أحمد شعبان (القاهرة)
بني أولغ بيك مدرسة عالمية نموذجية تعد من أهم مدارس سمرقند التاريخية جمع فيها جهابذة العلوم الشرعية واللغوية والتجريبية، الذين ساهموا في رفعة الحضارة العربية والإسلامية، وقد توقفت هذه المدرسة الدينية والعلمية بعد أن تحولت في العام 1336هـ - 1918م إلى مبان أثرية سياحية.
وأولغ بيك هو ميرزا محمد طور غاي بن شاه رخ بن تيمور كوركان السمرقندي، اشتهر منذ شبابه باسم أولغ بيك وتعني الأمير الكبير، ولد في السلطانية بايران العام 796هـ وتوفي في هراة سنة 853هـ، كان أميراً وعالم فلك ورياضيات وهو حفيد القائد المغولي تيمور لنك، وعاش في قصر الحكم، حيث كان والده سلطاناً على رقعة واسعة من بلاد الشرق، واتخذ هراة بأفغانستان عاصمة لمملكته.
بدت عليه علامات الذكاء والنبوغ والحكمة في سن مبكر، فولاه والده إمارة التركستان وبلاد ما وراء النهر، فاتخذ سمرقند عاصمة لإمارته وهو ابن ستة عشر عاما، ولم يكن مهتما بالسياسة، لكنه أراد أن يجعل من سمرقند مركزاً للعلم، فقرب إليه العلماء وأوسع في مجالسه للشعراء والمؤرخين ووضع كتاب «أولوس أربع جنكيزي» عن أبناء جنكيز خان، فقد كان أولغ بيك مؤرخا، ونظم الشعر ورصد الكواكب، وكان فقيهاً حافظاً للقرآن الكريم، وأديبا من كبار أدباء المسلمين، وله اهتمامات في العلوم الرياضية خاصة الهندسة لقناعاته بضرورة هذا الفن لفهم علم الفلك.
كان أولغ بيك مغرماً بفن العمارة الإسلامية لذلك اشتهرت سمرقند في عهده بأبنيتها الفاخرة، فقد شيد مسجده بالنقوش الجميلة والفريدة، وكان يضرب بجماله المثل في أنحاء العالم، وأمر ببناء مدرسة لتعليم العلوم الدينية واللغوية والتجريبية، وتولى التدريس بنفسه بهذه المدرسة.
وتصف المصادر التاريخية المدرسة بأنها إحدى طرز العمارة الإسلامية ويطلق عليها العمارة التيمورية متأثرة بالعمارة الهندسية والفارسية القديمة، وهي ذات واجهة مهيبة عالية، حول بوابتها مئذنتان عاليتان وتظهر قبة في ركن جانبي مزخرفة بالنقوش البديعة وتضم 50 غرفة للدراسة والإعاشة ويدرس بها 100 طالب ازدادوا بعد ذلك، والمبنى مكون من طابقين وأربع قباب فوق قاعات الدراسة الركنية.
أسند أولغ بيك إدارة المدرسة إلى النابغة والفلكي المشهور أحد أبرز الفلكيين في العصور الوسطى، القاضي زادة الرومي الذي درس العلوم الرياضية في خرسان وبلاد ما وراء النهر، فعندما ذاع صيته في سمرقند، كأحد أكبر علماء الرياضيات، استدعاه وعيَّنه أستاذاً له، وكان له الفضل في مواصلة أولغ الدرس والبحث، مما دفعه إلى تأسيس مدرسة عالية.
وكان قاضي زادة يدّرس للطلاب ومدرسي القاعات ويحاضرهم مجتمعين، وعرف عنه انه شديد المحافظة على كرامة العلماء والأساتذة لا يرضى بالتعدي على استقلالهم أو محاولة الضغط عليهم، ويروى أن أولغ بيك عزل أحد مدرسي مدرسته، فاحتج قاضي زادة وانقطع عن التدريس وإلقاء المحاضرات، ثم شعر بخطئه فذهب إليه بنفسه وسأله عن أسباب الانقطاع فأجابه: كنا نظن أن مناصب التدريس من المناصب التي تحيطها هالة من التقديس لا يصيبها العزل وأنها فوق متناول الأشخاص، ولما رأينا أن منصب التدريس تحت رحمة أصحاب السلطة وأولي الأمر وجدنا أن الكرامة تقضي علينا بالانقطاع احتجاجا على انتهاك حرمات العلم والعبث بقداسته، وعند ذلك اعتذر أولغ بك وأعاد المدرس المعزول وتعهد بعدم التعرض لحرية الأساتذة والمعلمين.
وللقاضي زادة رسائل نفيسة ومؤلفات قيمة أعدها في مدرسة أولغ بك، منها كتاب «شرح ملخص الهيئة» وضعه بناء على طلب أولغ بك، وهو شرح لكتاب «الملخص في الهيئة»، وكذلك له شرح لكتاب «شرح ملخص في الهندسة» تأليف محمود بن محمود الخوارزمي وقد عمل الشرح بناء على رغبة أولغ بيك أيضاً.