السبت 23 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«شتاء».. روح الشاعر السائلة على الرمال

«شتاء».. روح الشاعر السائلة على الرمال
27 أغسطس 2009 01:52
إذا كان العنوان ثريّا النص، فإن عنوان مجموعة الشاعر خالد البدور يفضي الى متاهة تستدعي البحث عن جذورها لالتماس التأكد من وجود خيوطها، والعنوان الثابت للمجموعة الشعرية «شتاء» يدفع القارئ الى البحث عن نص يحمل هذا العنوان، إلا أن العين الفاحصة لا تجد أي عنوان يحمل هذا الاسم، ولم يرد اسم الشتاء الا في ثلاث قصائد من مجموع مئة وتسع وسبعين قصيدة، وهذا البون الشاسع بين العنوان وبين النصوص يستدعي السؤال: إذن أين العنوان أو الاتجاه الذي يذهب إليه العنوان ؟ الاجابة تكمن في ان الأداء الشعري في عموم الديوان يشير الى التمويه المقصود للشكوى من شتاء الوحدة والعزف على البرد المنفرد والاشارة الى الغموض والسرية، يقول الشاعر في قصيدة «بحثاً عن النسيان» ص 27: لأنك غامضة وسرية مثل ليلة شتوية فأنا لا أتقن ترتيب بيت الكلام كما يجب حتى يتحول الى أسير يضيق صدره في الشتاء، والشتاء هنا يتحول الى صندوق ذكريات للأشياء المفقودة، كما في قصيدة «حديقة» ص 45: الحديقة تترامى وصدري يضيق أرى فوق غصن حمامة الشتاء كتل الغيم السابحة صرير الريح بين الاشجار ومثل أسير بأصفاده سرتُ وفي «صور الكلمات» ص 74 يصبح الشتاء مرتعاً لتلاطم الأحلام : الشتاء أحلامنا تتلاطم زرقاء معتمة أفكارنا والكلام موج تماوت في جسد البحر إذن.. كل مهيمنة نفسية او حاملة لذكرى هي بنت «شتاء»، هذه المجموعة التي تأخذ من الشتاء وحدته وبرده، وموجاته تتلاعب بوجه البحر، الا استثناء واحد في الصفحة 95 لنص «الغبار فوق القلب» حيث يأتي الشتاء بصيغة الجمع: كانت هناك شتاءات فرقت لك الغيم فيها كالهدايا وتأملت المطر يلاشي الغبار المتراكم فوق القلب وهي الحالة الوحيدة التي تلتمس من الشتاء أنيساً، وهذا التوصل يشي بطريقة التوجه الكتابي للشاعر الذي لا يكشف عن طريقة الكتابة بل يجسد الاحساس وفق سيناريو هادئ يعتمد على الصانع الآخر.. وفق قراءة متوازية لشعر يحمل العمق والمتعة والوضوح. الإفاضة والحذف قصيدتان قادتا العين القارئة الى تبيان الفرق بين النص باعتباره افاضة غنية بالبوح رغم اكتنازه على القول المختزل خاصة اذا جاء بهيئته الخاصة دون منافس ولكننا ازاء نص واحد بعنوانين: الأول يحمل عنوان «غرفتان»، يشتمل على نص واحد قصير، والثاني يحمل عنوان «ليلة في منزل»، في المقطع الأول من «غرفتان» ص 99: تغير درب الريح الليلة والمرأة نهضت الى الغرفة الأخرى باحثة عن أحلام أقل قسوة نفس النص يتكرر في «ليلة في منزل» ص 139 وبطريقة منفصلة بفراغ عن مقطع جديد يشير الى العزلة: في منزل معتزل قرب الساحل يندفع الموج هازاً الأركان تحت فضاء أسود حيث العواصف تعوي في شقوق الجدار ويستمر النص: لا ينهض الرجل يقلب جسده في الفراش روحه تضطرب وهذا الاستمرار يشكل روح الاختصار في قصيدة «نافذتان» التي تشكل هي أيضاً روح الاختزال الحقيقي الذي يشكل بدوره روح الشعر الحديث دون الاعتماد على الزوائد