(حوار) إبراهيم سليم
انتهى مجلس الإفتاء الشرعي في الدولة من وضع نظام داخلي لضبط الفتوى، واعتمد آليات لترخيص المفتين، خاصة فيما يتعلق بالفتاوى العامة وقضايا النوازل، بحسب الدكتور محمد مطر الكعبي، رئيس الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف.
ودعا الكعبي في حواره مع «الاتحاد» إلى وضع استراتيجية شاملة لمواجهة التطرف والإرهاب والكراهية، مؤكداً أن جوهر الإنسانية يكمن في إعلاء لغة التسامح بكل مكان، لأن الإنسان اجتماعي بطبعه، منوهاً إلى أن البشرية عانت على مدى قرون سابقة من ويلات ثقافة الكراهية التي أدت إلى العنف والدمار والحرمان الحضاري من تواصل الشعوب.
وفي رده على سؤال حول مدى كفاية القوة الرادعة لمحاربة التطرف والإرهاب، وهل يهزم الإرهاب بالقوة وحدها، أم بالفكر، أم بكليهما معاً؟، قال: «لابد من استراتيجية شاملة لمواجهة التطرف والإرهاب لأن المعركة ضد الإرهاب لا تحتمل أنصاف الحلول، ولا المساومة، ولا المهادنة، إذ إن تنظيماته دموية لا إنسانية أو أخلاقية»، منوهاً إلى أن دول العالم عامة والدول المتضررة من الإرهاب خاصة بذلت جهوداً كبيرة وحققت نجاحات عظيمة وانتصارات ساحقة في التصدي للإرهاب وإلحاق الهزيمة به عسكرياً، وتمكنت من تقليص رقعته ومحاصرته والحد من اتساعه.
لكنه استدرك بالقول: لابد من تضافر الجهود، لمواجهة الإرهاب فكرياً لإلحاق الهزيمة به، مشدداً على أن الإرهاب لن ينهزم إلا من خلال مواجهة الفكر الذي يحرض عليه، معتبراً أن أي استراتيجية ناجحة لهزيمة الإرهاب ينبغي أن تنطلق بالأساس من المواجهة الفكرية والثقافية، والقضاء على الأيديولوجية التي يستند عليها.
وقال الدكتور الكعبي: ما زال الفكر المتطرف ينشر ثقافة الكراهية ويقوم بتجنيد الشباب وغسل أدمغتهم وملئها بالحقد على دولهم ومجتمعاتهم، فإذا أريد تذويب هذا الفكر المتكلّس فلابد من تبني استراتيجية فكرية وثقافية تعمل على تجفيف المنابع الفكرية والثقافية التي تغذي التطرف وتحرض على الكراهية، وتعمل في الوقت ذاته على تحصين النشء والشباب وتوعيتهم بمخاطر الوقوع في براثن هذه الجماعات أو التأثر بأفكارهم الضالة والهدامة.
وأضاف: لدى الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف استراتيجية متكاملة على صعيد التصدي الفكري للإرهاب، تقوم على بناء شراكات استراتيجية بين المؤسسات المعنية بالخطاب الديني، والمؤسسات الإعلامية الرسمية والمجتمعية لضبط الخطاب الديني في وسائل الإعلام، وتنظيم البرامج والمنتديات لتنمية الوعي بالفكر الإسلامي المعتدل، وتصحيح المفاهيم المغلوطة عن الإسلام ومبادئه السمحة، عبر جميع وسائل الإعلام وشبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي باللغة العربية واللغات الأجنبية العالمية.
الوسطية والاعتدال
وحول العلاقة بين الإفراط والتفريط وكيف نلتمس الطريق السوي، أكد الكعبي أن الإفراط والتفريط أسلوبان سلبيان والمجتمعات المسلمة منذ مئات السنين تعيش على الوسطية والاعتدال والتناغم مع الآخر بروح المواطنة وتبادل المصالح، وإن شذ من تشدد أو تساهل هنا أو هناك، لكن أغلب المجتمعات على بصيرة وعلى السبيل السهل الواضح، ولذلك ترى العقلاء اليوم يعيدون رسم طرق الوسطية والاعتدال في كل بيئة ومجتمع: سلوكاً وثقافة وقناعة والتزاماً، فالطريق واضحة لمن أراد أن يعيش جمال الحياة، يقرأ ملامحها المسلم كل يوم عشرات المرات في الفاتحة (اهدنا الصراط المستقيم) فكل هذه الأوصاف للصراط محددات توضيحية تبين للناس الجادة التي لا عوج فيها ولا أمتا إلا من في قلبه مرض وفي عقله لوثة، فدواؤه الأخذ بيده وإشراك الجميع للتصدي لنصحه، وإخراجه من ترديه.
