إعداد - عدنان عضيمة:
تعد الطاقة النووية من أنظف مصادر الطاقة على الإطلاق من حيث عدم إضرارها بالبيئة والهواء والماء والحياة البرية· ويضاف إلى ذلك أن توليدها لا يخلف الغازات الضارة بالحياة والبيئة· كما أن من أهم فضائلها أنها لا تشغل مساحات واسعة بالرغم من ضخامة كمية الطاقة التي تنتجها· وينبغي الانتباه أيضاً إلى أن دورة الوقود النووي التي تبدأ باستخراج اليورانيوم من مكامنه وحتى تحوله إلى نفايات نووية، لا تنطوي على إصابة البيئة بأضرار خطيرة· ويضاف إلى ذلك أن مشكلة النفايات النووية ليست أعقد من مشكلة التخلص من بقية أنواع النفايات الصناعية·
وأصبحت الطاقة النووية تلعب دوراً حيوياً في التنمية الاقتصادية المستدامة في دول العالم أجمع، من خلال توليد كمية كبيرة من الطاقة الكهربائية بأسعار بالغة الانخفاض· ولعل الأهم من كل ذلك أن المحطات النووية أصبحت تشكل المصادر الواعدة لإنتاج الهيدروجين الرخيص الذي يوصف بأنه وقود المستقبل النظيف· وتتفق العديد من التقارير الصادرة عن مراكز بحوث الطاقة في الولايات المتحدة على أن محطات الطاقة النووية المتطورة أصبحت تشكل الأمل الوحيد لاتقاء الشرور المتفاقمة للتلوث البيئي والاحترار الأرضي· ويذهب بعض الخبراء إلى حد القول بأن إعادة الطبيعة والبيئة إلى الخصائص التي كانت عليها قبل انطلاق الثورة الصناعية قبل بضع مئات السنين، لا يمكن أن يتم إلا مع نشر استخدام المحطات النووية على أوسع نطاق·
طاقة لكل الأغراض
مع الارتفاع الكبير لأسعار البترول والغاز الطبيعي، تعتزم شركة توتال الفرنسية بناء مركب للطاقة النووية لتوليد الطاقة اللازمة لاستخراج البترول الثقيل من الحقول الرملية الشاسعة المشبعة به في المناطق الغربية من كندا· وتم اتخاذ هذا القرار عقب الأحداث الكارثية الطبيعية التي كتب لها أن تعطل المنشآت النفطية في خليج المكسيك لأكثر من شهر كامل وهي التي أوحت بأن ارتفاع أسعار النفط لم يعد من الظواهر المؤقتة أبداً·
وأثبتت دراسة جدوى استغلال هذه الآبار ذات النوعية الرديئة أن الأمر أصبح يستحق الاهتمام· ويعرف عن هذا النوع من البترول الثقيل ارتفاع نسبة الزيوت والشحوم فيه وانخفاض نسبة المشتقات الخفيفة كالبنزين والكيروسين والمازوت، كما أن تكريره في مصافي النفط يتطلب جهوداً كبيرة وينطوي على صعوبات كبرى· ويذكر في هذا الصدد أن الشركات العاملة في استخراج البترول الرملي كانت تعتمد على الطاقة المتحررة من حرق الغاز الطبيعي من أجل استخراجه حيث تستخدم الطاقة الحرارية في توليد تيار من بخار الماء لصهر ودفع النفط الثقيل من التكوينات الرملية ذات العمق القليل إلى سطح الأرض·
وأدى ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي إلى زيادة تكاليف الاستخراج بنسبة 45 بالمئة منذ بداية السنة الجارية· وقررت شركة 'توتال' الفرنسية بناء محطة نووية على شاطىء بحيرة ألبيرتا لتأمين الطاقة الرخيصة اللازمة لتوليد البخار· ومن المعلوم أن المحطات النووية لا تحمل ذكرى طيبة بالنسبة للناس الذين يستوطنون شواطىء البحيرة، وذلك لأن العلماء الكنديين والأميركيين معاً كانوا قد فكروا في أعوام الخمسينات بتفجير قنبلة ذرية في منطقة الآبار الرملية حتى يندفع كل النفط الثقيل الكامن فيها إلى سطح الأرض، إلا أن هذا المشروع ووجه بمعارضة شديدة من قبل منظمات الدفاع عن البيئة وتم صرف النظر عنه·
