الخميس 24 يوليو 2025 أبوظبي الإمارات 40 °C
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رحلة العمائم والطرابيش إلى عاصمة النور

رحلة العمائم والطرابيش إلى عاصمة النور
17 سبتمبر 2005

القاهرة- حمدي أبوجليّل:
تدور أحداث كتاب 'عمائم وطرابيش' في باريس نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وتركز على المصريين الذين عاشوا في باريس ودرسوا في جامعاتها ومعاهدها وتأثروا بها وأثروا فيها، منهم من سافر على نفقة الدولة مبعوثا من الجامعة المصرية، ومنهم من سافر على نفقته الخاصة، ومنهم من سافر منفيا أو مطاردا من الخديوي وأعوانه، وجميعهم رأوا في باريس 'بلد الجن والملائكة'، والمدينة الجميلة الذكية المتحررة اللعوب، وإمامهم محمد عبده اعترف بحسرة بأنه وجد في باريس إسلاما ولم يجد مسلمين، بينما وجد في مصر مسلمين ولم يجد إسلاما·
في بداية القرن العشرين درس وعاش وناضل في باريس أكثر من 500 مصري معظمهم شباب، اختار منهم كتاب 'عمائم وطرابيش' اثني عشر من رواد النهضة المصرية في بداية القرن العشرين ومنهم: الدكتور زكي مبارك والاقتصادي الوطني الرائد طلعت حرب والشيخ مصطفى عبدالرازق والمفكر الرائد سلامة موسى وامير الشعراء احمد شوقي، وكلهم عادوا من باريس محملين بأفكار التغيير والتحرر· والكتاب يركز على الجانب المعلن في حياتهم في باريس، ومؤلفه سعيد اللاوندي يعترف بانه اعتمد على الوثائق المتاحة في المؤسسات الفرنسية لأي عابر سبيل، كما اعتمد على ما تواتر في المكتبات العربية من ترجمات وسير هؤلاء الرواد، ولم يسع المؤلف الى التفتيش في الجوانب الخفية لحياة شخصيات الكتاب في باريس، غير ان القليل من وثائق الكتاب تكشف عن لحظات ضعف وخوف وقلة حيلة وفشل في بلاد الغربة في تجارب بعضهم، ولعل اشدها إيلاما الأوقات التي عاشها الزعيم مصطفى كامل بعد أن تخلى عنه الخديوي عباس وتنكر له معظم المصريين المقيمين في باريس، تلك الأوقات العصيبة التي جعلت الزعيم الوطني صاحب مقولة 'لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا' يخرج عن طوره ويصرخ: ' دعني من هذه الأمة التي بلاني الله بأن أكون واحدا من ابنائها'·
الخوف من الفشل:
'عمائم وطرابيش'صادر عن مشروع مكتبة الاسرة في 290 صفحة من القطع المتوسط، وناقشته بالقاهرة مؤخرا ندوة شارك فيها د· عزة هيكل ود· أسامة نبيل ود· محمود العزب، ومؤلفه سعيد اللاوندي قال انه سافر الى باريس في السبعينيات من القرن الماضي للدراسة على نفقته الخاصة، وان خوفه من الضياع والفشل والغرق في دروب باريس كان دافعه الاول لهذا الكتاب، فقد وجد في سير وتجارب هؤلاء الرواد ملاذا وعونا على غربته الباريسية، وبدأ تتبع خطواتهم بزيارة لمقر مجلة 'العروة الوثقى' التي كان يصدرها الشيخ جمال الدين الافغاني والامام محمد عبده ومكانها معروف كمزار سياحي وثقافي في باريس حتى اليوم، ومنها عرف تجربة الامام الذي سافر الى باريس منفيا ومطاردا من الخديوي توفيق بعد مشاركته كزعيم مفوه في ثورة عُرابي، ومن باريس شن الامام مع الافغاني اعنف حملة على الاحتلال الانجليزي، وزار مجلس العموم البريطاني بالعمامة والجلباب والتف حوله العديد من السياسيين الانجليز، ورد بعنف على وزير الدفاع البريطاني الذي كان يتعجب ويسخر من رغبة المصريين في الاستقلال عن انجلترا في ظل معاناتهم من الحكم العثماني·
ومع سيرة الامام محمد عبده تتبع سعيد اللاوندي باقي شخصيات الكتاب واتحد بهم لدرجة ان احياء باريس ارتبطت لديه بهم، فحي 'مونبرناس' بالنسبة له هو حي توفيق الحكيم، ومقهى'الدوم' مقهى زكي مبارك، ومدينة 'ليون' مدينة الشيخ السنهوري، وحدائق 'بولونيا' حدائق أمير الشعراء احمد شوقي·
سيرة مزدوجة:
