25 مارس 2011 22:31
قدمت فرقة مسرح دبي الأهلي مساء أمس الأول على خشبة معهد الشارقة المسرحي عرضها «قرموشة» ضمن عروض المسابقة الرسمية للدورة الحادية والعشرين من مسابقة أيام الشارقة المسرحية. والعرض من تأليف عبدالله صالح ومن إخراج أحمد الأنصاري، وشارك في تنفيذه أدائياً وبعد غياب طويل عن الساحة المسرحية المحلية الفنانة بدرية أحمد في دور «قرموشة»، بجانب الفنان المخضرم بلال عبدالله في دور «بو حنّاو» والفنانة الشابة بدور التي قدمت شخصية «منيرة».
وفي كلمته الخاصة بمدونة العرض ذكر أحمد الأنصاري أن «قرموشة» هي شخصية انتقاها من الماضي الجميل ومن سحر «البرقع» الذي كان موصولاً ـ كما يقول الأنصاري ـ بواقع قديم، لا يدري إن كان هناك من سيحن إليه ويتذكره، أما المؤلف عبدالله صالح فيلخص كلمته في ذات المدونة من خلال أبيات شعرية باللهجة العامية يقول فيها:
يا برقعن نادر في الوجـود
دايم أنا عايـش بذكــراك
ارجع وخل قرموشة تعـود
وتذكر الحاضــر بمـعـناك
ومن خلال هذا التمهيد الذي يصر على اختراق حاجز الزمن والإيغال بعيداً نحو التفاصيل القديمة والمنسية، يكشف لنا المخرج ومنذ البداية أن الإنسان هو أصل كل هذه التفاصيل، الإنسان الذي يصدّر أحزانه وأفراحه على قياس الهامش البسيط والمتقشف الذي يشكل ملامح الحياة وطبيعة العلاقة مع الآخر، هذا الإنسان المتخلص من كل زيف وتضخم ومبالغة اجتماعية تمثله هنا شخصية «قرموشة» التي ما زالت مقيمة في فردوس من الحنين، يراه الآخرون ـ وفي الجهة المقابلة ـ جحيماً يعزل الإنسان عن الواقع الحديث والمعاصر.
وابتداء من اسمها الذي لم يعد متداولا ـ بل أصبح منقرضاً بالأساس ـ نكتشف في سياق العرض أن هذه الأرملة التي لا تملك في الدنيا سوى ابنتها الوحيدة «منيرة» ما زالت مصرة على مزاولة مهنتها القديمة وهي صناعة البراقع، ورغم أن البرقع بات مندثراً كمظهر اجتماعي وكدلالة جمالية محافظة في زمن يلهث نحو التحرر والتخلص من العادات البائدة، إلا أن قرموشة تصر على ارتدائه وامتداحه في مشاهد وانتقالات متعددة في زمن عرض المسرحية.
من جانب آخر، نتعرف على شخصية «بو حنّاو» الذي تخلى عنه أبناؤه ورحلت عنه زوجته، وبات الآن يبحث عن تعويض عاطفي من خلال تقربه من قرموشه وملاحقته لها من خلال القصائد الغزلية التي يبتكرها بعفوية بالغة ويبثها في مسامع حبيبته التي أصبحت بدورها مسنة وتنتظر حسن الخاتمة، ورغم ذلك يرى (بو حنّاو) أن وصولهما لهذا العمر المتأخر هو تتويج لعشق وصبر دام لثلاثين عاماً وآن له أن يتحقق من خلال الزواج، الذي سيكون خلاصاً معنوياً لا أكثر، خلاصاً يدخل أيضاً في نطاق الانتصار على كل السنوات الضائعة من اللوعة والانتظار والحنين المشتعل أبداً في الضلوع.
يعرّج العرض أيضاً على مشكلة الفتاة منيرة التي تعاني من العنوسة بعد ثلاث تجارب عاطفية فاشلة، بدأت الأولى بمأساة موت زوجها الأول، بعد معاناته مع المرض الخبيث، وقبل أن يكملا عامهما الأول، بينما قتل خطيبها الثاني في حادث سير مروع، والزوج الثالث والأخير رمى عليها ورقة الطلاق قبل أن يدخل عليها، بعد أن حصل على منحة دراسية في الخارج. تتشكل وتتوزع أزمة الشخصيات الثلاث في فضاء قاتم تماماً، تعمد المخرج أحمد الأنصاري أن يجرده من الديكور، ويستعين فقط بصندوق خشبي قديم «المندوس» على يسار الخشبة، وبمنصة سوداء عالية في الجانب الأيمن من الخشبة، مع التركيز على سلسلة من البراقع الموصولة ببعضها كنص بصري مهم يمثل ركيزة العرض وثيمته الأولى.
هذه السينوغرافيا المتخففة والمتخلصة من عبء التجسيد التراثي المبالغ فيه، سوف تنقل خيوط ومضامين ورسائل العرض باتجاه زمن مكثف وهائج يلغي ارتباطه بالمكان كمحتوى بصري صرف، ذلك أن مطمح العرض أساساً هو التماس المباشر مع زمن مفتقد ومنسي ومع لهجة أو أنساق كلامية وشفاهية انسحبت واختفت من مكونات الحوار اليومي المتداول وسط التبدلات المشوهة للهوية، لهجة ستكون أيضاً متماسة مع رائحة المكان، ومع اللغة الشعرية التي تفتح مغاليق الروح وتشتبك مع عمق الدواخل الرهيفة والباذخة والشفافة.
تميز عرض «قرموشة» بتناسق المؤثرات الموسيقية والأداء الغنائي الخافت والمتواشج مع الحيز النوستالجي والاستعادي لذاكرة بعيدة ومتأججة، كما تميز العرض بالاستخدام الموفق للإضاءة التي تحولت في فترات كثيرة إلى ذاكرة جوّانية وإلى منصة اعتراف وبرزخ زمني يصل بين ضفتي الماضي والحاضر، إضاءة كان لها أيضا دور أساسي في نقل المتفرج في الصالة إلى حالة التماهي والاندماج مع عذابات الشخوص على الخشبة، ومع الأزمة الوجودية لهويات مشتته وممزقة تنتمي لزمن خاص وحميمي ولكنها تبدو مسيرة أو أسيرة لشروط خانقة ومقيدة، رغم كل الزيف الذي يلونها، ورغم كل البهرجة المحيطة بها.
المصدر: الشارقة