السبت 23 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تخوم الزمن الجميل

تخوم الزمن الجميل
23 مارس 2011 19:47
تتنوع إسهامات الشاعر سيف الرحبي بين الشعر والنثر، كما تدل على ذلك قائمة أعماله الكثيرة التي صدرت حتى الآن، حيث تتداخل التخوم بين الشعر والنثر في هذه التجربة الثرية التي تنفتح بصورة دائمة على قلق الذات وأسئلتها التي تندغم في أسئلة الإنسان وبحثه عن معنى ما لوجوده، الذي تتلاطم أمواجه وتنكسر على حواف العدم. وفي كتابه الجديد وعبر لغة شاعرية حميمية يوحي بها منذ البداية عنوان الكتاب “القاهرة أو زمن البدايات”، تكشف لغة تلك النصوص التي يحتويها عن السطوع الواسع لتلك العلاقة الوجدانية الخاصة التي تربطه بالمكان الأثير الذي تشكل فيه وعيه المعرفي والسياسي والأدبي ممثلاً بقاهرة المعز، وذلك من خلال تقديم اسم المكان الذي هو اسم المدينة على الزمان المتمثل في سنوات التجربة التي عاشها الشاعر في هذه المدينة منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي. وبقدر ما يكشف هذا التقديم لاسم المكان على الزمان باعتبار أن المكان هو الحاضن الحميم لتلك التجربة وهو الذي تتكشف فيه تحولات الزمان وحركته، فإنه يكشف في الآن ذاته عن رغبة الشاعر في توجيه انتباه القارئ إلى هذا المكان لما يحظى به من خصوصية وحضور عميقين لديه، حيث فيه ومعه يرحل الشاعر بعيداً في أعماق ذلك الزمن بأحداثه وتحولاته، والمسكون بالكثير من الوجوه الثقافية والأدبية التي شكلت علامات فارقة في تاريخ تلك المدينة التي يستعيد أبرز ملامحها التي تنهض من عمق الذات والذاكرة لتروي سيرة ذلك الزمن الجميل. من هنا نفهم لماذا يلح على الشاعر بقوة حضور هذه المدينة في هذه النصوص.. ولماذا يكون هذا الحنين لاستعادة تلك التجربة التي ارتبطت بزمن البدايات الأولى للشاعر الذي أقام في مدن عديدة ظلت القاهرة بينها هي الجديرة بالتفرد والخصوصية في العلاقة معها؟ مرور عاصف في مقدمة الشاعر، يمكن للقارئ أن يستدل إلى معنى تلك الخصوصية التي تدفع به لاستعادة الكثير من وقائع تلك التجربة وتأثيراتها العميقة على وعيه ورؤيته، إضافة إلى العديد من الوجوه الأدبية التي شكلت علامات فارقة في الحياة الثقافية لتلك المدينة حينئذٍ، إذ تبدو سطوة الحضور العاطفي الخاص للمكان “القاهري” طاغية من خلال استعادة نصوص الكتاب لتلك التجربة بأبعادها الذاتية والعامة التي “لم تنضب مع مرور الزمان العاصف وإن خفت حدّتها، فقد ظل ذلك الماضي الذي عشت الصبا في ربوعه وقود هذه العاطفة وضمان استمرارها.. فقد عشت في القاهرة سنوات التكوين المعرفي والعاطفي والوجداني الأولى، وكانت هي البوابة بالنسبة لي نحو العالم بما يعنيه من سياسة وحداثة أدبية وفكرية، وهي البداية الحقيقية للتعرف على الذات جسداً ومشاعر، وكذلك على الآخر أو العالم..”. تتأسس هذه العلاقة على مسألتين اثنتين، المسألة الأولى تكمن في حالة العزلة للمكان الأول المستلقي على تخوم الطرف الأقصى لشبه الجزيرة العربية الذي عاش فيه تجربة وعيه الأول، ما جعل لقاءه بالمكان الجديد على رحابته واتساعه يشكل صدمة لوعي الشاعر إن لم يكن جنة الحلم في مخيلة الطفل القادم، كما يصفها شخصياً، بينما تتمثل المسألة الثانية في معاني الإشراق والخصوصية التي كانت تتسم بها تلك المرحلة التاريخية التي كانت القاهرة تمثل فيها المركز العربي سياسياً وثقافياً سواء على مستوى الأحلام أو المشاريع أو التجمعات السياسية والثقافة التي لا يمكن كما يقول الشاعر لفرد أن يجد موطئاً لقدم إلا تحت رايتها واسمها. ويمكن للقارئ أن يتلمس الأبعاد الوجدانية التي لا تزال مؤثرة في وعي الشاعر من خلال قراءته في النص الطويل الذي