القاهرة ـ حمدي أبوجليّل:
رسوم: عصام طه
أبوالفوارس عنترة بن شداد عاش في القرن السادس الميلادي، وتوفي قبل ظهور الإسلام بسنوات قليلة، وسيرته تعتبر الياذة العرب واسطورتهم في الفروسية والشجاعة والعشق الطاهر العفيف على مر التاريخ، كما انه شاعر فحل، وقصيدته الأشهر كانت ضمن المعلقات السبع التي عُلقت على أستار الكعبة، وبطولاته بدأت في بوادي جزيرة العرب ووصلت للعراق والشام وبلاد فارس، والرواية الشعبية اضافت لها أراضي مصر والسودان والجزائر، وتناقلها العرب شفاهة جيلا بعد جيل، وبعد أكثر من ستة قرون على وفاة عنترة بن شداد وجد فيها الخليفة الفاطمي العزيز بالله مادة غنية ومثيرة لإلهاء الناس عما يدور في بلاطه من فضائح ومخزيات، وأمر مؤرخ دولته يوسف بن اسماعيل المصري بجمعها وتدوينها في سبعين جزءا ونشرها على الرعية، كما جمعها أبوسعيد عبدالملك 'الأصمعي'، وانكب الشعب العربي على التغني ببطولاتها ونسج حولها ملحمة طورها وأضاف اليها على مدى مئات السنين، وفي العصر الحديث انشغل بها المؤرخون والباحثون والفنانون باعتبارها نموذجا للبطولة والفداء في التراث العربي والإنساني بشكل عام، وصدرت حولها مئات الكتب والرسائل الجامعية، وانشغل بها المستشرقون باعتبارها معادلا لملحمة الالياذة الاغريقية، كما تناولتها العديد من الاعمال الدرامية والمسرحية في مختلف البلدان العربية، وتعرضت لها السينما في فيلم شهير قام ببطولته الفنان الراحل فريد شوقي في سبعينات القرن الماضي·
عنترة بن شداد ينتمي لقبيلة عبس، واسمه 'عنترة' يعني الصمود في الشدائد والشجاعة في الحرب، كما انه مشتق من ضرب من الذباب يقال له العنتر، ولقب عنترة بالفلجاء لفلج، أي شق، في شفته السفلى، وكان يكنى بأبي المعايش وابي أوفى وأبي الفوارس وابي المغلس لسواده الشديد· وبسبب سواده لقب بالغراب، وعده القدماء من أغربة العرب·
عنترة بن شداد ولد لأم جارية حبشية سوداء هي 'زبيبة' واب من سادة العرب هو شداد العبسي، وكان شديد السواد كأمه، وفي عامه الأول ظهرت عليه بشائر البطولة والفروسية والقوة، وحسب الرواية الشعبية كان يدمدم ويهمهم إذا منع عن الرضاع، وكان يمزق كل يوم قماطا جديدا 'ولو كان من الحديد'، وفي صباه كان يطارد الاسود والذئاب، ويقبض على أشداقها و'يشقها ايما انشقاق'، غير أن والده شداد العبسي خجل من لونه، ورفض تحريره وضمه لابنائه الاحرار، وتركه أسيرا للعبودية، يرعى الابل ويحلبها بين خدم وعبيد بني عبس، وإذا خرج الفرسان للغزو والمعارك بقي بين العبيد لرعاية الابل وحراسة مضارب القبيلة حتى يعود السادة
