القاهرة ـ حمدي أبوجليّل:
الملك سيف بن ذي يزن ظهر في الجزيرة العربية قبل الإسلام، وقيل ان وفدا قرشيا يقوده عبدالمطلب بن هاشم هنأه بعرش اليمن، وهو من سلالة ملوك التبابعة الذين حكموا اليمن قبل الإسلام، ومنهم من مد حدود ملكه إلى العراق والشام وبلاد فارس، ولقبهم تبع يعود إلى انهم تتابعوا على ملك اليمن على مدى قرون، وقيل ان 'تبع' لقب ملكي لا يبلغه الواحد منهم الا لو دان له عرب مكة والمدينة المنورة، و'يثرب' وزير الملك سيف بن ذي يزن هو باني المدينة المنورة وأطلق عليها اسمه، غير ان الملك سيف بن ذي يزن ولد في أوج انهيار وتشرد وهوان قبيلة حمير والتبابعة، وسيرته لها روايتان، احداهما شعبية والاخرى تاريخية، والغريب ان كل رواية منهما تؤرخ لفترة تناقض ما ترويه الأخرى، الرواية التاريخية أرخت للمرحلة الأولى من حياته، مرحلة الذل والمهانة على يدي أبرهة وجنوده الاحباش، الأمور وصلت لدرجة ان ابرهة أخذ ريحانة زوجة ابيه وتزوجها عنوة، والرواية الشعبية أرخت لمرحلة الانتصار، حينما استعاد ملك جدوده واذل الاحباش وقتل ابن ابرهة، وسير ملوك الاحباش في طوابير لحراسته وحراسة أولاده
سيف بن ذي يزن ولد في ظروف عصيبة، قومه حمير الذين تتابعوا على عرش اليمن على مدى قرون ضعفوا وتشتتوا وتولى أمرهم ملك ضعيف هو حسان بن تبع وسار بأهل اليمن لغزو أرض العرب والعجم كما كانت التبابعة تفعل فكرهت حمير وقبائل اليمن السير معه وارادوا الرجوع إلى بلادهم فحرضوا اخا له يقال له عمرو وقالوا له اقتل اخاك نملكك فقتل عمرو اخاه، وعندما رجع إلى اليمن منع النوم عنه، وصار يقضي الليالي دون ان يغمض له جفن، وعندما اشتكى عدم نومه للاطباء والكهان والعرافين قالوا 'ما قتل رجل أخاه إلا سلط عليه السهر فجعل يقتل كل من أشار عليه بقتل أخيه'
هذا الملك الحميري كان يسمى موثبان لوثوبه على أخيه، وقيل لقلة غزوه ولزومه الوثب على الفراش، وقد حكم اليمن ثلاثا وستين سنة من ملكه، وبعده تربع على ملك التبابعة واحد من ألد أعدائهم وهو الملك لخيتعة الذي اذلهم وقتل خيارهم وعبث برجالات بيوت المملكة منهم· وقيل انه كان يمارس الفاحشة مع ولدان حمير بغرض افقادهم شرعية الملك، فقد كانوا لا يملكون عليهم من مورست فيه الرذيلة، وظل على هذه الحال حتى لقي حتفه على ايدي الحميريين، فقد استدرج ربيعة بن نصر التابعي وكان حسن الخلقة ليمارس معه الفحشاء فانقض عليه وقتله، وبعد مولد سيف بن ذي يزن بسنوات قليلة هجمت جيوش الاحباش على اليمن بأوامر من النجاشي ودعم كبير من قيصر روما، وبعد احتلال الاحباش لليمن بدأ ابرهة اهانة ملوك حمير ورؤسائهم، وامعانا في اذلاهم انتزع ريحانة بنت علقمة بن مالك بن زيد بن كهلان من زوجها أبي مرة بن ذي يزن سيد حمير وتزوجها وانجب منها مسروقا الذي يعتبر آخر الملوك الاحباش على اليمن
وبعد أن عاد ابرهة من واقعة الفيل مقهورا ومشردا وعلى حافة الموت، انتقم من بقايا ملوك حمير، وبالغ في اذلاهم، وبعد هلاك أبرهة تولى ابنه يكسوم وأذل حمير وقبائل اليمن ووطئهم الاحباش فقتلوا رجالهم ونكحوا نساءهم واستخدموا ابناءهم وبعده تولاهم اخوه مسروق الذي ضاعف عسف الاحباش بالحميريين وباقي العرب باليمن
