10 أكتوبر 2009 00:37
كل جنيه تنفقه مصر على تجديد شباب السد العالي يعد إنفاقا على حياة مصر وتأمينا لهذه الحياة، فالسد العالي ليس مجرد شريان حياة بل هو الحياة نفسها وهو روح المصريين وقوتهم ومصدر رزقهم خصوصا في هذه الأيام التي تشهد صراعا على المياه وندرة في مصادرها، واتجهت مصر منذ فترة إلى الإنفاق بسخاء على تجديد شباب السد العالي وتم إنفاق 1.8 مليار جنيه على تجديد محطات توليد الكهرباء الضخمة بجسم السد وزيادة عمرها الافتراضي أربعين عاما قادمة ويستكمل هذا المشروع الحيوي العام القادم. وفي أقصى جنوب مصر تحولت أحلام قديمة إلى حقيقة ماثلة أمام الناظرين وهذه الأحلام دارت كلها حول ترويض النيل والسيطرة نهائيا على فيضاناته الجامحة وشحه أحيانا بالمياه، ومنهم الفيزيائي العربي الشهير الحسن بن الهيثم الذي قال وهو بعد في موطنه ببغداد: «لو كنت بمصر لفعلت بنيلها صنيعا ينتفع بعده بمائه في كل وقت». وعندما سمع الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله بقول ابن الهيثم استدعاه إلى مصر ووفر له كل ما يعينه على بلوغ مرامه وبالفعل انطلق الحسن في مركب عبر النيل بحثا عن موضع يصلح لتشييد سد تحجز خلفه مياه النيل ولكنه عندما وصل إلى أسوان كان قد تيقن العجز عن فعل أي شئ فاختفى عن العيون خشية بطش الحاكم به ولم يظهر إلا بعد وفاة الخليفة وتملك اليأس ابن الهيثم بعدما شاهد المعابد الفرعونية وحدثته نفسه بأنه لو كان بالإمكان تنفيذ عمل هندسي لتخزين مياه الفيضانات العالية لنفذه أولئك الجبابرة الذين أقاموا الأهرامات الضخمة والمعابد العملاقة.
التحكم بالنيل
اكتفت مصر بالقناطر التي تتحكم جزئيا في توزيع مياه النيل إلى الأراضي الزراعية ثم ارتقت مع النصف الأول للقرن العشرين إلى إنشاء الخزانات مثل خزان جبل الأولياء وخزان أسوان ولكن حلم إنشاء السد العالي ظل يداعب المهندسين ومنهم مهندس يوناني ظل منذ عقد الخمسينيات يتردد على أروقة وزارة الري والأشغال المصرية حاملا معه أوراق التصميمات الهندسية لسد عند أسوان. وأبدى الرئيس الراحل جمال عبدالناصر الاهتمام بآراء هذا المهندس وأحيل مشروعه للدراسة وبعد تمحيص قررت مصر في عام 1955 إنشاء السد واقتنع البنك الدولي بتنفيذه لما سيحققه من فوائد تتصل بتخزين مياه الفيضانات العالية لاستخدامها في أوقات انخفاض الفيضان وأيضا تحويل الأراضي الزراعية للري الدائم مع توليد طاقة كهربية رخيصة لأغراض الإنارة والصناعة.
وأدت ظروف الحرب الباردة انذاك لسحب البنك الدولي لتمويله بإيعاز من الولايات المتحدة وبريطانيا مع التشكيك في قدرة مصر على تحمل تكلفته، الأمر الذي دفع عبدالناصر لتأميم قناة السويس للإفادة من دخلها في تمويل السد. وهكذا خرج الحلم من رحم الحرب بعدما شن العدوان الثلاثي الشهير ضد مصر في عام 1956 والذي انتهى بهزيمة سياسية منكرة للمعتدين ليبدأ تشييد السد العالي في يناير1960بمعونة من الاتحاد السوفييتي.
