1 سبتمبر 2009 23:53
يعتبر الجامع الأموي بدمشق أقدم وأكمل تحفة إسلامية مازال حاضراً بعظمة بنائه، وفرادة تصميمه، وبراعة معماره، فقد تم تشييده وفق مخطط جديد مبتكر يتناسب مع شعائر الدين الإسلامي، وأغراض الحياة العامة، فجاء فريداً في هندسته، لم يبن على نسقه في العهود السابقة أي بناء آخر، فجاء تعبيراً عن الهندسة الشامية العربية الإسلامية. ويقر المستشرقون العارفون بالآثار أن تخطيط الجامع الأموي في دمشق وهندسته شيء مبتكر، لا يشبه هندسة الكنائس البيزنطية، ولا يماثل طريقة العمارة السورية النصرانية المتوارثة.
وتأسست بإشادته مبادئ هندسة الجوامع الكبرى التي شيدت بعده في العالم الإسلامي، إذ دأب المعماريون عدة قرون يستوحون منه، وينسجون على منواله، فاستحق بجدارة تسميته إمام الجوامع، وظل قروناً فتنة للناظرين، وعدّ في زمانه أعجوبة من عجائب الدنيا الخمس المعروفة آنذاك.
عبقرية العمارة
بنى الجامع الأموي الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك سنة 86 للهجرة /705 للميلاد. واستغرق بناؤه نحو عشر سنوات، فقام آية في الجمال وروعة في العمارة العربية الإسلامية. وحشد الوليد لبنائه العمال من كل مكان وأراد أن يقيم السقف على أعمدة، فاقترح عليه بنّاء شامي أن يقصّر الأعمدة، ويعقد بعضها بأقواس. ويقيم فوقها أعمدة صغاراً لها قناطر تحمل السقف، ولما أقيم هيكل البناء عمد الوليد إلى رفع القبة وأرادها سامقة باسقة، فلما تمت سقطت، فشق ذلك على الوليد فجاءه بناء شامي، فقال: «أنا أرفعها بشرط». قال: «وما هو؟» قال: «أن تعطوني عهد الله ألا يمد أحد غيري يده إلى البناء». قال: «لك ذلك». فحفر حتى بلغ الماء، ثم وضع الأساس وغطاه بالحصر، واختفى، وطلبوه سنة كاملة فلم يصلوا إليه، فلما كان بعد السنة جاء، فقال له الوليد: «ما دعاك إلى ما صنعت؟» فقال: «تخرج معي حتى أريك. فخرج والناس معه، حتى كشف الحصر، فوجد البنيان قد انحط ونزل قليلاً». قال: «من هنا كان سقوطها، فابن الآن، فإنها لا تهوي إن شاء الله. وبنى واستقرت القبة». وتم بناء المسجد صحناً مكشوفاً، حوله ثلاثة صفوف من الأعمدة وحرم مسقوف في وسطه رواق عال من الشمال إلى الجنوب، تتوسطه قبة النسر، وقد تزينت جدرانه بالفسيفساء وأسدلت على أبوابه الستور المزدوجة، وعلقت فيه قناديل البلور في سلاسل مذهبة.
مئذنة العروس
في المسجد الأموي أول مئذنة في الإسلام، مئذنة العروس، وله اليوم ثلاث مآذن وأربعة أبواب وقبة كبيرة، تسمى قبة النسر، وثلاث قباب في صحنه وأربعة محاريب ومشهد عثمان ومشهد أبو بكر، ومشهد الحسين ومشهد عروة ولوحات جدارية ضخمة من الفسيفساء وقاعات ومتحف، في داخله ضريح النبي يحيى عليه السلام، وبجواره يرقد البطل صلاح الدين الأيوبي، وبالقرب منه الكثير من مقامات وأضرحة رجال ومشاهير الإسلام. وقد صلى فيه أهم المشاهير في تاريخ الإسلام والفاتحين وعدد كبير من الصحابة والسلاطين والملوك والولاة وأكبر علماء المسلمين.وأصبحت مئذنة العروس نموذجاً للمآذن في سوريا وشمال إفريقيا، ونقل طرازها إلى الأندلس، وهي أقدم مئذنة إسلامية مازالت قائمة حتى الآن. وفي داخل الحرم يوجد أربعة محاريب مخصصة للمذاهب الأربعة. أما الزخارف الرخامية المنقوشة في المحراب والمنبر والمحاريب الأخرى فهي آيات فنية خطها المبدعون الدمشقيون الذين نقلوا فنونهم إلى أنحاء كثيرة من العالم العربي والإسلامي. أما جدران الحرم فقد زينت بالفسيفساء والرخام، والتي مازالت قائمة، وقد أعيد ترميم بعض أجزاء منها على أيدي عمال مهرة، لاسيما قبة الخزنة التي تعلوها قبة محمولة على ثمانية أعمدة.
كوارث وتدمير
تعرض الجامع الأموي خلال تاريخه الطويل إلى حرائق عديدة وكوارث طبيعية كالزلازل، وعمليات تدمير، وقد عبث به التتار والمغول في أواخر القرن السابع الهجري، إذ اتخذوه معسكراً لجنودهم، ونصبوا فيه المنجنيقات لرمي القلعة. أما تيمورلنك فقد أساء إلى الجامع الأموي ومدينة دمشق إساءة لم يرتكب مثلها أحد. ثم داهم حريق كبير المسجد كله سنة 1311 هجرية، لكن أهل دمشق بادروا إلى إعادة إعماره واستغرق ذلك تسع سنين، ولم يبق في دمشق صاحب فن إلا ووضع فنه في عمارة المسجد، ولا عامل إلا قصر عمله على المسجد. وكان يعمل فيه يومياً أكثر من خمسمائة عامل شامي.