الإفتاء الرسمي
وفيما يتعلق بالوسائل والآليات الخاصة بالتصدي للفتاوى الشاذة التي تؤثر على استقرار المجتمع، أكد رئيس الهيئة أن حكومتنا الرشيدة أدركت خطورة فوضى الفتاوى وما تحدثه مـن إربـاك في المجتمـع، فاعتمد مجلس الوزراء الموقر تعزيز مرجعية الإفتاء الرسمي في الدولـة كهـدف اسـتراتيجي وأناط تحقيقه بالمركز الرسمي للإفتاء في الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف ليقـوم بضـــبط الفتـــوى في المجتمـــع وتوحيـــد مرجعيتهـــا وســـد البـــاب أمـــام الفتـــاوى الارتجاليـــة، والتواصل المباشر بين المجتمع بكل شرائحه مع أهل العلـم والاختصـاص الشـرعي، وتنميـة الوعي الديني ونشر فكر الاعتدال والوسـطية والتسـامح، معرفـة حاجـات المجتمـع والعمـل على توجيهه نحو التصرف الشرعي الصحيح، والمساعدة في حل مشكلاته.
وقال الكعبي: ثم ظهرت الحاجة لتشكيل مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي الذي تم تشكيله بقرار مجلس الوزراء الموقر رقم 31 لسنة 2018 الذي ينص على اعتبار مجلس الإفتاء الجهة الوحيدة المخولة بإصدار الفتاوى العامة الشرعية في الدولة، ويقوم بضبط الفتوى الشرعية وتوحيد مرجعيتها، وتنظيم شؤونها، وآليات إصدارها في الدولة، وتلتزم الجهات والمؤسسات الإعلامية المختلفة والمواقع الإلكترونية على الشبكة المعلوماتية (الإنترنت) ومستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي في الدولة بالحصول على تصريح من المجلس قبل نشر الفتاوى الشرعية أو استضافة أشخاص للإفتاء الشرعي أو تنظيم برامج للفتوى الشرعية، والمجلس الآن قام بوضع نظام داخلي لضبط الفتوى في الدولة واعتمد آليات لترخيص المفتين المؤهلين قبل أن يتصدوا للإفتاء في وسائل الإعلام، خاصة فيما يتعلق بالفتاوى العامة وقضايا النوازل التي تؤثر على استقرار الدولة السياسي والاقتصادي والاجتماعي، أو تثير الفتنة والطائفية والفرقة في المجتمع.
مكافحة الكراهية
وحول موجات ثقافة الكراهية، قال الكعبي: إن القيادة الرشيدة تستشرف المستقبل وتقود مسيرة دولتنا إلى الريادة الحضارية العالمية، ومن أبرز الأمثلة الرائدة القانون الاتحادي رقم 2 لسنة 2015 الذي أصدره صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، وهذا القانون الذي عرف باسم قانون مكافحة التمييز والكراهية وبموجبه يتم تجريم كل أشكال ازدراء الأديان والمقدسات وخطابات الكراهية والتكفير، وجميع أشكال التمييز على أساس الدين أو العقيدة أو الطائفة أو المذهب أو الأصل أو اللون أو العرق، كما يجرم القانون كل قول أو فعل يدعو إلى إثارة الفتن والنعرات أو استغلال الدين في تكفير الأفراد والجماعات.
وأضاف الكعبي: أدركت قيادتنا الرشيدة أن البشرية قد عانت على مدى قرون سابقة من ويلات ثقافة الكراهية التي أدت إلى العنف والدمار والحرمان الحضاري من تواصل الشعوب، وعلى الرغم من وسائل العولمة التي اخترقت الحدود بين الشعوب والثقافات وفتحت حدود التواصل على مصاريعها، وأحدثت بالفعل ثورة على الانغلاق، ففيها أتيحت مجالات للتعارف أكثر سهولة وفهماً للآخرين؛ لكن ذلك لم يوقف خطابات الكراهية من المتعصبين والمتطرفين، فاستخدموا وسائل التواصل وحولوها إلى وسائل قطيعة، وأصبح خطاب الكراهية حاضراً في وسائل التواصل.. فمن جهة ترى «داعش» تبث مقاطع الإرهاب في أبشع صوره؛ ترى في المقابل الإرهابي المتطرف في نيوزيلندا يمارس القتل الإجرامي للمصلين في المساجد ويبث جريمته على الهواء مباشرة عبر مواقع التواصل العولمي، فهذا يعني أنه لا تزال هناك بؤر وجماعات تضيق ذرعاً وعقلاً وإنسانية بالانفتاح والتسامح وقبول الآخر وتكامل الحضارات، ومن هنا يأتي دور القوانين الرادعة التي حققت فيها الإمارات قصب السبق لتمنع أصحاب الفكر المتطرف من تسخير وسائل التواصل لصالح خطابات الكراهية وإثارة الفتن بين الشعوب.