وتقوم فكرة السد على إنشاء بحيرة صناعية تستخدم لتخزين مياه الفيضان وأمامها جسد السد الركامي بفتحات تتحكم في التصرفات المائية وقد تم الانتهاء من تشييد جسد السد في 16 مايو 1964 وتم تحويل مجرى النيل ليمر عبر فتحات جسد السد. واعتبرت الهيئة الدولية للسدود أن السد العالي هو أعظم مشروع هندسي شيد في القرن العشرين ليسبق بذلك مشروعات عملاقة مثل نفق المانش الذي يربط بين انجلترا وفرنسا وذلك لما حققه السد من فوائد عادت على الجنس البشري حيث وفر لمصر رصيدها الاستراتيجيي من المياه بعد أن كانت مياه النيل من أشد الفيضانات التي تذهب سدى في البحر الأبيض عدا 5 مليارات متر مكعب يتم حجزها. وتتألف مكونات السد العالي من جسد ركامي استخدم في تشييده 43 مليون متر مكعب من الأسمنت والحديد ومكونات أخرى ويصل طوله الى 3830 مترا ومنسوب قاع السد85 مترا وارتفاعه عند القمة 196 مترا وعرضه في المجرى الرئيسي 520 مترا وتلك أضيق منطقة في مجرى النيل جنوب أسوان. وعرض قاعدة السد 98 مترا وعند القمة 40 مترا.
أما بحيرة السد التي سميت ببحيرة ناصر فمتوسط عرضها 10كيلومترات وطولها 500 كيلومتر وتتسع لتخزين 162 مليار متر مكعب من المياه وتعتبر اكبر بحيرة صناعية في العالم واكبر خزان أيضا. وهناك أيضا مفيض توشكي الذي يتم تصريف المياه الزائدة على منسوب 178 مترا عبره لتصب في منخفض توشكي غرب النيل من خلال قناة طولها 225 كيلومترا وقد دخلت المياه لأول مرة مفيض توشكي في 15 أكتوبر 1996 وهو ما ساعد على البدء في المشروع الزراعي الكبير في توشكي. وآخر أجزاء السد العالي هي قناة التحويل وتقع في الضفة الشرقية للنيل وتستخدم لإمرار التصرفات المطلوبة للري ولها قناة أمام السد وأخرى خلفه وبينهما الأنفاق الستة المحفورة تحت الجناح الأيمن للسد وهي مبطنة بالخراسانة المسلحة ويتم التحكم في فتحاتها كهربيا.
وعند مخارج الأنفاق تـوجد محطة كهرباء السد حيث يتفرع كل نفق الى فرعين مركب على كل منهما توربينان لتوليد الكهربا وتصل الطاقة الكهربية المنتجة من المحطة الى مليار كيلو وات ساعة سنويا والى جانب توجيه هذه الطاقة الكهربية لإنارة الريف ولأغراض الصناعة فإن بعضها يصدر حاليا لكل من سوريا والأردن ولبنان وليبيا وتركيا وتونس والجزائر والمغرب.
وكلف مشروع القرن العشرين مصر حربا أدخلتها إلى قلب الأحداث، واكتسبت قيادة عبد الناصر شعبية جارفة في الوطن العربي ومنحت مصر موقعا رياديا في حركة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، والاهم من ذلك ان معركة تأميم قناة السويس لتمويل بناء السد العالي كانت اخر الأحداث الكبرى التي شارك فيها قطبا الاستعمار القديم فرنسا وبريطانيا، وكانت نتيجة المعركة بمثابة إعلان غروب شمس الدولتين لتحتل الثنائية القطبية، الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي صدارة المشهد الدولي.
وجدير بالذكر أن مصر قامت بالتعاون مع اليونسكو بإنقاذ الآثار التي كانت ستغمرها مياه بحيرة ناصر في منطقة النوبة فنقل معبدا ابو سمبل الى جبل يزيد ارتفاعه بمقدار 65 مترا عن الأرض التي غمرتها المياه كما نقلت أيضا معابد جزيرة فيلة الى جزيرة انجليكا القريبة منها عند أسوان خشية عليها من تدفقات مياه السد العالي واهمها معبد ايزيس الذي شيد في العصر البطلمي على نسق المعابد المصرية القديمة
المصدر: القاهرة