وفي ذلك الوقت، لم تكن القبائل العربية تستقر على حال، وكانت تفرقهم ناقة وتجمعهم قصيدة، وكانت الأوضاع متأرجحة بين القيام بغزو ومقاومة آخر، وبينما كان عنترة بن شداد يعيش حياته كعبد محتقر ليس له في الحرب والطعان دعا قيس بن زهير ملك عبس والده شدادا ومحاربي القبيلة للاغارة على احدى القبائل المجاورة، وخرج الفرسان والسادة وتركوا عنترة ونفرا من العبيد لحراسة المضارب ورعاية النساء اللاتي شغلن باللهو والرقص والغناء على الغدير في غيبة السادة بعد وليمة عظيمة صنعتها لهن سمية زوج شداد الحرة، وفجأة هجمت عليهن الخيل من بين الجبال، وإذ بمئة فارس من بني قحطان يغيرون على مضارب قبيلة بني عبس، ويسوقون النسوة وبينهن عبلة، وهنا سطرت أولى بطولات عنترة بن شداد كفارس مغوار، فقد اندفع خلف فرسان بني قحطان وأدرك فارسهم الذي أسر عبلة وصرعه وأخذ جواده وسلاحه، ثم دخل معركة حامية مع الغزاة، واستطاع بيده الطليقة - فقد كان يمسك عبلة بالاخرى- ان يصرع كل من وقف في طريقه منهم، وأجبر الباقي على الهرب تاركين غنائمهم خلفهم، وحينما عاد قيس بن زهير سيد بني عبس من الغزوة وسمع ببطولات عنترة في حماية القبيلة ونسائها في معركته الأولى أثنى عليه وخلع عليه رداء الشرف، غير أن والده الأمير شداد واصل التنكر له ورفض تحريره من أسر العبودية بسبب سواد لونه وعاد عنترة مكلوما إلى مرابض الابل وزرائب الحمير بينما سادة القبيلة يتفاخرون بالانتصار على الاعداء·
مهر عبلة
وبعد فترة أغارت احدى القبائل على مضارب قبيلة عبس وهزمت كبار سادتهم ومنهم شداد، وأخذت نساءهم سبايا، واستنجد منادي عبس 'ويك عنترة' ولكن عنترة تقاعس فجاءه أبوه الذي كان يرفض الاعتراف به ليس كولد فحسب وإنما كإنسان وقال له 'كرّ يا عنترة' أي حارب، فقال عنترة 'العبد لا يحسن الكر وإنما يحسن الحلاب والصر'، فقال شداد 'كر وانت حر'، فكّر عنترة ونزل على الاعداء كالجبل وقتل سادتهم وشرد فرسانهم، واسترد نساء عبس من أسرهم، واعترف به أبوه وألحق به نسبه، وفي حرب داحس والغبراء دوخ أعداء بني عبس، وترسخ فارسا من فرسان القبيلة المعدودين، وأعفي من الرعي وحراسة الابل
وقبل تحريره من اسر العبودية كان عنترة يحب ابنة عمه عبلة، ولكنه كتم حبه في قلبه، وبعد ان تحرر وصار فارسا مغوارا تتناقل القبائل أخبار بطولاته تقدم لعمه مالك لخطبة عبلة، ولكن العم ثار على تجاوز 'العبد' حدود اللياقة، ونظرا لخوفه من رفض عنترة مباشرة، طلب منه مهرا تعجيزيا من النوق العصافير، وبدأ عنترة رحلة البحث عن مهر عبلة من الحيرة، وهناك خاض معركة حامية الوطيس مع فرسان المنذر ملك الحيرة، ووقع في أسرهم، وأثناء أسره قتل أسدا دخل خيمة الملك المنذر بيديه فقط بينما قدماه في الاغلال، مما دفع الملك المنذر لفك أسره وقدمه واحترمه، وأرسله إلى كسرى للفوز بعطاياه حتى يعود بمهر عبلة·
في ذلك الوقت كان كسرى يعاني فارسا روميا قتل العديد من فرسانه، ولم يستطع أحد من جند فارس مواجهته، وبمجرد وصول عنترة دفعه كسرى لمنازلة هذا الفارس، وما هي الا مناوشات قليلة حتى صرعه عنترة، وبفضله انتصر جيش كسرى على الروم، فقدم كسرى لعنترة العطايا والجواري الجميلات، غير ان عنترة رفض اغراءات النساء، وأصر على العودة لوطنه والزواج من حبيبته عبلة·
