16 يناير 2010 22:43
كتاب “فكرة الهند” لمؤلفه سونيل خيلناني يبحث في الدعائم الفكرية والعملية للهند الحديثة، التي أتاحت لها هويتها المتميزة وأبقتها طوال نصف القرن الماضي، دولة ديمقراطية ومتسامحة ومنفتحة فكرياً، ومن بين كثير من الأفكار الممكنة عن الهند، يتمحور الكتاب حول فكرة معينة ويناصرها لأنها هي وحدها التي تمكن الأفكار الأخرى من النشوء وتقودها إلى التعايش مع بعضها البعض، وهي الفكرة التي يطلق عليها الكاتب “فكرة الهند”.
يقول المؤلف سونيل خيلناني في بداية كتابه “فكرة الهند” وفي فصل بعنوان “الديمقراطية”:”خلافاً للأساطير القومية للهند، المفتونة بالجمهوريات الريفية السحيقة، لم يكن تاريخ الهند قبل الاستقلال يهيئها لاعتناق الديمقراطية الحديثة، كما لم تكن الديمقراطية هدية من البريطانيين المغادرين، بل جاءت الديمقراطية بعد صراع تاريخي عظيم”.
ويوضح خيلناني أن تجربة الاستعمار المذلة والتي وصفها أيضاً بـ”الممكنة” جعلت من المستحيل للهنود أن يعتبروا ماضيهم مورداً كافياً لتأهيلهم لمواجهة المستقبل، وأوقعتهم في مهانة الصراع مع أنفسهم، وذلك في صراعهم مع عقد الحكم الأجنبي الدقيقة، ولكنها في الوقت نفسه حفزتهم على تخيل إمكانيات جديدة، أن يكونوا أمة واحدة، ويمتلكوا دولة خاصة بهم، والقيام بذلك وفقاً لشروطهم في عالم الدول الأخرى، وعن طريق إعلاء صرح دولة سادت سلطتها في سائر أرجاء المعمورة الهندية الواسعة تدريجياً، حوّل البريطانيون السياسة إلى حقل محتوم كان على الهنود أن يتعلموا تمثيل دورهم فيه.
نضال تاريخي
يذكر خيلناني أن الهند ما قبل الاستعمار لم تتجسد فيها السلطة في فكرة دولة، ففي شبه القارة الهندية كلها كانت الاقتصادات والثقافات المختلفة تقابلها مجموعة متنوعة من الترتيبات السياسية، ولم تكن تماثل الاستبداد الشرقي الجامد كما صوره ووصفه المؤرخون الماركسيون والاستعماريون.
ولكن وجدت هناك أشكالا من السياسات التداولية والتشاورية، و لم يكن هناك نضال تاريخي طويل لإقامة مؤسسات الحكم التمثيلي، ولم تعمل الحركات الشعبية الواسعة النطاق على كبح سلطات الحكم (على الرغم من وجود جمهور ريفي وحضري نادراً ما كان سلبياً في اتجاهاته).
والأهم من ذلك، وفقاً لخيلناني، أنه قبل الاستيلاء البريطاني التدريجي على معظم مناطق الهند، لم تحكم أي امبراطورية شبه القارة الهندية بكاملها، ونجح النظام الاجتماعي الهندي في كبح جماح طموحات السلطة السياسية وجعلها مقاومة بشكل غير عادي للتشكيل السياسي.
تسلسل فريد
يرجع خيلناني هذه المقاومة إلى القرية وشكلها المتميز في المجتمع، بما فيها من مجموعات بالآلاف تحكمها قواعد صارمة من زواج الأقارب، والمحرمات الخاصة بالنقاء، أوجدت تسلسلا هرميا اجتماعيا فريدا يسمى فارنا.
ويوضح أنه من الصعب تفسير هذا النظام المعقد الناتج عن هذا التقسيم والارتباطات الاجتماعية تفسيراً مقنعاً غير أن الكاتب يعود ليؤكد أن الهند لم تكن مجرد أرخبيل للقرى المكبلة بروابط الطبقة المحلية، فسيادة الأساليب المعمارية والجمالية المشتركة، وكذلك الأساطير والرسوم الشعائرية المشتركة تشهد بتواجد قوة أكبر متماسكة بشكل ملفت، ولم تستمد قوتها من السلطة السياسية الفريدة مثل الدولة المطلقة، ولا من ديانة موحدة ومنظمة تحكمها الكنيسة، بل استمدت قوتها من الآليات الأيديولوجية لتاريخ الهند ما قبل الاستعمار.
ثم يعرج الكاتب إلى الحديث عن ذلك التاريخ فيصفه بأنه خلاف لتاريخ أوروبا، لا يظهر ارتقاء صاعداً في مسؤوليات وقدرات الدولة، فبداية الدولة، وبعدها عما يعتبر الأساس الخلقي للمجتمع، كان أساساً لاستقرار المجتمع، ولكن ذلك أيضاً جعل السياسة خاصرة مكشوفة، ومجالاً للاتصال بالعالم الخارجي.