عاصمة التسامح والسعادة
وقال الكعبي: نحن نعيش في دولة أسسها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، أسسها على الحب والتسامح والإنسانية والتعاون الحضاري بين كل الشعوب والثقافات لتصبح دولتنا في ظل قيادتنا الحكيمة عاصمة للتسامح تبتكر لترسيخه وزارات التسامح والسعادة والشباب والتعاون الدولي، وكذلك المنتديات التي تعزز السلم واحترام تعدد الجنسيات واحتواء ثقافاتهم وكل المفردات الإنسانية الجميلة والجهود التي يقوم بها منتدى تعزيز السلم برئاسة معالي الشيخ العلامة عبدالله بن بيه.
وأضاف: إن مؤشرات التفاؤل بغد أجمل تلوح في الأفق، إذ من الأنموذج الإماراتي في التسامح والوسطية وقوافل السلام بدأت الأمم المتحدة تقرأ هذا الأنموذج بوضوح، وبدأ يتبلور خطاب عالمي رسمي ومدني لتجفيف ثقافة الكراهية والتعصب والعنصرية، بل صارت المؤسسات الفكرية في أغلب دول العالم تتعقب تلك الثقافة وتعريها وتعزلها، ولا أدل على ذلك من استهجان كل شعوب الأرض آثار تلك الثقافة المتخلفة وما أفرزته من هجوم على أقدس ما تحترمه شعوب العالم وهو المساجد والكنائس في نيوزيلندا وسريلانكا وسواهما.
التعددية والتنوع
فيما يتعلق ببث التسامح بين الأفراد داخل المجتمع الذي يضم أكثر من 200 جنسية وخارج الدولة، قال رئيس الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف، عام التسامح الذي أطلقه صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، فرصة لترسيخ قيم نؤمن بها، والتعريف بتاريخ نعتز به ونهج نعيشه، وتأصيل رسالة نؤديها، فجوهر قيم التسامح يكمن في احترام المقدسات ومعتقدات الآخرين، وإيجابية التواصل والتعارف بين البشر، والتكامل والتعاون الحضاري ضمن التعددية والتنوع الثقافي، ونهج التسامح الذي نعيشه يرجع تاريخه إلى إرث مؤسس دولتنا والدنا الشيخ زايد، طيب الله ثراه، الذي ربى شعبه على تقديم الخير للإنسان دون تمييز أياً كان دينه أو معتقده أو مذهبه أو جنسيته أو جنسه أو موطنه، وقد أثبت الواقع أن الحياة لا تجمل ولا تزدهر إلا بسيادة ثقافة التسامح ولا تتحقق السعادة والارتياح والاستقرار إلا بالتسامح، بدءاً من الأنفس وبيئاتها والمجتمعات ومكوناتها والدول ومصالحها، وما وصلت إليه حكمة قيادتنا الرشيدة من اعتماد ثقافة التسامح، وعام التسامح هو الثقافة العالمية التي ينبغي أن تسود، فقد انتعشت الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في دولة الإمارات بهذه اللغة عالية الدلالات، فجوهر الإنسانية لن يتألق ويزداد بريقاً إلا بإعلاء لغة التسامح في كل مكان، لأن الإنسان اجتماعي بطبعه.
لا إكراه في الدين
قال رئيس الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف: لابد أن ندرك أن قيم التسامح مستقاة من ديننا الحنيف الذي يحض على التواصل البناء مع اتباع الديانات الأخرى تأسيساً على المبدأ القرآني (لا إكراه في الدين) والذي يقدس كرامة الإنسان من منطلق قوله تعالى (ولقد كرمنا بني آدم).
وأضاف: وفي ذلك مراعاة للأخوة الإنسانية بين البشر، وحقوق الإنسان مصانة ومحفوظة يحميها العدل، كما قال تعالى (إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان) وحقوق المواطنة ثابتة مع اختلاف الدين.
ونوه إلى صحيفة المدينة التي نصت على أن لكل ذي دين أن يبقى على دينه ويتعايش الجميع في أمان واطمئنان.
وأشار إلى أن وثيقة الأخوة الإنسانية شكلت تحولاً تاريخياً في مسيرة التسامح الديني، هذه الوثيقة التي وقع عليها قداسة البابا فرنسيس، وشيخ الأزهر الشريف الدكتور أحمد الطيب خلال المؤتمر العالمي للأخوة الإنسانية الذي جمع قادة أديان العالم، وتم توقيعها في أبوظبي عاصمة التسامح في فبراير 2019 بحضور صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، وصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة. ولفت إلى أن الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف أطلقت عدة مبادرات لترسيخ التسامح في المجتمع، فسيرت قوافل التسامح الديني التي يقودها الوعاظ في سائر أنحاء الدولة، وغرست شجرة التسامح في مساجد الشيخ زايد، وأعدت حقيبة التسامح الديني، وتعمل على إصدار دليل قيم التسامح، مع ضمان التزام جميع العاملين في المساجد بوثيقة التسامح الديني، بالإضافة إلى تطوير مناهج التربية والتعليم لتعزيز التسامح الديني، واليوم ضيوف صاحب السمو رئيس الدولة في رمضان يقومون بتعزيز ثقافة التسامح في مساجد الدولة ومؤسساتها الرسمية والمجتمعية ومجالس الأحياء.