الأقران
عنترة بن شداد طوال مسيرته عانى حسادا وحاقدين كثيرين من أقرانه منهم 'داجي' الذي صرعه و'أدخل طوله في عرضه' وهو طفل، ومنهم منافسوه على عبلة، وآخرهم الأسد الرهيص الذي طعن عنترة بسهم مسموم، والرواية الشعبية تقول إن الأسد الرهيص كان ظالما، وكان من أشد العرب قسوة، ولما كثرت جناياته اسره عنترة وامر اخاه شيبوبا ان يعذبه عذابا أليما، فضربه شيبوب حتى أعماه، وذات ليلة خرج عنترة من الخباء مع شيبوب، وراحا يتحدثان، فسمع الاسد الرهيص صوت عنترة، وكان فاقدا للبصر، فسدد سهما مسموما إلى مصدر الصوت، وشاء القدر ان يقع السهم في جزء حساس من جسد عنترة، ولم يهتم به غير انه صرخ بأعلى صوته غاضبا، فسمع الأسد الرهيص صوته فظن ان السهم لم يصل إليه ومات لساعته وقضى من الخوف نحبه بعد ان شقت مرارته، وتبادر إلى عنترة الرجال والنساء يسألونه عن حاله، فأعلمهم انه اصيب بسهم لا يدري من أين أتاه، فخرج شيبوب ليتحرى الخبر، فوجد الاسد الرهيص ميتا والقوس والنبال بجانبه، فعرف انه هو من رمى عنترة، وانه قد مات بعد ذلك، فعاد إلى عنترة واخبره بالخبر·
الأصل الإماراتي
وفي ذلك الوقت كان عنترة بالعراق وعندما يئس من علاج طعنة الأسد الرهيص المشربة بالسم، وعلم انه هالك لا محالة، جمع أهله وأمرهم بالاستعداد للرجوع إلى أرض الوطن، وسار في هودج إلى دياره، ولكنه عندما أحس بأنه يموت أمر رفاقه بالاسراع وتركه وشأنه لانه سيموت حتما، على ان يعود الفرسان بعد ذلك فيأخذوا جثمانه ليدفن في أرض بني عبس، وعندما علم القوم بموته أرسل قيس بن زهير سيد عبس جماعة من الفرسان لحمل جثته، فعادوا به وحفروا له قبرا بجوار قبر ابيه وقبر صديقه مالك بن جذيمة حسب وصيته·
والمعروف ان موطن عنترة بن شداد وقبيلته عبس في الجزيرة العربية، ولكن تحديده مختلف عليه· فمنهم من قال انه في 'العلم السعدي' بالقرب من المدينة المنورة، ومنهم من قال غير ذلك، ومؤخرا اثبت احد الباحثين المهتمين بالتراث العربي ان عنترة بن شداد ينحدر من منطقة 'ليوا' في دولة الإمارات العربية المتحدة، وأوضح ان تلك المنطقة من امارة أبوظبي كانت موطن قبيلة عبس التي ينتمي إليها أشعر شعراء العشق والفروسية في التراث العربي، كما اثبت الباحث الذي اجرى دراسات حول انساب القبائل في المنطقة ان عشيرة القبيسات الياسية وهي احدى القبائل العريقة في دولة الإمارات تنحدر أصولها من قبيلة عبس، وان تسمية منطقة 'ليوا' محرفة من تسميتها القديمة وهي 'الجواء' التي تحولت إلى 'اليواء' لان أهل الامارات يلفظون الجيم ياء، وان منطقة 'الجواء' كانت موطن قبيلتي عبس وذيبان، معتمدا على قول عنترة بن شداد في احدى قصائده: 'يا دار عبلة بالجواء تكلمي وعمي صباحا دار عبلة واسلمي'·