26 مايو 2010 20:10
روائي وناشر مصري معروف، ومنذ أن أصدر مجموعته الأولى “بحيرة المساء” في عام 1971، إلى نشره رواية “وليمة لأعشاب البحر” للروائي السوري حيدر حيدر والتي أثار نشرها قبل سنوات عاصفة من الاحتجاج والإشكالية الرقابية، وحتى كتابه الصادر العام الماضي بعنوان “خلوة الغلبان”، مازالت كتاباته تثير جملة من القضايا والأسئلة المهمة بعضها يتعلق بالسرد الروائي والقصصي الذي ينحو باتجاه الاقتصاد والتكثيف في عملية السرد، وبعضها الآخر يتعلق بمتعة القراءة، وهي السمة التي تتوافر بحميمية في مجمل كتاباته وأهمها رواية “مالك الحزين” والتي اشتهرت كثيراً بعد أن أعد عنها المخرج المصري داوود عبد السيد سيناريو فيلمه الناجح بعنوان “الكيت كات” في عام 1999، كذلك كتابته المميزة لروايات: “يوسف والرداء” عام 1987 و”وردية ليل” 1993، ورواية “عصافير النيل” الشهيرة وصاحبة الإشكاليات والجدل في الشارع الثقافي العربي وكتبها عام 1999.
نتحدث عن الروائي المصري إبراهيم أصلان الذي يدهشنا على الدوام ببساطة تقنياته وقدرته ومهارته على رصد الأنساق العقلية والاجتماعية لتصوير أنماط الشخصيات بطريقة تجعلك وكأنك داخل تلك الشخصيات. مؤخراً، أصدر أصلان كتابين دفعة واحدة. الأول وهو مجموعة بعنوان “حكايات من فضل الله عثمان” والثاني كتاباً ضم عدداً من “الصور القلمية”.. ولأن أصلان مبدع عربي مختلف وله آراء صريحة وجريئة وبسيطة في الوقت ذاته في الحياة وعالم الكلمة والرواية والإبداع بشكل عام فقد كان لنا معه هذا الحوار في المنامة على هامش حضوره معرض البحرين الرابع عشر للكتاب الذي أقيم في مارس الماضي.
-- لماذا تعتز كثيراً بروايتك “عصافير النيل”؟
- أولاً لأن الرواية تطرح درجة عالية من الإيمان بالإنسان، وتصوغ موقفها من خلال التغلغل داخل الإنسان نفسه وداخل واقعه بشفافية حساسة تحتوي على قدر كبير من الرومانسية والشوق لخلاص البشر.. صحيح أنني استخدمت في صياغتها تقنيات سردية تقليدية، لكنها في الواقع تترفع نحو رؤية تجديدية شديدة الرهافة وتسعى للكشف عن الجذور الاجتماعية للبشر.. لقد طرحت الرواية نبض الحياة الحزينة للناس المقهورين في دوامة الواقع مع ربط ذلك بالمراحل السياسية الأربع التي عاشتها مصر أخيراً.. ويمكن أن تندرج الرواية تحت مفهوم “رواية الأجيال”، وهو اصطلاح أوروبي.. وفي سياق آخر، أحب أن أشير إلى أنني رفضت ترجمة هذه الرواية وبقية أعمالي الأخرى إلى اللغة العبرية؛ لأنني اعتبر الموافقة على مثل هذه الصفقة هو نوع من التطبيع.. الذي أرفضه شكلاً وموضوعاً وجملة وتفصيلاً؛ لأن الكاتب لا ينفصل بأي حال من الأحوال عن موقف الجماهير لأنه في النهاية منهم وإليهم.
الكم والنوع
-- بعد 35 عاماً من الكتابة، ما زلت مقلاً في إنتاجك الروائي؟
- لم يكن كم الإنتاج في أي يوم من الأيام معياراً حقيقياً للقيمة الأدبية للمبدع، صحيح أن هناك كتاباً إنتاجهم غزير جداً، ولكن بالمقابل لم يتمكنوا من الوصول إلى القيمة ذاتها لبعض الأدباء المقلين في إنتاجهم.. والكتابة أساساً تنبع من إلحاح داخلي حقيقي.. خذ مثلاً أرنست همنجواي أديب وروائي لم يكتب طوال حياته سوى 49 قصة قصيرة و4 روايات، وبرغم هذا الكم الضئيل من الإنتاج، ما زال الرجل مسجلاً كعلامة بارزة في تاريخ الأدب العالمي.. بالنسبة لي أتناول الموضوع بتعقل شديد ومن ثم أبحث عن الأنماط ثم استجمع قواي ومن بعد كل هذه المراحل التي تستغرق مني وقتاً طويلاً أشرع في الكتابة على نار هادئة جداً.. لأنني أطمح إلى النوعية ومشروعي الثقافي ينطلق من هذا الشعار.. المهم وفي النهاية أن كتابة القصة أعطتني فرصة لأصبح شخصاً يعجبني.