وأعلنت 'توتال' عن مشروعها في هذا الصدد بشكل مختصر عندما أشار إيف لوي داريكارير إلى أن التفكير في استخدام الطاقة النووية لاستخراج النفط الثقيل الحبيس تحت الأرض لا يندرج في إطار الأفكار التي تنطوي على الغباء!· وأشارت مصادر الشركة إلى أن خبراء متخصصين يقومون الآن بإجراء دراسة شاملة للمشروع الجديد·
محطات في كل مكان
وعلى أن هذا الاتجاه الذي تسلكه 'توتال' ليس إلا مجرد مثال منفرد عن المؤشرات القوية التي بدأت تظهر بوضوح قوة التوجّه العالمي لاستخدام الطاقة النووية كحل عملي لمشكلة ارتفاع أسعار البترول· وأصبحت الكثير من دول العالم تفكر بجد في بناء محطات الطاقة النووية، ومنها فنلندا التي عمدت إلى إنشاء محطة جديدة للطاقة النووية تعد الأولى من نوعها التي يتم بناؤها في أوروبا الغربية منذ 13 عاماً· واختارت فرنسا موقعاً خاصاً في مقاطعة النورماندي الشمالية لبناء مفاعل نووي لتوليد الطاقة الكهربائية· وبالرغم من أن الولايات المتحدة لم تعمد لبناء أية محطة نووية جديدة منذ ثلاثة عقود، إلا أن أرباب الصناعة الأميركيين باتوا أكثر اهتماماً بالتفكير في إعادة استغلال الطاقة النووية كبديل مفضل ورخيص للبترول والغاز الطبيعي والفحم الحجري· وتبدو إدارة الرئيس جورج بوش ميّالة إلى تشجيع هذا التوجه الجديد·
ويقول تقرير نشرته صحيفة 'ذي وول ستريت جورنال' أنه إذا ما دخل المشروع المقترح من شركة 'توتال' حيز التطبيق، فلا بد أن يشكل دافعاً قوياً لأرباب الصناعات الكبرى لإطلاق مشاريعهم النووية بهدف تحقيق القدرة على المنافسة من خلال الحصول على الطاقة الرخيصة· ولا شك أن محطات توليد الطاقة الكهربائية سوف تكون السباقة لاستبدال مصادر الطاقة التقليدية لتوليد الكهرباء بمفاعلات توليد الطاقة النووية·
وجاء في التقرير الذي كتبه المحلل دافيد جوثييه فيلار أن التكلفة الإجمالية للمفاعل الفنلندي للطاقة النووية بلغت 3 مليار يورو وتولت بناءه شركتا 'أريفا الوطنية' الفرنسية، و'سايمنز' الألمانية وتشرف على تمويله مجموعة شركات أوروبية كبرى معنية بصناعة عجينة الورق·
وفي كندا، تشرف 'توتال' على نصف حقول البترول المختلط بالرمال في مناطق بحيرة ألبيرتا، وعمدت مؤخراً إلى شراء مساحات شاسعة من الحقول العامرة بالطبقات الرملية المشبعة بالنفط الثقيل والمنتشرة في المنطقة الغربية من البلاد· وقالت مصادر الشركة أنها تخطط لاستثمار 7 مليار دولار في هذه الآبار بعد أن اشترت أصولها من شركة ''دير كريك' بمبلغ 1,4 مليار دولار· وأشارت مصادر خبيرة في الشركة أنها تتوقع إنتاج 200 ألف برميل من النفط الخام الثقيل كل يوم، أو ما يعادل نحو 8% من مجمل الإنتاج العالمي اليومي للشركة·
وتتضمن تكوينات الطبقات البترولية الرملية في كندا نحو 174 مليار برميل من النفط الخام مما يجعلها تحتل المرتبة الثانية من حيث غزارة مخزونها بعد المملكة العربية السعودية· ويذكر في هذا الصدد أن 'النفط الرملي الثقيل' هو مزيج من الرمل والنفط الخام المعروف باسم 'البيتومين' والذي اكتشف منذ أكثر من قرن مضى إلا أن استخراجه بالطرق الرخيصة لم تكتشف إلا في السنوات الأخيرة في أعقاب الارتفاع الاستثنائي في أسعار النفط· ومع استمرار أسعار النفط في الارتفاع أصبحت الطاقة النووية هي الحل المثالي لاستخراجه بتكاليف منافسة تجارياً·
الجيل الثالث
في الولايات المتحدة وبعد طول انقطاع عن التفكير في تطوير مشاريع إنتاج الطاقة النووية، أعلنت إدارة الرئيس بوش في شهر أغسطس الماضي عن بدء العمل بسياسة جديدة لحل مشكلة الطاقة وقع بموجبها الرئيس بوش 'قانون السياسة الطاقية لعام '2005 وهو القانون الذي فاز بموافقة 275 ورفض 156 من أعضاء الكونغرس، وبموافقة 74 ورفض 26 من أعضاء مجلس الشيوخ·