التزويقية للغة، فيما يقع النص الثاني في فخ المسودة الاولى، وتبقى المسألة غامضة في تكرار جزء من نص مع تبديل العنوان. أمام الماضي يشكل الماضي بالنسبة للشاعر الحاضنة الاولى التي يرغب في مغادرتها ولكن دون قسوة او جفوة، بيد أن الماضي يعود الى ذاكرته دون ان يستحضره بنفسه او يتأسى عليه كما يفعل اغلب الشعراء إزاء الايام العتيقة، يقول في قصيدة «بدو مجهولون» ص 32: من اين يأتي صوت هاون القهوة هذا الذي يدوي في جدران بيتي حيث هجعت ناسياً التلفزيون يلمع في الظلمة دون صوت إلى أن يحيلنا في نهاية النص إلى حيرته الغامضة: ولماذا الآن يغزون بيتي بوجوههم المتسائلة وما كان نومي سوى مشاكسات نعاس عند عتبة الفجر اذن العلاقة مع الماضي هي مشاكسات نعاس وليست عملية استذكار وموقف، بل هي احساس غير متصل بل يتماهى مع الغياب والتيه: اعرف ان ذاكرتي نسيت شكل الماء كنت تائهاً مثلهم يهيمون بلا أرض الباحثين منذ قرون عن النجوم واذا رجعنا للعنوان فان البدو يقعون في المجهول وفي النسيان وهم يبحون بعيدا عن النجوم، فيما يحقق نص «دون جغرافيا» ص57 تماهياً مع الموقف القاطع من العلاقة مع الماضي بدءا من العنوان الى الاختزال وثنايا النص: يعودون دون جغرافيا الى ضفة فارقوها في النهار القديم يعودون كحفنة الذكريات الفقيرة فيما يفرق موج جديد ملامحهم في السواحل نصوص البدور تقودنا حتما نحو الأفكار ولكن بحسية عالية حيث هناك خيط حريري من الفلسفة التي لا تجنح الى التشدق بموقف محدد بل هناك دائما حياة يجسدها بالشعر وبالشعر وحده. العلاقة مع الاخر عند خالد البدور تحيلنا في اكثر النصوص الى الأنثى ضمن علاقة استذكار وقطيعة شفيفة تعبر عنها قصيدة «عما قريب» ص 85: سنلتقي عما قريب لكننا سنفترق دون ان نعرف مكان اللقاء الجديد وحتى العلاقة بالانثى هي علاقة لا تحمل تفسيراً بل غامضة، وتأتي بالصدفة مما أحال النصوص الى شفافية أعانت النص على تشذيب نفسه من المباشرة الفجة: لأنك غامضة وسرية مثل ليلة شتوية فأنا لا أتقن ترتيب بيت الكلام كما يجب لأنك تتحركين مثل ريشة فقد التقطتك من الهواء دون تفكير وسِرْنا الشاعر التقط الانثى من الهواء دون تدبير او تخطيط بل (دون تفكير) ليؤكد حسية تناول الاشياء عند الكتابة لديه، حتى يصل في نهاية في نهاية المطاف الى موجته القديمة ملقياً القبض على روحه السائلة على الرمال كما في «موجة» ص 179: دائماً ألقي القبض على روحي تتسلل مبتعدة عني تسيل على الرمل عائدة موجة البحر القديمة هذا النص الاخير في الديوان يشي بالتدبير المقصود، وهو الوحيد الذي وضعه الشاعر في خاتمة الكتاب ملوحاً بروحه الهاربة نحو الموجة القديمة دون ان يتدخل هو بهذا الرجوع، فقط.. تدخل بالقبض على روحه ليشاهد الصورة التي تحدث حركتها امامه. الشاعر خالد البدور بهذا الحضور الطاغي والأداء الهادئ يشكل علامة باهرة ليس في الشعر الاماراتي الحديث بل في خريطة الشعر العربي، وسط خضم من الامواج العاتية التي تحمل الكم الهائل من الشعر لتقذفه على شاطئ المطبوع العربي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©