يحمل عنوان عام “جنازة الرئيس أو البدايات” الذي يحاول فيه الرحبي تقييم أبعاد تجربة الستينيات في مصر سياسياً وأدبياً برموزها وإنجازاتها ومخاضاتها وما تلاها من تحولات وتغيرات أفقدت هذا المركز دوره لصالح مراكز جديدة كانت تتشكل عربياً في مدن أخرى. الذاتي والعام يتداخل الذاتي مع العام في سيرورة تلك التجربة وتحولاتها، كما تمزج الكتابة بين السيري الخاص وسيرة المكان ـ القاهرة في تلك المرحلة، لا سيما على المستوى السياسي الذي كان ضاغطاً بقوة على تلك المرحلة بمستوياتها وتعبيراتها المختلفة، بدءاً من الحركة الطلابية العربية الحاشدة وعلاقاتها بالتأطير الأيديولوجي الذي كانت تخضع له، وما أعقب ذلك من تحولات مع رحيل جمال عبد الناصر ووصول السادات إلى سدة الحكم في مصر. لا يتوقف الشاعر عن رصد هذا التحول على المستويين السياسي والثقافي، بل يتجاوزهما إلى المكان مع نشوء أحياء جديدة وواسعة على أطراف مدينة القاهرة، كانت في عمرانها وتشكليها تخلو من أي ملمح جمالي، وكأن المكان يعكس في صورة فوضاه ونموه السريع وخلوه من الانسجام طبيعة تلك المرحلة وتحولاتها على المستويات المختلفة. وفيما يستعيد الشاعر الكثير من وقائع تلك التجربة ومساراتها وتفاصيلها، نلاحظ تلك الحوارات الذاتية والتداعيات التي تجري على هامشها بصورة تعكس فيها وعيا ذاتياً ينتقل من الوصف والاستعادة إلى التمعن والقراءة والتأمل وطرح الأسئلة حول حقيقة ما كان يجري. وفي هذا الإطار، تنهض ثنائية المنفى/ الوطن التي شكلت جوهر تلك التجربة سواء على المستوى الوجودي الخاص أو العام، أو على المستوى الأدبي. المنفى ـ الوطن تظهر ثنائية المكان والوطن المنفى من خلال علاقة الشاعر بالأمكنة الأولى التي عاش فيها بداية تكون وعيه، والأماكن الأخرى التي حاول فيها عبر رحيله الدائم وإقاماته هناك وهناك أن ينهي حالة القلق والبحث التي تتزايد أكثر، حيث تتخذ تلك العلاقة بعداً مركزياً تتجلى تعبيراتها في نصوصه المختلفة، التي تشكل فيها تلك الأماكن مرجعاً للذاكرة ومعيناً للمخيلة الشعرية “يمتزج البعد الوجودي ـ الأنطولوجي للمنفى بأبعاد اجتماعية وسياسية، وهذه الأخيرة تلهب الأولى وتدفع بها إلى حافة أكثر خطورة ومكابدة.. هذا النزوع أو الطموح لبناء وطنٍ موازٍ عبر الكتابة يحمل كل هذه الأعباء من الفجائع والمهازل لا محالة له من توسيع رقعة الكتابة ومفهومها من الدخول في حقول التجريب والخروج على ما هو متفق عليه وسائد”. وجوه عديدة يستحضرها من غيابها لتضيء ذاكرة النص لعل أهمها وجه الشاعر المعروف أمل دنقل نظراً لما شكلته تجربته من خصوصية وتفرد، كان التاريخ محورها عبر أقنعته الكثيرة التي عمل على توظيفها للتعبير عن قضايا الواقع والإنسان العربيين وعن استشرافه للمستقبل. كذلك يستعيد وجه الشاعر الذي رحل بصورة مبكرة وفاجعة علي قنديل من خلال نصوصه وما قدمته من هواجس ونزوع تجريبي وتوق إلى الحرية. ويحضر غالب هلسا الروائي والناقد الأردني الذي أقام في القاهرة زمناً طويلاً ثم طرد منها في عهد السادات بوصفه علامة من العلامات الثقافية لتلك المرحلة، وصورة لتجربة الهجرة المتواصلة، والبحث عن وطن عبر الكتابة الإبداعية التي حملت رؤاه وقضايا الواقع وهمومه. وهكذا تعيد نصوص هذا الكتاب بشاعريتها وحميميتها تشكيل مشاهد وصور الأمكنة في رحلة الشاعر الأولى من نهايات الربع الخالي إلى عاصمة الثقافة والسياسة العربية آنذاك بشوارعها وأحيائها وأسماء مدنها وشخصياتها وحراكها باعتبارها شهادة على زمن وتجربة ومدينة لا تزال تفرد أجنحتها على اتساع فضاء الروح والمخيلة، وتطغى بحضورها العاطفي على الذات المسكونة بحبها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©