بلقنة الهند
يدلف خيلناني إلى تناول حقبة نهاية الحكم البريطاني وانسحاب الوحدات الحاكمة التي استندت في صلاحية حكمها إلى القوة والسلطة الامبراطورية، فيقول إن هذا الانسحاب أثار تساؤلات مربكة عن سلطة أي دولة وريثة للسيطرة على المنطقة وحكمها.
ويشير إلى أن البريطانيين كانوا ميالين إلى بلقنة الهند البريطانية (البلقنة مصطلح سياسي جغرافي يقصد به تفتيت أو تقسيم منطقة أو دولة إلى مناطق أو دويلات أصغر والتي غالبا ما تكون متعادية أو غير متعاونة)، وكان من شأن ذلك ترك الهند موزعة بين سلطان الأمراء وحكم رجال الدين، ولكن هذه الفكرة لا يمكن تصورها بالنسبة للمؤتمر الهندي، فهي صورة مزيفة للاستقلال، وباعتباره ممثل الوطن، فقد أدى لنفسه الحق في الدولة وأراضي الهند البريطانية بكاملها. غير أن ممثلي المسلمين تحت الحكم البريطاني عارضوا هذا الإدعاء بقوة إلى أن تم تقسيم البلد إلى الهند الهندوسية وباكستان المسلمة لحل النزاعات بشأن من يتمتع بسلطة الحكم على منطقة الهند البريطانية، وبالفعل قسموا البلد إلى جزأين وخلفوا أرضاً لدولتين وريثتين، ولكن التقسيم لم ينجح في حل النزاعات، بل على العكس من ذلك، أصبح مادة متكررة في التاريخ اللاحق لشبه القارة الهندية ولم يزل بعد.
الخلافة الأولى
بعد التقسيم وسيطرة المؤتمر الهندي على مقاليد الحكم في الهند، ومع استمرار العملية التاريخية الطويلة الأمد في إضفاء المركزية على السلطة التي بدأت إبان الحكم البريطاني وتم تسريعها في سنوات حكم نهرو والعقدين التاليين لوفاته، يشدد الكاتب على أنه ولأول مرة أخذت المصالح والمجموعات الجديدة تتقدم ويتيسر لها الوصول إلى السلطة في معظم تلك الفترة ظلت الهند خاضعة لحكم ابنة نهرو الوحيدة، أنديرا غاندي، وكانت المصادفة هي التي جعلتها رئيسة للوزراء.
ويفسر خيلناني، قائلا:”جاءت الخلافة الأولى التي تعد ذات أهمية بالغة لأية دولة ديمقراطية في ظروف صعبة، فلم يعمد نهرو إلى إقامة توارث للحكم، ورغم أن أنديرا غاندي اقتحمت مجال السياسة تحت عين أبيها، إلا أنه لم يعدها للحكم، بل كانت وفاة خليفة نهرو لال بهادر شاستري المفاجئة، في يناير 1966، بعد أقل من سنتين في الحكم هي التي أوصلتها لكرسي الحكم، وهي حادثة تصادفية غيّرت مجرى التاريخ الهندي”.
ويلفت الكاتب إلى أن الإجراءات التي اتخذتها انديرا غاندي خلال سنوات حكمها غيرت معنى الديمقراطية لكل من الدولة الهندية ومجتمعها، وتقلص معناها ليكون مجرد عبارة عن الانتخابات، وفي داخل الدولة، تم إخضاع اللياقة والتوازن الدستوري لما فسرته القيادة السياسية وإرادة الشعب، ثم التعبير عنها في شكل أغلبيات انتخابية.
معابد المستقبل
يقول خيلناني:”كان الانسياق جلياً تجاه تصور يعقوبي للسيادة الشعبية المباشرة، وأصبحت المجموعات الفقيرة والمقموعة أكثر وعياً بخطورة الانتخابات، وتم تلفيق راديكالية غير منظمة للتودد إليها، إذ حاول الساسة أن يتفوق بعضهم على بعض في تقديم الخطابات المبالغ فيها. أما السيدة غاندي فقد سعت استناداً إلى الأغلبية البرلمانية الساحقة ولاسيما بعد 1971، إلى تصوير الدستور الهندي بوضعه عائقاً محافظاً في سبيل طموحتها الراديكالية”.