كسرى
وفي ذلك الوقت كان الملك سيف بن ذي يزن في بداية الشباب واحتار في امر مواجهة مسروق والاحباش والدفاع عن قومه وهو لا يملك جيشا ولا عتادا، وتوجه أولا إلى الروم وطلب من قيصر مساعدته على مسروق والاحباش لتحرير اليمن واستعادة ملك جدوده، ولكن قيصر الروم رفض مساعدته لان الاحباش يدينون بالمسيحية مثل الروم، فتوجه سيف بن ذي يزن إلى النعمان بن المنذر للتوسط له لدى كسرى وكان النعمان عامل كسرى على الحيرة وما يليها في العراق، وشكا إليه، ووصف له الأهوال التي يعانيها العرب في اليمن على ايدي الاحباش، فقال له النعمان ان لي على كسرى وفادة في كل عام فأقم حتى يكون ذلك ففعل ثم خرج معه فأدخله على كسرى، وكان كسرى يجلس في ايوان مرصع بالياقوت واللؤلؤ والزبرجد والذهب والفضة، ومعلق بسلسلة وعلى رأسه تاج وكل من يراه لابد يبرك على ركبتيه من الهيبة والرعب، غير ان سيف بن ذي يزن دخل على كسرى ولم يبرك وطأطأ رأسه، فقال كسرى إن هذا الأحمق يدخل عليّ من هذا الباب الطويل ثم يطأطئ رأسه؟ فقيل ذلك لسيف فقال إنما فعلت هذا لهمي، ثم قال له: أيها الملك غلبتنا على بلادنا الأغربة، فقال له كسرى: أي الأغربة: الحبشة أم السند؟ فقال بل الحبشة، فجئتك لتنصرني، ويكون ملك بلادي لك، فقال بعدت بلادك مع قلة خيرها، فلم أكن لأورط جيشا من فارس بأرض العرب، لا حاجة لي بذلك ثم منح سيف بن ذي يزن عشرة آلاف درهم ورقية وأغدق عليه العطايا، وبمجرد ان خرج على الناس نثر الدراهم عليهم، فبلغ ذلك الملك فبعث إليه وسأله فقال: ما أصنع بها؟ جبال أرضي، أرض اليمن، من ذهب وفضة
سيف بالطبع كان يرغب كسرى في مساعدته على الاحباش، وكان له ما أراد، وجمع كسرى مساعديه وقال لهم ماذا ترون في أمر هذا الرجل وما جاء له؟ فقال قائل ايها الملك ان في سجونك رجالا قد حبستهم للقتل فلو انك بعثتهم معه فان يهلكوا كان ذلك الذي أردت بهم وان ظفروا كان ملكا ازددته، فبعث معه كسرى من كان في سجونه وكانوا ثمانمئة رجل، معظمهم من العرب الذين كانوا في سجون كسرى واستعمل عليهم رجلا يقال له وهرز وكان ذا سن فيهم وأفضلهم حسبا وبيتا، فخرجوا في ثماني سفن فغرقت سفينتان ووصلت إلى ساحل عدن ست سفن فجمع سيف إلى وهرز من استطاع من قومه وقال له رجلي مع رجلك حتى نموت جميعا، أو نظفر جميعا قال له وهرز انصفت، وخرج إليه مسروق بن ابرهة ملك اليمن وجمع إليه جنده فأرسل إليهم وهرز ابنا له ليقاتلهم فيختبر قتالهم فقتل ابن وهرز فزاده ذلك حنقا عليهم وحمل على جيشهم هو وسيف بن ذي يزن وهزموهم، وقال وهرز: اروني ملكهم فقالوا لهم اترى رجلا على الفيل عاقدا تاجه على رأسه بين عينيه ياقوتة حمراء؟ قال نعم قالوا: ذلك ملكهم فقال اتركوه قال فوقفوا طويلا، ثم قال علام هو؟ قالوا: قد تحول على الفرس، قال اتركوه فوقفوا طويلا، ثم قال علام هو' قالوا: قد تحول على البغلة قال وهرز: بنت الحمار ذل وذل ملكه اني سأرميه فان رأيتم أصحابه لم يتحركوا، فاثبتوا حتى أؤذنكم فإني قد اخطأت الرجل وأن رأيتم القوم قد استداروا ولاذوا به فقد اصبت الرجل فاحملوا عليهم ثم وتر قوسه وكانت فيما يزعمون لا يوترها غيره من شدتها، وأمر بحاجبية فعصبا له ثم رماه فصك الياقوتة التي بين عينيه فتغلغلت النشابة في رأسه حتى خرجت من قفاه