ويشتمل القانون على العديد من المحفزات الجديدة لبناء محطات الطاقة النووية بالإضافة لإعادة تطوير وتأهيل المحطات النووية القديمة· وهو يتضمن نصوصاً صريحة لحثّ المؤسسات الصناعية المعنية على بناء المفاعلات الجديدة· وتشتمل عناصر التشجيع على منح ضمانات القروض الضخمة، وتعليق الأتاوات الضريبية إلى ما بعد بداية مرحلة الإنتاج، والحماية من أعباء دفع تكاليف تأخر عمليات البناء· ويتكفل القانون أيضاً بتشجيع البحوث المتعلقة بتطوير تقنيات إنتاج الطاقة النووية وتغطية تكاليفها·
وقال الرئيس بوش عقب توقيعه على فاتورة الدعم المالي للمشروع: 'تعد الطاقة النووية في أميركا ثاني أهم مصدر للطاقة الكهربائية· ومن بين كافة مصادر الطاقة في بلادنا، يمكن للطاقة النووية وحدها أن تولّد الكميات الضخمة من الكهرباء دون أن تطلق غراماً واحداً من الغازات الملوّثة للبيئة أو تلك التي تتسبب في مفعول البيت الأخضر· ونحن ندين بالفضل للتطور العلمي والتكنولوجي لأنه سمح لنا ببناء محطات نووية أكثر أمناً بكثير مما كانت عليه فيما مضى·
وأجد لزاماً علي أن أذكّر هنا أن الولايات المتحدة لم تعمد إلى بناء أي محطة نووية منذ أعوام السبعينات· ومع التطبيق العملي لهذا المشروع الجديد، تكون أميركا قد خطت خطوة أخرى نحو تحقيق أهدافها الوطنية الكبرى· وسوف ننطلق بمشاريع بناء محطات الطاقة النووية من دون تردد أو انتظار'·
وكانت وزارة الطاقة الأميركية أطلقت عام 2002 مشروعاً جديداً تحت شعار 'الطاقة النووية في عام '2010 يرمي إلى تعزيز الاستراتيجية الوطنية لتوفير الطاقة· ويهدف المشروع إلى بناء محطات نووية جديدة· وتسعى الوزارة إلى مشاركة القطاع الخاص في تحديد المواقع المناسبة لإقامة هذه المحطات على المستوى الفيدرالي وبحيث يمكن تحقيق الاستفادة القصوى منها، وعمدت أيضاً إلى إطلاق سلسلة من مشاريع البحوث النووية التي تراها ضرورية من أجل الرفع من مستويات الأمن النووي وزيادة كفاءة التكنولوجيات المستخدمة في المحطات النووية·
وانطلقت وزارة الطاقة الأميركية في تنفيذ سلسلة من المشاريع النووية بالتعاون مع ثلاث شركات كبرى متخصصة في هذا الميدان وأوعزت إليها بالمشاركة في اختيار الأماكن المناسبة لبناء محطات نووية جديدة· وتتعاون الوزارة مع كل من شركة 'دومينيون ريسورسيز' و'إنتيرجي' و'إكسيلون' في التحضير لبناء سلسلة من المفاعلات النووية الجديدة في كل من موقع محطة 'نورث أنّا' للطاقة في ولاية فرجينيا، وموقع كلينتون بولاية إلينوي، وموقع 'جراند جلف' في ولاية الميسيسيبي·
من جهة أخرى طلبت الوزارة من الشركات المتخصصة بتطوير تكنولوجيا الطاقة النووية إعداد التصاميم المستقبلية للمفاعلات النووية والتي تعتزم تشغيلها بحلول عام 2010 في الولايات المتحدة· وتتسارع الأحداث في هذا المجال كل يوم حيث تنعكف فرق البحث والتطوير في هذه الشركات على ابتكار أحدث التصاميم والمخططات المتعلقة بالمفاعلات النووية·
وعهدت الوزارة إلى 'مختبر إيداهو الوطني' لأن يمثل 'المركز الوطني للتكنولوجيا النووية' وبحيث يشرف على إدارة ما يعرف باسم 'برامج الجيل الثالث من الطاقة النووية لعام ·2010 ومنذ عام ،2002 عمد وزير الطاقة الأميركي سبنسير أبراهام إلى تسمية مختبر إيداهو الوطني على أنه يمثل المنشأة الأميركية الرائدة في مجال بحوث الطاقة النووية· ويقول أبراهام في هذا الصدد: 'إن الغاية الأساسية التي نرتجيها من وراء بذل هذه الجهود كلها هي إعادة الاعتبار للطاقة النووية كطاقة نظيفة وقادرة على تحقيق الكفاية الاقتصادية والتجارية والاستجابة للتنامي المطرد في استهلاكنا من الطاقة في المستقبل· وينبغي اعتبار هذه الحقائق بمثابة الدافع القوي لاتخاذ الخطوة التالية نحو إعادة بناء مختبرات البحوث النووية المتطورة'·
