دمشق ـ فاطمة شعبان:
'نحن لا نخشى المنافسة لأننا خارج أي منافسة'·
بهذه الكلمات بادرني موفق بكداش بن حمدي بكداش - مؤسس بوظة بكداش- التي تعتبر أحد أهم معالم مدينة دمشق وأكثرها شهرة·
للوهلة الأولى قد يبدو في الكلمات بعض العجرفة، لكن الداخل إلى صالون بكداش للبوظة في سوق الحميدية، سيقع في قلبه أن الكلام يعبر عن حقيقة يمكن لمسها يومياً في المكان الذي يعج بالزبائن طوال الوقت·
ولا نبالغ إذا قلنا أن أغلب زوار دمشق القديمة يأتون إلى هذا المكان، أكثر من ذلك، لكننا لا نستطيع الجزم بصحة قوله 'أن أول بوظة في العالم صنعت في محله'·
هل صحيح أن أول بوظة في العالم صنعت هنا في صالون بكداش في دمشق؟
اعتبرت فكرة تجميد البوظة قبل أكثر من قرن من الأمور الغريبة جداً، والتي لم تكن تخطر على بال أحد، وكان والدي أول شخص في العالم يتمكن من إنجاز هذا الأمر· نعم··· البداية الأولى للبوظة كانت هنا في دمشق، وفي معملنا تمت الولادة الأولى والحقيقية لأول بوظة في العالم في العام ،1895 وانتشرت من هنا إلى جميع أنحاء العالم، انتقلت أولاً إلى روسيا في عام ،1900 ثم انتقلت إلى فرنسا وبريطانيا في العام ·1905
كيف خطرت لوالدك فكرة صناعة البوظة؟
لم تكن صناعة البوظة بالنسبة لوالدي مجرد فكرة، بل كانت أشبه بحلم صعب المنال، وشكل تحقيقه تحدياً عظيماً نظراً لعدم توفر الإمكانيات التقنية لتنفيذه في ذلك الوقت· ولكنه استطاع تحويل الحلم إلى حقيقة، كرس كل حياته وماله لتحقيقه والحفاظ عليه واقعاً· وكان طموحه تأسيس شركة كبيرة لصناعة البوظة، واستطاع تحقيقه، عبر توظيف إمكانيات مادية ضخمة في ذلك الوقت· وأسس شركة ضخمة، عمل فيها أكثر من خمسين عاملا على تجهيز البوظة في البراميل النحاسية، وخمسين عاملا لسحب البوظة وتقطيعها وتوزيعها· بالإضافة لعدد كبير من العمال الذين كانت مهمتهم كبس الثلج وتخزينه في الشتاء ونقله صيفاً·
كيف استطاع والدك عام 1895 صناعة البوظة بدون كهرباء؟
اعتمد والدي في صناعة البوظة على الثلوج الطبيعة التي تتوافر بكثرة على الجبال المحيطة بمدينة دمشق في فصل الشتاء، بشكل خاص جبال الزبداني وجبل الشيخ· فقد ابتكر طريقة لتخزين هذه الثلوج شتاءً ليتم استخدامها لاحقاً في صناعة البوظة صيفاً، عبر تخزينها على شكل قوالب في مغاور هذه الجبال، وكلما امتلأت مغارة بالثلج كان يتم إغلاق مدخلها بإحكام ولا تفتح إلا بداية الصيف، موسم صناعة البوظة· كان الثلج يعبأ في براميل خشبية صنعت خصيصاً لهذا الغرض، يتم نقلها ليلاً على ظهور الخيل لتصل مع تباشير الصباح الأولى إلى المعمل، لتبدأ بعدها عملية تجميد البوظة، والتي كانت تتم بتقنيات يدوية، في أواني صنعت خصيصاً لهذه الغاية، وهي عبارة عن برميل خشبي كبير يتوسطه برميل من النحاس أصغر حجماً، يملأ الفراغ بين البرميلين بالثلج، وعندما يرش الملح على الثلج تنخفض درجة حرارته إلى العشرين تحت الصفر، وبالتالي تصبح درجة حرارة البرميل النحاسي عشرين تحت الصفر أيضاً، عندها تبدأ عملية تجميد البوظة التي تكون قد أعدت مكوناتها وطبخت سلفاً·
مكونات طازجة وطبيعية
مم تتكون البوظة البكداشية، وكيف تحضرونها اليوم؟
قام والدي بعد انتشار الكهرباء في دمشق في ثلاثينات القرن الماضي، بتطوير أغلب آلات صنع البوظة وتحويلها من آلات يدوية إلى آلات تعمل بالكهرباء، وكل فترة نقوم بتحديث هذه الآلات وتطوير تقنياتها· وبنفس الوقت نعمل بنفس الأساليب والطرق التي ابتكرها والدي في صناعة البوظة العربية الدمشقية، والتي ما تزال متبعة منذ العام 1895 حتى اليوم· كما حافظنا على استخدام نفس المواد التي كان يستخدمها والدي في صناعة البوظة، وهي الحليب الدسم الطازج، يضاف إليه عدد من المنكهات الطبيعية مثل ماء الزهر وماء الورد والسحلب والمسكة النباتية والسكر· تطبخ هذه المكونات بشكل جيد حتى يصبح السائل متماسكاً ولزجاً نوعاً ما، بعد عملية الطبخ تبدأ عملية التبريد والتجميد وتضاف خلالها القشدة، ويرش الفستق الحلبي خلال عملية دق البوظة بالمدقات الخشبية الضخمة حتى تأخذ شكلها النهائي· كذلك الأمر بالنسبة للبوظة الملونة، جميع مكوناتها من عصائر الفواكهة الطبيعية، ولا نستخدم الملونات الكيميائية أبداً·