ومن الديمقراطية ينتقل الكاتب إلى الحديث عما أسماه بـ “معابد المستقبل”، لافتاً إلى أن الهند بعد الاستقلال قررت السير على درب التصنيع المخطط، لكون اقتصادها الزراعي الهائل كان من أفقر اقتصادات العالم في ذلك الوقت. ويشير إلى أنها ورثت من غاندي رؤية مضادة تماماً لمشروع الحداثة الصناعية، وعلى الرغم من أن الهند احتضنت عمالقة الرأسماليين الصناعيين (كانت الهند بنهاية الحرب العالمية الثانية عاشر أكبر منتج للسلع المصنعة في العالم) ولكن قادتها لم يتمكنوا من تكوين طبقة متحدة قوية باستطاعتها أن تدفع مشروع التصنيع إلى الأمام في مجتمع يتكون من المزارعين والتجار وأصحاب الدخل من الأراضي، ومع ذلك وفقاً لخيلناني فإن هند ما بعد الاستقلال كان بها اتفاق عام على المشاكل التي واجهت الهند المستقلة أي الفقر على نطاق مذهل والتهديدات المتكررة بحدوث مجاعة، والحاجة إلى الحفاظ على الاستقلال الاقتصادي، واللامساواة بأنواعها داخل المجتمع.
المدن الكبيرة
الحلول المقترحة اختلقت وتباينت لأن القضايا النوعية التي شغلت بال الوطنية الهندية لم تحتضن إلا نادراً التفكير الشامل بشأن الثروة والسلطة، أو بشأن الترتيبات العملية التي أعتبرت لازمة لإحرازها في ظل الأوضاع الحديثة. وبعد حديث مستفيض عن الاقتصاد الهندي منذ الاستقلال وحتى نهايات القرن العشرين، يعرج الكاتب إلى تناول المدن الهندية الكبيرة في العصر الحديث، لافتاً إلى أنها كانت نتاجا مباشرا للاستعمار أو ردا عليه، وهي غير متواصلة مع تاريخ الهند الغني بالحياة الحضرية.
ويقول خيلناني إن البريطانيين حكموا المساحة العامة داخل المدن وفقاً لمبادئهم الخاصة الغريبة عن البلد، وقد أحدث هذا قناع المدينة الحديثة المصممة على الزهو بالعقلانية والسلطة المتفوقة للحكم البريطاني، ولكن تعوزها القدرات الإنتاجية، واقترنت بحداثة المدينة الاستعمارية فخامة ورزانة ولكنها بقيت خارج عن حياة المجتمع.
ولكنه يعود ليشير إلى أن الذي جلب الهنود إلى المدن وجعلها محط انتباههم هو ديناميتها الاقتصادية، حيث اتخذت الدولة القومية مقرها في المدينة، وهي التي خطط فيها طموح نهرو لتحديث وتطوير المجتمع الهندي، وتم بثه فيما بعد عبر القرون الهندية كلها.
مسرحية الديمقراطية
يرى الكاتب أن المدن الهندية صارت بفعل عملية التحديث تلك مليئة بالتجارب المثيرة، فوجدت فيها جميع إغراءات العالم الحديث، كما اكتشف فيها الكثير من الهنود أن العالم الحديث هو بمثابة السراب، وهذه التجربة بالذات قد غيرت المعتقدات وولدت السياسة الجديدة وحولت المدن إلى مشاهد مسرحية للديمقراطية الهندية، أي أماكن يتنازع فيها على فكرة الهند ويتم تحديدها وفي الفصل الأخير من الكتاب وهو بعنوان “من هو الهندي” يقول المؤلف أن لغز وحدة الهند والهوية الهندية أثار عديد من الاستجابات في داخل الحركة القومية التي أفضت بالهند إلى الاستقلال فاستجابة نهرو كانت إحدى هذه الاستجابات ولم تكن هذه مرتبطة بالقومية بشكل عمومي، “فالقومية الهندية” هي عبارة مختصرة ومضللة بعض الشيء لوصف عصر رائع من الاختبار والتجريب الفكري والثقافي الذي بدأ في أواخر القرن التاسع عشر.
مسؤولية الاختيار
يؤكد خيلناني أنه بعد مضي خمسين سنة على قيام الدولة الهندية، فإن تعريف “من هو الهندي؟” يظل موضوع المناقشة الحادة كما في السابق، والشيء الذي أبقاه قيد المناقشة الحادة هو تواجد الدولة التي تتركز في أيديها الموارد الهائلة، هذا ما يجعل الموضوع شيئاً جديراً بأن يناضل من أجله، فاستمرارية السياسة الديمقراطية هي التي جعلت معظم الناس يتنافسون على الجائزة، يوجد التنافس بشأن الفرص الاقتصادية والاعتراف الثقافي، وهو تنافس على ملكية الدولة ويمكن رؤية حدة هذا الصراع في التنوع الهائل للمطالب الموجهة إلى الدولة، المطالب التي أثارتها وفي الوقت نفسه أحبطتها الديمقراطية والتقدم الاقتصادي، ولذلك فإن قبول هذه التعددية الموروثة والمتنامية، والقدرة على التعايش معها تشكّل لوازم عملية للهنود، وقد أظهر تاريخ الهند إمكانيتين عامتين للتعامل مع هذه التعددية: نهج تعددي وارتجالي وغير مُرتب، أو نهج حصري تطهيري وعقلي، لأول مرة في تاريخها الطويل، أعطى تاريخ الهند للجيل الحاضر من الهنود مسؤولية الاختيار من بين هذين الخيارين.
المصدر: أبوظبي