أحمد شعبان (القاهرة)
كان التعليم في العالم الإسلامي يلقن في المساجد العتيقة، عبارة عن حلقات دينية وكراسي علمية لشرح الكتب الستة الصحيحة بعد القرآن، وتقديم المعارف لطلاب العلم، فقرر الملوك والحكام المرينيون بالمغرب إنشاء مؤسسات خاصة، يجد فيها الراغبون في العلم السكن والطعام، فكانت فكرة بناء مدارس تشتمل على عدة حجرات لمبيت الطلبة، وقاعات للدرس، ومرافق صحة، وقاعة يؤدون فيها فرائضهم الدينية.
واختتم السلطان أبو عنان فارس المريني عام 750هـ - 1350م، سلسلة المدارس المرينية بفاس بتشييد أشهر مدارس فاس والمغرب التي تحمل اسم المدرسة البوعنانية أو العنانية، على يد الناظر أبي الحسن بن أحمد بن الحسين بن أحمد بن عسكر، بحي الطالعة الكبرى القريبة من القصبة المرابطية القديمة، وهي تشرف على معظم مدينة فاس وتعد المدرسة الوحيدة المزودة بمنبر ومئذنة، يصفها المؤرخون بأنها لا مثيل لها في الجمال والأناقة، فقد كان لها حظ كبير من الزخرفة وفخامة المعمار أكبر من المدارس الإحدى عشرة الأخرى التي بناها المرينيون بفاس.
ذكر ابن خلدون أن السلطان كان ميالاً للفن والعمران ومشهود له بالعلم حتى درس العلم للعملاء وناظرهم، بل وأجازهم، وشهد ابن خلدون أنه تتلمذ عليه وأخذ عنه كتاب صحيح البخاري، وعني كذلك عناية خاصة لرغبة مشيدها أن تكون معماراً فريداً.
وتشهد هذه المدرسة العتيقة كمهد للعلم والمعرفة، فهي مؤسسة علمية تحفِّظ القرآن وتعلم أنواع العلوم التقليدية كافة، بما في ذلك الرياضيات، والنحو، والتاريخ، وعلم الفلك، والطب، وغيرها، وكان لها أكبر الأثر في تطوير منظومة التعليم الشرعي، لأنها فتحت الآفاق للطلبة لأخذ العلم الشرعي من منابعه الصافية، وخرَّجت علماء أفذاذاً تمكنوا من الإسهام في رفع الوعي والثقافة الإسلامية، فقد كانت وقفية خاصة بالتعليم الشرعي، شهدت في فترات معينة من تاريخها وفود الطلبة من البلاد المختلفة للدراسة والتحصيل، لأنها تميزت هندسياً بوجود مساكن خاصة بالطلبة الأجانب والوافدين.
تميزت المدرسة البوعنانية بجودة البناء والسعة والمرافق الضرورية للمعيشة وقاعة للصلاة، ولا مثيل لها في الجمال والأناقة، وبها أساتذة لمختلف العلوم، يتقاضون مرتبات حسنة أوصى بها مؤسس المدرسة، وكان الطالب يعفى من مصاريف لباسه مدة سبع سنوات. ذكر المؤرخون أنه جاء في وقفية المدرسة: «.. وكان ابتداء بنائها في الثامن والعشرين لشهر رمضان المعظم العام أحد وخمسين وسبع مئة، والفراغ منه في آخر شعبان المبارك عام ست وخمسين وسبع مئة، وكان بناؤها على يد أبي الحسن بن أحمد بن الحسين بن أحمد بن عسكر».
المدرسة على شكل مستطيل يتألف من صحن مفتوح ومسجد وقاعتين للدرس وغرف للطلبة موزعة على مستويين ومئذنة وغرفتين للوضوء، منها واحدة تفتح بابها بمقابل الباب الرئيس للمدرسة على الطالعة الكبيرة.
ويرى المؤرخون أن هذه المدارس كانت تؤدي وظائف اجتماعية في حياة مدينة فاس خلال تلك الفترة، إضافة للدور التعليمي الذي مارسته، فقد جلب تعدد المدارس للمدينة شهرة واسعة وقتها، حيث وفد عليها عدد كبير من الطلبة والمتعلمين من مختلف أنحاء المغرب للدراسة والتعلم، فقد كانت هذه المدارس توفر لهم أفضل الظروف للإقامة المتمثلة في السكن والمأكل، والملبس من خلال الأوقاف والأحباس التي رصدت لها.