماً بصبيان يلعبون ببازي ميت، فاشتراه منهم بدرهم وحمله إلى البيت، فقالت أمه: ويحك ما تصنع به وهو ميت؟ فقال لها: أسكتي فلو كان حياً ما طمعت في شرائه بمائة درهم·
وخرج أبوه مرة إلى مكة فقال له عند وداعه: بالله لا تطل غيبتك واجتهد أن تكون عندنا في العيد لأجل الأضحية·
من اخبار النساء
ثلاث خصالٍ من السّؤدد
قال معاوية: ثلاث خصالٍ من السّؤدد، الصّلع، واندماج البطن، وترك الإفراط في الغيرة·
غيرة قيس بن زهير
ولمّا نزل قيس بن زهير ببعض العرب قال لهم: أنّي غيورٌ، وأنا فخورٌ، وأنا أنفٌ، ولكن لا أغار حتّى أرى، ولا أفخر حتّى افعل، ولا آنف حتّى أضام· فعابوه بقوله 'لا أغار حتّى أرى' ويظنّ به إنّما عني رؤية السّبب لا رؤية المرافقة·
وعابوا معاوية أيضاً بقوله هذا ونسبوه إلى قلّة الغيرة وما أرى في قوله وترك الإفراط في الغيرة عيباً لأنّ الإفراط المجاوز للحقّ ولمقدار المصلحة وظلم الخليلة العفيفة والحرمة الكريمة غير لائقٍ·
عبد الملك يعيب قولاً على نصيب
وأمّا قول نصيبٍ:
أهيم بدعدٍ ما حـييت وإن أمـت
فيا ليت شعري من يهيم بها بعدي
فإنّي لم أجد له تأويلاً· وعاب ذلك عليه عبد الملك بن مروان، وقال لجلسائه: أو لو كنتم قائلين هذا البيت ما كنتم تقولون؟ قالوا: لا ندري، فكيف كان أمير المؤمنين قائلاً: قال: كان يقول:
أهيم بدعدٍ ما حييت فـإن أمـت
فلا صلحت دعد لذي خلّةٍ بعدي
يخاف عليها من عينيها
قال إسحاق: رأيت رجلاً بطريق مكّة، تعادله في المحمل جاريةٌ قد شدّ عينيها والغطاء مكشوف، ووجها بادٍ، فقلت له في ذلك· فقال: إنّما أخاف عليها من عينيها، لا من عيون النّاس·
اخبار الطعام والطاعمين
صفات الخارج عن آداب المؤاكلة
حدث صاحب كتاب 'آداب المؤاكلة' ذاكراً صفات والقاب من خرج عن آداب المؤاكلة ودخل باب العيوب، قال:
الجردبيل: وهو الذي إذا رأى في الخبز نقصاً يستغنمه، ويحمل منه كسرةً كبيرةً يجعلها له ذخيرةً ليأكلها بعد أن يفرغ·
والمشغل: وهو الذي يشغل رغيفاً ليمنع غيره من أكله؛ فإذا رأى الخبز قد نقص، أسرع في البلع، ولو كاد يغص·
والملقو: هو الذي يأكل اللقمة الكبيرة، فترى من خارج فكه كالسلعة العظيمة، فيبقى فكه كالملقو، ولو صغر اللقم، لأمن ذلك وأتى بالسنة·
والنهم: هو الذي يأكل لقماً داركاً، ويتأخر الجماعة عن المائدة وهو على حالة في الأكل؛ وربما يمضغ بالشدقين، فلقمته بلقمتين!!·
والناثر: وهو من قسم النهم، وهو من ينثر من النهم الخبز لقماً بين يديه·
والمسابق: وهو من قسم النهم أيضاً، وهو الذي يمسك في يده لقمةً قد أعدها قبل أن يمضغ التي في فمه، فلا يرى فكه خالياً عن مضغ، ولا يده خالية، وربما تكون عينه في لقمة أخرى·
والصامت: وهو من قسم النهم أيضاً، وهو من لا يعود ينطق، بل يكب ويطرق على الأكل، ويشتغل بالمضغ والبلع وأخذ اللقم ووضعها متصلاً ذلك بلا انفصال·
حاطب ليلٍ: وهو الذي لا يستقصي تأمل ما يأكله وإن أكل سمكاً لم يستقص تنقيته من العظام، فتراه في أكثر الأوقات، وقد نشب العظم في حلقه، وأشرف منه على مكروه، وقد ينشب أيضاً عظام الدجاج ونحوها ولا سيما الحمام والعصافير في الحلق، فيبقى مدة طويلة لا يستلذ بأكل ولا شرب، ويذوق العذاب كما أصاب الشيخ النجيب يوسف بن يعقوب رئيس عمرانات، فإنه شارف الموت من ذلك عشرين يوماً حتى خلص العظم من حلقه·