القاهرة (الاتحاد)
في السنة الثامنة من الهجرة، نصر الله عبده ونبيه على كفار قريش، ودخل صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة فاتحاً منتصراً، وأمام الكعبة المشرفة وقف جميع أهل مكة، وقد امتلأت قلوبهم رعباً وهلعاً، يفكرون فيما سيفعله معهم رسول الله بعد أن تمكن منهم، ونصره الله عليهم، وهم الذين آذوه، وأهالوا التراب على رأسه الشريف وهو ساجد، وحاصروه في شعب أبي طالب ثلاث سنين، حتى أكل هو ومن معه ورق الشجر، وتآمروا عليه بالقتل، وعذبوا أصحابه وسلبوا أموالهم وديارهم، وأجلوهم عن بلادهم.
لكنه صاحب الأخلاق النبوية قابل كل الإساءات بالعفو والصفح والحلم، قال صلى الله عليه وسلم: «يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟، قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال صلى الله عليه وسلم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، وجاء عند البيهقي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «أقول لكم كما قال يوسف لأخوته لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم».
قال ابن إسحاق: حدثني بعض أهل العلم أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قام على باب الكعبة، فقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، أَلا كل مأْثرة أو دم أو مال يدّعى، فهو تحت قدميّ هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، ثم قال: يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».
يقول «ابن القيم» في كتابه «زاد المعاد»، وعد الله عز وجل رسوله أنه إذا فتح مكة دخل الناس في دينه أفواجاً، ودانت له العرب، فلما تم له الفتح المبين اقتضت حكمته تعالى أن أمسك قلوب هوازن ومن تبعها عن الإسلام، وأن يجمعوا ويتألبوا لحرب رسول الله والمسلمين، ليظهر أمر الله وتمام إعزازه لرسوله ونصره لدينه، وقهره لهذه الشوكة، التي لم يلق المسلمون مثلها، فلا يقاومهم بعد أحد من العرب، ولغير ذلك من الحكم التي تلوح للمتأملين.