-- هل أنت مع أو ضد “الحداثة” في كتابة الرواية المعاصرة؟
- يجب أن نعترف بداية أن القضايا الكبيرة والحقيقية موجودة في الذاكرة الجمعية، لكن الجديد يجب أن يتمثل في رؤية طازجة للعالم والأحداث لإنعاش تلك الذاكرة.. وأقول هنا لا بد أن يتشكل موقف لدى المبدع تجاه أي تطور يلحق بالتعبير.. وأنا شخصياً لست ضد الحداثة في الكتابة لأي جنس أدبي.. ولكننا للأسف نعيش وهماً كبيراً بتصورنا القاصر لمفهوم واصطلاح الحداثة؛ لأنها منظومة من القيم المتكاملة الشاملة، وتعني تحديث مجتمع كي يفرز صيغاً وأنماطاً جديدة للتعبير عنه وعن أحلامه، ويجب أن تتلاءم مع هذا التحديث، إنما نحن وعلى مستوى شارع الثقافة العربي، ومن أسف لا نعرف عن أي حداثة نتحدث؟ عندما يتحول الأديب إلى مجرد “بهلوان أدبي”.. وأعتقد أنه لا يوجد تناقض بين المجتمعات الأصلية والتقدم.. وهنا أدعو إلى ضرورة استثمار كافة التقنيات الحديثة دون إخلال أو تجاهل لموروثنا الإنساني والشعبي وذاكرتنا وقضايانا وتراثنا.
-- في عالمك تبدو “المرأة” وكأنها أداة شريرة.. كيف تفسر ذلك؟
- هذا السؤال ظالم جداً لي.. لأن من يراجع أعمالي سيجد أن المرأة خارج وصف هذا السؤال ولا ينطبق عليها مثل هذا الاتهام.. صدقني أن هناك مبالغة من بعض النقاد حول هذا الموضوع.. وإذا قصدوا ما ورد في بعض قصصي القصيرة “مالك الحزين ووردية ليل” فان ذلك يتماهى مع هذا الاتهام، ولكن إذا قلبوا أوراق مجموعتي الأولى “بحيرة المساء”، فلن يجدوا المرأة هكذا أبداً.. ففي قصص مثل “وقت للكلام والتحرر من العطش”، سيجدون أن هذا الوصف لا ينطبق على بطلات تلك القصص.. بل على العكس لقد صورتهن بأرقى صورة، بحيث لا ينطبق عليهن القول إنهن مصدراً للشر أو المتعة أو الخيانة.. ولكن إذا كانت هناك بعض الصور الفنية والمشاهد والتلميحات الضرورية لسياق الحدث وتصف العلاقة بين رجل وامرأة وفي إطار التوظيف الفني الشرعي فإن ذلك لا يعني أن هناك خللاً أو عيب يمكن أن يمس أخلاق المرأة أو يهز صورتها التي كرمتها الأديان من خلالها.
-- تهتم بجانب الحوار الدرامي في صياغة ورسم شخصياتك؟
- أنا شخصياً لا يعنيني السرد كثيراً في إحياء الشخصية.. يكفي أي شخص في مشهد ما أن ينطق بجملة حوارية صحيحة وناضجة حتى يدب حيا أمامي على الورق. فالحوار في نظري هو مسألة خطيرة لا سيما في بناء العمل القصصي.. بمعنى أن جملة حوارية رديئة وغير مبنية على إحساس صادق تكفي لإفساد وإسقاط عمل كبير مثل رواية “الحرب والسلام” وغيرها من الأعمال التي ما زالت راسخة في أذهان الناس.. وهنا أدعو إلى ضرورة أن يتمتع القاص بثقافة مسرحية ودرامية عالية المستوى حتى يستطيع أن يغطي هذا الجانب في البناء الفني للقصة أو الرواية التي لا تحيا إلا بتنويعات من الصور الفنية والحوارات التي تشد القارئ إليها..