ونكس عن دابته واستدار الاحباش ولاذوا به وحمل عليهم وهرز وسيف، وانهزموا، فقتلوا وهربوا في كل وجه وأقبل وهرز ليدخل صنعاء، حتى إذا أتى بابها، قال لا تدخل رايتي منكسة أبدا، اهدموا الباب فهدم ثم دخلها ناصبا رايته وقال سيف بن ذي يزن الحميري:
'يظن الناس بالملكين أنهــــــــما قد التــــــــــــــــأما
ومن يسمع بلؤمهما فإن الخطب قد فقما
قتلنا القيل مسروقا وروينا الكثيب دمـــــــــــا
وإن القيل قيل الناس وهرز مقســــــــم قســــما
يذوق مشعشعا حتى يفيء السبي والنعــما'
وبعد الحرب تسلطن سيف بن ذي يزن على عرش اليمن، وامعن في الانتقام من الاحباش، ولما استقرت له الأمور وطرد الاحباش نهائيا اتته وفود العرب واشرافها وشعراؤها يهنئونه ويمدحونه، فأتاه وفد قريش، وفيهم عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف فسأله سيف: وأيهم أنت؟ قال: أنا عبدالمطلب بن هاشم بن عبدمناف، قال: ابن اختنا؟ قال: نعم، قال: فأدناه، ثم أقبل عليه وعلى القوم، فقال: مرحبا وأهلا، وزف لهم البشرى التي اخبره بها وزيرة يثرب الذي كان مطلعا على الكتب والعلوم القديمة، وقال: إذا ولد بتهامة غلام به علامة، بين كتفيه شامة، كانت له الإمامة، وفيه الزعامة، إلى يوم القيامة
وقال عبدالمطلب: أبيت اللعن لقد أبت بخير ما آب به وافد قوم، ولولا هيبة الملك واعظامه واجلاله لسألته من بشارته اياي ما ازداد به سرورا
قال سيف: هذا زمنه الذي يولد فيه، أو قد ولد؟ اسمه محمد، بين كتفيه شامة، يموت أبوه وأمه، ويكفله جده وعمه، وقد وجدناه مرارا، والله باعثه جهارا، وجاعل له منا انصارا، يعز بهم أولياؤه، ويذل بهم أعداؤه، ويضرب بهم الناس عن عرض، ويستبيح بهم كرائم الأرض، ويعبد الرحمن، ويدحر الشيطان، ويخمد النيران، ويكسر الأوثان، قوله فصل، وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهي عن المنكر ويبطله، وهنا خر عبدالمطلب ساجدا، فقال: ارفع رأسك، فقد ثلج صدرك، وعلا أمرك، فهل احسست شيئا مما ذكرت لك؟
قال عبدالمطلب: نعم أيها الملك، انه كان لي ابن وكنت به معجبا، وعليه رقيقا، فزوجـــــــته كريمة من كرائم قومي آمنة بنت وهب بن عبدمناف بن زهرة، فجاءت بغلام سميته محمدا، مات أبوه وأمه، وكفلته أنا وعمه، بين كتــــــــفيه شامة، وفيه كل ما ذكرت من علامة·
ملك أسطوري
هنا تنتهي الرواية التاريخية لسيرة سيف، وتبدأ الرواية الشعبية التي يظهر فيها ملكا مغوارا، اسطوريا لا يوجد على وجه الأرض ملك في قوته وغناه وشجاعته وجاهه وجيشه كان أكبر جيش على وجه الكرة الأرضية، وخرج من اليمن إلى الحجاز وحينما انبهر بالكعبة فكر في ان ينقلها الى اليمن وحذره وزيره يثرب ولكنه اصر وعندما نام اصابه مرض عضال فتراجع، وبنى وزيره يثرب المدينة المنورة وسماها باسمه، وخرج من الحجاز بعد ان ترك عليها واليا له، وضم الشام والعراق ومصر والحبشة إلى ملكه