تجديد المسجد
في العصر الحديث جرت أهم عملية ترميم وتجديد للجامع الأموي، وذلك في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد، إذ أمر بتجديده وترميمه، وعهد بهذه المهمة إلى لجنة من كبار المؤرخين وعلماء الآثار والمهندسين وعدة مجموعات عمل فنية متخصصة. وكلف الجميع بمهمة توثيق الجامع في مرحلة ما قبل الترميم وأثناءه وبعده، ونفذت أعمال ضخمة معمارية وعمرانية وإنشائية وطبوغرافية وكهربائية وميكانيكية، وعمل الجميع بمتابعة وإشراف الرئاسة السورية، حتى تم إعادة ترميم وتجديد هذا الصرح الديني والحضاري الهام، ودشن في عام 1998 بعد أن استغرقت الأعمال فيه سبع سنوات متواصلة، ليعود تحفة فنية حضارية تعكس روح الحضارة العربية الإسلامية في سوريا. في شهر رمضان الكريم يزدان الأموي بالأضواء والزينات، وتزداد أهميته، ويقصده المسلمون من مختلف الأنحاء، ويمكثون فيه لساعات طويلة، إذ أنه لا يغلق بواباته المتعددة أمام زواره على مدار اليوم، حيث يتحول في رمضان إلى حلقة عبادة وذكر وعظات. وتقام فيه صلوات التراويح. ولا يسبق الأموي أي مسجد آخر بدمشق في إطلاق أذان الإفطار. بل إن هيئة الإذاعة والتلفزيون في دمشق ترصد مئذنة الأموي لتعلن عن موعد الإفطار.
يهودية تختبر عدل الإسلام
يروي الشيخ الطنطاوي عن التاريخ المتوارث أن الوليد بن عبد الملك أراد أن يغطي قبة الجامع الأموي بالذهب، فنهاه العقلاء وأروه أن ذلك يستفرغ خزائن من المال، ولا ينفع شيئاً، فأمر أن تغطى بالرصاص. وجمع الرصاص من كل مكان، وبقيت قطعة من السقف لم يجدوا لها رصاصاً إلا عند امرأة أبت أن تبيعه إلا بوزنه ذهباً، فكتب بذلك العامل إلى الوليد، فقال له: اشتره منها بوزنه ذهباً، فلما قال لها ذلك، قالت: هو هدية مني إلى المسجد. فقال لها: كيف ضننت به أولاً إلا بوزنه ذهباً ثم سمحت به هدية؟. قالت: أنا لا أريد الذهب، ولكن أردت أن أختبر عدل الإسلام.
المسجد الأموي في أقوالهم
يقول الشيخ الشهير علي الطنطاوي: «لقد تشرفت فزرت آلافاً من المساجد، فما رأيت بعد المساجد الثلاثة التي ميّزها الله، وجعل الصلاة فيها أفضل بدرجات، مسجداً هو أقدم قدماً، وأفخم مظهراً، وأجمل عمارة، وأحلى في العين منظراً، من الجامع الأموي في دمشق». وتروي كتب التاريخ أن الخليفة العباسي المهدي، لما قدم الشام في طريقه إلى بيت المقدس دخل مسجد دمشق، ومعه كاتبه أبو عبيد الله الأشعري، فقال له: «يا أبا عبيد الله سبقنا بنو أمية بثلاث». قال: «وما هن يا أمير المؤمنين؟» قال: «هذا البيت (يعني المسجد)، ونبل الموالي، فإن لهم موالي ليس لنا مثلهم، وعمر بن عبدالعزيز لا يكون فينا مثله أبداً». ولما وصل إلى بيت المقدس ورأى قبة الصخرة، قال: «يا أبا عبيد الله وهذه رابعة». ولما دخل المأمون مسجد دمشق، ومعه المعتصم، ويحيى بن أكثم، قال لهما: «ما أعجب ما في هذا المسجد؟» قال المعتصم: «ذهبه وبقاؤه فإنا نجعله في قصورنا، فلا تمضي عليه العشرون سنة حتى يتغير». قال: «ما ذاك الذي أعجبني منه». قال يحيى: «تأليف رخامه، فإني رأيت شيئاً ما رأيت مثله». قال: «ما ذاك الذي أعجبني منه». قالا: «وما الذي أعجبك؟» قال: بنيانه على غير مثال متقدم».
وخرّ مغشياً عليه
يصف الرحالة ابن جبير المسجد فيقول: «هو من أشهر جوامع الإسلام حسناً وإتقان بناء، وغرابة صنعة وتزييناً، وشهرته المتعارفة في ذلك تغني عن استغراق الوصف فيه». ويروى أن الخليفة الأموي الزاهد عمر بن عبدالعزيز أراد أن يخفف من مظاهر الترف والإسراف في الجامع الأموي، وأن يرد ما فيه من ذهب ونفائس إلى بيت المال. وقبل أن يهم بذلك وقعت حادثة جعلته يعدل عنه. فقد جاء وفد بيزنطي إلى دمشق، واستأذن في مشاهدة الجامع، وقيل إن رئيس الوفد سقط مغشياً عليه، خلال تأمله روائع البناء، فلما أفاق سئل عما أصابه، فأجاب بأن أهل رومية يتحدثون عن أن بقاء العرب في هذه البلاد قليل، فلما شاهد البنيان أيقن بأنهم باقون فيها، وأن لا رجعة لبيزنطة إليها بعد اليوم، فلما أخبر الخليفة عمر بذلك قال: «ما أرى مسجد دمشق إلا غيظاً على الأعداء». وترك ما كان قد هم به.
المصدر: دمشق