د· عزة هيكل بدأت مناقشة الكتاب، وقالت انه يتناول جوانب من سيرة رواد النهضة المصرية في باريس، ولكنه ايضا نوع من السيرة الذاتية، فهو يبدأ بتصدير سردي عن حياة ومعاناة مؤلفه في باريس، وهو يزاوج بين سيرته وسيرة الرواد الذين أرخ لحياتهم في باريس، واشارت الى ان مفتاح الكتاب هو ان مؤلفه عربي مسلم ذهب الى بؤرة الحضارة الغربية، ولم يجد ملاذا له سوى التقليب في حياة المصريين الذين عاشوا قبله فيها· واختيارات الكتاب -كما أضافت- موزعة بين رجال الدين والادب والبين بين، ومن أهم من اختارهم الزعيم مصطفى كامل الذي سافر الى باريس عام 1893 وأتقن الفرنسية وتعرف على الحضارة الأوروبية·
نجم الصحف الفرنسية:
ومصطفى كامل من اصحاب الطرابيش في الكتاب، وسافر لدراسة الحقوق، واستقبل استقبالا حافلا في باريس وهو دون العشرين من عمره، الشاب الارستقراطي الحالم باستقلال بلاده وجد البيئة الصالحة لتفتح مواهبة، فهناك مجتمع مفتوح، متحرر، وعيون تنظر له باعجاب، وحينما اصر على امتحان مواد عامين دراسيين في عام واحد بجامعة 'تولوز' ونجح بامتياز اصبح نجما متوجا في الصحف الفرنسية، وتوقعوا له مستقبلا مشرقا في تحرير بلاده· واحدى كبريات الصحف الفرنسية وصفته بانه يتمتع بالذكاء والنجابة وقدرة نادرة على التحصيل·
وقالت 'ان مدينة تولوز لتفخر بأن يسجل في عداد الذين تخرجوا في كليتها شاب نقي الفؤاد متصف بكل ما يزين المرء من علم وادب ورأي صائب'، وصحيفة أخرى اعتبرت حدة الشاب مصطفى كامل في الدفاع عن استقلال مصر بشائر لزعامته للحركة الوطنية المصرية الوليدة·
والخديوي عباس كان على دراية بكل ما يدور، واعجبه الشاب الثائر الشديد الولاء للباب العالي العثماني، وعباس نفسه كان يراوده حلم التسلطن على مملكة مستقلة وكان يوصف بانه عدو الانجليز، وارسل مصطفى كامل الى باريس ليس للدراسة هذه المرة ولكن لاستغلال نجاحاته وصيته هناك في عرض مسألة استقلال مصر والخلاص من الانجليز على المحافل الدولية، ومصطفى كامل بدأ بحملة اعلامية كبيرة، وركز على الندوات والجلسات والأحاديث والمقالات والمحاضرات والخطب وكان شعلة نشاط، كما حاول الاحتكاك بالسياسيين والكتاب والمثقفين المتحمسين لاستقلال مصر، وبدأت باريس تحس حرارة صوت الشاب القادم لتحقيق استقلال بلده· في ذلك الوقت كان الزعيم الشاب متحمسا لفرنسا، ويرى فيها فرس الرهان لاستقلال مصر، ورسم صورة تظهر مصر مقيدة بالاغلال وتستصرخ فرنسا لإنقاذها من الاحتلال الانجليزي وقدمها الى'هنري بريسون' رئيس وزراء فرنسا والى رئيس مجلس النواب ثم وزعها على كافة صحف العالم، والفرنسيون المعارضون انفعلوا بهذه الصورة وبدأوا يتبنون قضية مصر، وفي عز نجاح مصطفى كامل في عرض القضية المصرية، تخلى عنه الخديوي عباس، واستمع الى نصيحة مستشاره الفرنسي الذي كان يسخر من مصر وحكامها في كل مكان وقطع المعونة عنه، وظل مصطفى كامل يلهج في طلب المعونة حتى أدرك ان مهمته انتهت من قبل الخديوي وانه مطالب بالعودة الى مصر فقرر الاعتماد على نفسه، وبدأ طلب العون من كبار الكتاب والمثقفين المؤيدين لاستقلال مصر وأبرزهم الكاتبة الشهيرة 'جولييت آدم' التي ارسل اليها خطابا مؤثرا، تزعمت على إثره الدفاع عن استقلال مصر في فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية·
د· عزة هيكل أشارت ايضا الى ان الكتاب أورد جانبا من تجربة المفكر لويس عوض في باريس، ويكشف عن حبه لوطنه وحبه للحضارة الغربية وخصوصا باريس التي يصفها بالمعشوقة الحمراء، واستعرضت تجارب المعممين من الكتاب أمثال الشيخ المستنير مصطفى عبدالرازق والشيخ عبدالرازق السنهوري، وعلى رأسهم الامام محمد عبده الذي خاض مع الافغاني النضال ضد الاحتلال الانجليزي، وسافر من باريس الى تونس لجمع تبرعات مالية لجمعية 'العروة الوثقى'، ولكنه عاد خائبا ومحبطا وابتعد نهائيا عن السياسة وانكب على تعليم وتثقيف تلاميذه وتنويرهم·
