القاهرة (الاتحاد)
لرسول الله صلى الله عليه وسلم مواقف كثيرة كانت كلها تسامحاً وعفواً عن مقدرة جعلت منه شخصية استثنائية، ولو لم نأخذ من هذه المواقف سوى موقفه مع زيد بن سعنة اليهودي قبل أن يسلم لعلمنا مدى حلمه ورحمته وتحريه للعدل حتى مع المخالفين في الدين.
يقول أهل السير: باع يهودي للنبي بيعاً إلى أجل، فجاء اليهودي يريد أن يتقاضى حقه قبل الأجل، فقال له صلى الله عليه وسلم لم يحل الأجل، فقال اليهودي: إنكم لمٌطل يا بني عبد المطلب، فهّم به الصحابة فنهاهم، فلم يزده ذلك إلا حلماً، فقال اليهودي: كل شيء منه قد عرفته من علامات النبوة وبقيت واحدة وهي أنه لا تزيده شدة الجهل إلا حلماً فأردت أن أعرفها، فأسلم اليهودي.
فقد تحقق زيد بن سعنة - وهو من أحبار اليهود - من وجود كل علامات النبوة في رسول الله وبقيت اثنتان من العلامات أراد أن يستوثق منهما بنفسه، يقول زيد: لم يبقَ من علامات النبوة إلا وقد عرفتُه في وجه محمد حين نظرت إليه، إلا اثنتين لم أخبرهما فيه: حلمه يسبق جهلَه، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حِلماً، فكنت أتلطّف له لأن أُخالطَه، فأعرف حِلمَه وجهلَه، فابتعت منه تمراً إلى أجل، فأعطيته الثمن، فلما كان قبل مجيء الأجل بيومين أو ثلاثة، أتيتُ محمداً فأخذت بمجامع قميصه، ورداؤه على عنقه، ونظرت إليه بوجه غليظ ثم قلت: ألا تقضيَنَّ يا محمد حقي؟ فوالله إنكم يا بني عبد المطلب قوم مُطُل.
فنظر إليه عمر رضي الله عنه، وقال: أي عدو الله تقول لرسول الله ما أسمع؟ فوالله لولا ما أحاذرُ فَوتَه لضربت بسيفي رأسك، قال: ورسول الله ينظر إلى عمر بسكون وتُؤَدَةٍ وتبسُّم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن الطلب، ثم قال: «اذهب يا عمر فاقضِه حقّه وزِدْه عشرين صاعاً مكان ما رُعْتَهُ»، وأسلم زيد وأهل بيته كلهم.
وذكر ابن حجر في كتاب الإصابة في تمييز الصحابة، كان النبي يعفو عند القدرة، ويحلم عند الغضب، ويحسن إلى المسيء، وقد كانت هذه الأخلاق العالية من أعظم الأسباب في إجابة دعوته والإيمان به، واجتماع القلوب عليه، ومن ذلك ما فعله مع زيد بن سعنة، أحد أحبار اليهود وعلمائهم الكبار.