السر في المذاق
ما السر في استمرار هذا النوع من البوظة لأكثر من مئة عام؟
يكمن السر في الصنعة والخبرة، والمذاق المتميز الذي يميز هذه البوظة عن غيرها من أنواع البوظة· نحن نصنع البوظة الطازجة يومياً منذ أكثر من قرن، وما زلنا حتى اليوم لا نقدم لزبائننا إلا البوظة الطازجة التي تصنع وتتشكل على مرأى منهم· نحن لا نستخدم إلا المواد الطبيعية والطازجة، نستخدم الحليب الطازج فقط أما الحليب المجفف أو البائت فلا يدخلان معملنا· وليس هذا فقط، نحن لا نستخدم إلا الحليب المأخوذ من أبقار تعيش في المراعي على الطبيعية· واليوم يشهد العالم بأسره والغربي خصوصاً عودة إلى تناول الغذاء الطبيعي أو الغذاء الذي تدخل في مكوناته مواد طبيعية، لذلك يأتي السياح الغربيين إلى محلنا خصيصاً لتناول هذه البوظة التي لا يدخل في تركيبها إلا المواد الطبيعية·
زيارات مفاجئة
يشتهر صالون بكداش بزيارة عدد كبير من الشخصيات السياسية الرفيعة المستوى، ملوك وأمراء وزعماء وقادة سياسيين، برأيك لماذا لا يفوت هؤلاء القادة فرصة زيارتكم؟
هذا الأمر ليس جديدا، فمنذ افتتاحه أواخر العهد العثماني أصبحت زيارة صالون بكداش عادة درج عليها جميع زوار المدينة· وأصبح الصالون أحد الأماكن المفضلة التي يقصدها الملوك والأمراء والقادة والشخصيات السياسية الرفيعة المستوى، سواء العثمانيين منهم أو الأوروبيين، عند زيارتهم لمدينة دمشق· وكانت كلما قامت إحدى هذه الشخصيات بزيارة المدينة القديمة والتجول بين معالمها التاريخية، الجامع الأموي وسوق الحميدية، يقصدون صالون بكداش لتذوق البوظة الدمشقية· ومع الوقت تحولت زيارة صالون بكداش لتناول البوظة إلى عادة وطقس من طقوس زيارة المدينة، وأصبحت ضمن برنامج زيارة أغلب الشخصيات الرسمية، ويمكن القول أن أغلب الملوك والأمراء والزعماء والقادة السياسيين الذين زاروا مدينة دمشق زاروا محلنا لتذوق البوظة الدمشقية الأصلية· وكل الزعماء الذين زاروا الصالون كانوا يدخلون فجأة، وبدون علم مسبق أو بروتوكولات رسمية، ويرفضون رفضاً قاطعاً أن نفرغ الصالون من الزبائن لاستقبالهم وحدهم فقط·
البوظة تختبر العريس
كيف تحولت البوظة إلى إحدى عادات وتقاليد الخطبة والزواج في دمشق؟
في البداية اقتصر تقديم البوظة على الصالون، ولكن أمراء وأثرياء العهد العثماني أصبحوا يتنافسون ويتباهون بتقديم بوظة بكداش كضيافة من النوع الغالي والنفيس في المناسبات والحفلات والأعراس التي كانوا يقيمونها· من وقتها تحول تقديم البوظة كضيافة في حفلات الأعراس إلى عادة متأصلة لدى عدد كبير من العائلات الثرية· وعندما خفضت الكهرباء تكاليف إنتاج البوظة، أصبح تقديمها في متناول الجميع في حفلاتهم وأعراسهم بدون استثناء، حتى الفقراء الذين لا يستطيعون تحمل تكاليفها، كان بإمكانهم تقديمها، لأن والدي خصص كمية منها تقدم لهم بالمجان، وما زلنا على هذه العادة نقدم البوظة كهدية لمن لا يقدر على ثمنها·
كشك الفقراء وكشك الأمراء
كشك الفقراء هو نفسه كشك الأمراء، ولا يوجد أي فرق بينهما، لا من حيث النوعية والجودة، ولا من حيث المواد المستخدمة في صنعه أو تزيينه· أما قصة كشك الفقراء فتعود إلى بداية إنتاج شركتنا للبوظة، وقتها كانت أسعار البوظة مرتفعة جداً، ولم يكن باستطاعة الفقراء شرائها وتذوقها· ولم يرض هذا الأمر والدي الذي كان يتألم كثيراً لعدم تمكن الفقراء من تذوق البوظة التي كان يصنعها، فابتكر طبقاً مكوناً من نفس المواد المكونة للبوظة، يسكب ساخناً في أواني خاصة، يترك ليبرد ويجمد وحده بدون استخدام الثلج المكلف، وسمي كشك الفقراء لأنه كان يوزع كبديل عن البوظة للفقراء حصراً وبالمجان· وشهد الطبق وقتها إقبالاً منقطع النظير عند هؤلاء الفقراء· وعندما لاحظ بعض الأثرياء المتواجدين في الصالون إقبال الفقراء بشغف على هذا المنتج، طلبوا من والدي تذوق بعض منه، فأعجبهم مذاقه كثيراً لدرجة انهم طلبوا أن يصنع لهم منه طبقاً خاصاً بهم، ولكن بشكل واسم مختلفين عن الطبق الذي يقدم للفقراء، وسمي هذا الطبق كشك الأمراء، وأصبح والدي يبيع كشك الأمراء للأغنياء، ويوزع كشك الفقراء بالمجان على الفقراء·