وبالإضافة لإسهاماته في دعم مشروع 'الطاقة النووية لعام ،'2010 يسعى خبراء 'مختبر إيداهو الوطني' لاختبار دورة متطورة للوقود النووي والبحث عن طرق أكثر أمناً لمعالجة النفايات النووية· وفي العام الماضي، افتتح أبراهام ما يعرف بمشروع 'الجيل الثالث من المحطات النووية' الذي يرمي إلى تطوير نظام جديد يكون في وسعه إنتاج كل من الطاقة الكهربائية الرخيصة بالإضافة إلى كميات كبيرة من الهيدروجين منخفض التكلفة الذي سيستخدم في دفع السيارات والآلات المتحركة· ومضى أبراهام في وصفه للجيل المقبل من المركبات النووية فقال: 'إنه يمثل قفزة واسعة جداً في عالم التكنولوجيا المتقدمة· فهو أصغر حجماً وأكثر أماناً ومرونة وأقل تكلفة من أي محطة نووية تم إنشاؤها عبر التاريخ'· وأشار أبراهام أيضاً إلى أن المفاعل الجديد سوف يتكفل بإنتاج طاقة المستقبل النظيفة التي ينتظر منها أن 'تعفي الأميركيين من الاعتماد على مصادر الطاقة المستوردة من الخارج'، كما توصف بأن في وسعها أن تحقق النمو الاقتصادي القوي إلى جانب الاحتفاظ بالصداقة مع البيئة·
من جهة أخرى أشار وليام ماجوود مدير مكتب الطاقة النووية في وزارة الطاقة الأميركية إلى أن الجيل الثالث من المحطات النووية سوف يكون قادراً على توليد كل من الطاقة الكهربائية والهيدروجين وفق درجة عالية من الكفاءة وانخفاض التكلفة، وسوف يفتح هذا التطور الآفاق الواسعة أمام عصر الطاقة النظيفة والرخيصة والآمنة· ومن خصائص هذا الجيل الثاني أنه يضع الحلول الجاهزة لمشاكل النفايات النووية وإنتاج كميات هائلة من الطاقة لأنه يستخدم مفاعلاً جديداً قادراً على توليد دفق هائل من البخار ضمن مولد كهربائي توربيني بالغ التطور· وسوف تستخدم بعض الطاقة المتحررة في إنتاج الهيدروجين من الماء من أجل استخدامه كوقود نظيف تماماً في سيارات وعربات المستقبل·
ولقد وافق الكونغرس الأميركي على الميزانية التي وضعتها وزارة الطاقة لتنفيذ مشروع تصميم وبناء الجيل الثالث من المحطات النووية· وكان هذا الجيل موضوع نقاش بدأ يدور للمرة الأولى في عام 2001 من خلال منتدى دولي نظم لهذا الغرض في الأرجنتين ضم البرازيل وكندا وفرنسا واليابان وكوريا الشمالية وجمهورية جنوب أفريقيا وسويسرا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة· واتفق المشاركون فيها على حثّ وتأهيل القطاعات البحثية والجامعية والصناعية للعمل على فسح المجال أمام مفاعلات الجيل الثالث التي تنعقد عليها آمال الحصول على الطاقة النظيفة المستدامة وأن تصبح شائعة الاستخدام في هذه الدول قبل حلول عام ·2030 واتفق المشاركون على تبادل البحوث والخبرات من أجل ضمان إنجاح هذا المشروع الرائد· وما لبث أن نظم منتدى آخر في شهر سبتمبر عام 2002 في الولايات المتحدة تطرق فيه المشاركون لتقييم أوجه التعاون التقني وتقديم المشورات المتعلقة بالفوائد والعواقب المترتبة على استخدام الجيل الثالث من المفاعلات النووية·
وتبرز هذه التطورات كلها شيئاً واحداً مفاده أن الارتفاع الكبير في أسعار النفط هو الذي نفخ الروح في مشاريع إنتاج الطاقة النووية بعد ثلاثة عقود من التهميش·