ضد هيمنة السرد
-- تدعو دائماً إلى إقالة الهيمنة السردية في الكتابة لماذا؟
- أحب أن أشير أولاً إلى أن السرد ليس سرداً روائياً فقط، فهناك سرد اجتماعي وسياسي وثقافي وديني.. ولكن عيب تلك “السرودات” أنها مهيمنة تواريها المؤسسات في خبراتها.. وأخطر ما فيها هو منطقها.. ذلك لأن المنطق الأبوي الذي يفكر بدلاً من الناس ويتخيل بدلاً منهم ويحلم على سرائرهم ووسائدهم.. أرى أن مهمة الأدب والفنون أن تعمل نقيضاً وخارج عباءة هذه الهيمنة.. علينا دائماً استلهام منطق بديل وهو منطق السرد الشفاهي، فهو ليس على الأقل منطقاً أبوياً بأي شكل من الأشكال، فهو أقل قدرة على استلهام كل ما هو جذري.
-- هل يلعب الواقع العربي المر دوراً في عدمية بعض شخوصك؟
- أولاً الواقع العربي ودون الدخول في تفصيلات لعب، ومن أسف، دوراً بالغ الخطورة في انزياح عدد كبير جداً من المثقفين والمفكرين العرب عن المشاركة في الشأن العام، بل وكرس مفاهيم مثل: الاغتراب والاستلاب في الوجدانيات.. وإقول إن شخوصي التي تقمص واقع بعض المثقفين ليست عاجزة، ولكنها رافضة متمردة وتلعب في خانة الرفض الشعبي لواقع مرير.. نعم أنا أتلمس في بعض شخصياتي الروائية تماهيات من العدمية وفقدان التوازن لأن هذه الشخصيات في نظري تعبر عن الأغلبية الصامتة من أبناء الشعب.. وهذا بصدق ما رأيته ملائماً لمزاجي الشخصي الذي لم يعد يتحمل تناقضات هذا العالم.
-- كيف تنظر إلى قضية الشكل في بناء العمل الأدبي؟
- أرى أن الشكل هو الدقة والتنظيم، حتى في رسمنا وصياغتنا للجنون مثلاً، لا بد أن ينتظم ذلك في شكل فني دقيق.. وهنا أعيدك إلى أعمال سلفادور دالي وانظر معي إلى الأشكال التي قدر بها هذه الروح.. معنى ذلك أن الشكل هو القضية المهمة التي لا يمكن تجاهلها في بناء التكوين.. إنه الجزء المكمل لهارمونية الإيقاع المرتبط بالموضوع.. أما الوضوح، فهو مسألة تحيل إلى دقة الفهم أو عدم الفهم.. وهذه مسألة غير مطروحة فنياً باعتبار أن المطروح حيال أي عمل ينحصر في قضية الإحساس بهذا العمل.
-- قيل إن تأثرك بهزيمة 67 كان مفتاحاً لإحدى رواياتك؟
- نعم هذا صحيح.. ولعلك تقصد روايتي “وردية ليل”.. لقد أصابتني الكآبة شأني في ذلك شأن ملايين العرب والمساكين والأحرار في العالم.. لأن المفاجأة لم تكن في الكارثة وإنما في حجمها ومتوالياتها.. لقد بنيت الرواية على أسلوب “الرواية التلغراف”، أي المختزلة في النص والحوار والسرد الوصفي وكافة مفردات وعناصر الكتابة، أي أن المحذوف هو واجب المراهنة عليه اعتماداً على إشارات بينك وبين الطرف الآخر.. لقد اختزلت كل شيء كما تم اختزالنا وتهميشنا عبر هزيمة ما زالت حاضرة في الوجدان.. وستظل تشكل على الدوام درساً يحتاج إلى دراسة أعمق وأعمق..
-- ما زلت تعيش في حي شعبي.. ألم تكافئك الكتابة بعد؟
- (يضحك إبراهيم أصلان ساخراً مثل عادته ويطرق رأسه ويشعل سيجارته وكأنه في مشهد مسرحي استحضر للتو): الحياة في حي شعبي قديم بناسه وأزقته ودكاكينه الشعبية هي في نظري الحياة الحقيقية الاستثنائية التي تنفرد بأشياء كثيرة.. أشياء مختلفة وشديدة الثراء والحيوية والنضوج.. وهذه الأشياء تناسب كاتبا “غلبان” مثلي.. لا تأخذ الأشكال بالظاهر.. فالملل والرتابة موجودة في المدن الكبيرة المتخمة بكل الأشياء.. أما الذي يقول إن الكتابة أو الاشتغال في عالم الكلمة هو مصدر الرفاهية والثراء والتغيير إلى الأفضل، فهو إنسان بعيد عن الصدقية ولا يرى الأشياء على حقيقتها.. لأن الكتابة فعلاً “ما بتوكلش عيش”.