شخصيات أزهرية:
وركز د·أسامة نبيل على انتساب معظم شخصيات الكتاب للأزهر الشريف، وقال انه يعيد الاعتبار للازهر باعتباره أعرق جامعة اسلامية في الوقت الذي يتهم فيه الأزهر بين عامة الناس بالتخلف والجمود، وفي المجلس الاعلى المصري للجامعات يعامل الازهر باعتباره جامعة درجة ثانية، رغم انهم في فرنسا يعتبرونه جامعة عريقة، والطالب الازهري يلتحق بالجامعات الفرنسية بدون اختبار·
وقال ان الكتاب يضيف لمعلومات القارئ العادي والمثقف جرعة تاريخية عن علاقة الشرق والغرب، والفترة التي يتحدث عنها تعود لبدايات القرن العشرين، وهي فترة النهضة والتنوير في العالم العربي والمشرق بصفة عامة، ووثائق الكتاب تكشف عن ان الامام محمد عبده ومصطفى كامل التقيا في باريس بطلبة وشخصيات تنتمي لبلاد الهند وايران وباكستان وغيرها من بلاد الشرق، ومترجم الامام حينما خطب في اعضاء مجلس العموم البريطاني كان باكستانيا·
ومن ناحية أخرى يقدم الكتاب سيرة للآخر الغربي، ويكشف عن ردود افعاله تجاه الشخصيات الوطنية العربية والشرقية الساعية للتحرر والاستقلال، وهي نفس الردود التي يمارسها حتى اليوم، تعاطف النخبة المثقفة والطبقات الشعبية، وتجاهل واستخفاف من قبل الحكومات·
والكتاب -كما اضاف د· أسامة نبيل- مزيج بين سيرة الأنا الشرقي والآخر الغربي، ومحوره مدينة باريس التي كانت محطة مهمة لكل مثقفي العالم، ومعظم أو كل الذين سافروا اليها تغيروا وعادوا الى بلادهم بأفكار ومشاريع نهضوية جديدة، والكتاب به كم هائل من أسماء المفكرين الشرقيين من المصريين او العرب او الآسيويين·
أخطر ما في الكتاب:
وقال د· محمود العزب -الاستاذ بجامعة السوربون- ان باريس كانت وجهة المفكرين السياسيين المصريين للتزود بالعلم والثقافة، وهذا لا يرجع الى أن المصريين نفروا من لندن لان الانجليز يحتلون بلادهم وتوجهوا الى باريس كما هو شائع، ولكن لأن الكثير من القوميات تعشق فرنسا، واللغة الفرنسية كانت لغة البرجوازية في العالم أجمع، ومن ناحية أخرى فانه، لا يوجد شعب أجنبي يحب مصر مثل الشعب الفرنسي، كما ان العالم العربي في حاجة الى الثقافة الفرنسية والى الشك الفرنسي·
وأضاف: أخطر ما في الكتاب وثائقه ومواده الارشيفية، فهي دقيقة وتوفر مادة جيدة للباحثين المهتمين بشخصيات الكتاب او بالفترة التاريخية التي يعرض لها، خصوصا وان النوعية التي اختارها تتوزع على المجالات السياسية والاقتصادية والدينية والفكرية، غير ان الكتاب أغفل شخصيات مهمة مثل الشيخ الشاوي تلميذ الشيخ السنهوري الذي كان، في بداية القرن العشرين، همزة الوصل بين السياسيين المصريين والثوار الجزائريين·
وقال أن الكتاب يبدأ بزكي مبارك الذي جاء الى باريس على نفقته الخاصة، وعاش فترة من البؤس، وكان شخصية صدامية وخصما لدودا للدكتور طه حسين وكان يعيره بانه درس في باريس على نفقة الدولة، بينما، زكي مبارك، سافر وحصل على الدكتوراه على نفقته الخاصة، ومع زكي مبارك يتضح ان الكتاب يتعرض لنوعين من المصريين الذين سافروا الى باريس في بداية القرن العشرين، الاثرياء الذين سكنوا احياء باريس الراقية مثل أمير الشعراء احمد شوقي الذي سافر موفدا من الخديوي نفسه، والشيخ مصطفى عبدالرازق الذي كانت اسرته تنافس الاسرة العلوية في الثراء والجاه، والفقراء الذين سكنوا الاحياء الشعبية كالحي اللاتيني مثل زكي مبارك وطه حسين·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2025©
نحن نستخدم "ملفات تعريف الارتباط" لنمنحك افضل تجربة مستخدم ممكنة. "انقر هنا" لمعرفة المزيد حول كيفية استخدامها
قبول رفض