الخميس 9 يناير 2025 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الموسيقى الهندية إرث روحي وصوفي

الموسيقى الهندية إرث روحي وصوفي
2 مايو 2019 02:55

د. حورية الظل

تضرب الموسيقى الهندية الكلاسيكية بجذورها عميقاً في التاريخ، وهناك من يعتبرها من أقدم أنواع الموسيقى في العالم، ويبدو واضحاً تجذر أثر الفلسفة والديانات الهنديّة القديمة فيها، الأمر الذي طبعها بطابع روحي وصوفي، ويمكن اعتبارها أيضاً ترجمة خالصة لتقاليد عريقة ولطقوس دينية متنوعة، وقد انتقلت من جيل إلى جيل، وتطورت عبر التاريخ، فبعدما كانت دينية بحتة، أصبحت أيضاً دنيوية، أو بعبارة أخرى تم مزج ما هو ديني بما هو دنيوي، ولم تعد مقتصرة على التعبير عن الطقوس الدينية، لكنها حافظت باستمرار على جانبها الروحي وعلى دورها الأساسي المتمثل في صقل الروح وتهذيبها.
تبرز أهمية الموسيقى في الحضارة الهندية من خلال ما جاء في الأساطير. وقد اقترنت بالطقوس الدينية منذ القدم، كما حافظت عليها الديانات الهندية من خلال تضمينها في أربعة كتب تسمى «الفيدا»، وهي أشعار تعبدية تغنى بإيقاع الآلات في المعابد، وهي مخصصة للآلهة. وقد نشأ لاحقاً نوع من الموسيقى الدنيوية تم توجيهه إلى البشر قصد زرع فكرة النقاء والسلام والترفع عن الماديات، وسميت بـ«الفيدا الخامسة»، وتجمع هذه «الفيدا» بين الرقص والموسيقى والغناء والتمثيل. وفي الطقوس الدينية الهندية لا يوجد فرق بين الشعر والغناء، والموسيقى والرقص، فكل هذه عندها فن واحد وفكرتها أن يكون تجسيد النص الديني مسموعاً ومرئياً وعرضاً لجمال الحركة والتوقيع، تكريماً وإجلالاً للآلهة ومخاطباً للناس جميعاً حتى يغرس فيهم التعاليم الروحية القائمة على المحبة والخير والتسامح.
والجانب الروحي للموسيقى الهندية يتمظهر في كون الإنسان الهندي يسعى من خلال ممارسته لطقوسه الدينية المقترنة بممارسات فنية إلى معرفة العالم، والتحرر من الذات للوصول إلى المطلق وإلى نور الحقيقة، كما هو الأمر عند المتصوفة المسلمين. وتغليب الجانب الروحي في الموسيقى الهندية، حدا بموسيقيي الهند إلى الميل إلى ترجيح كفة التّنغيم والإيقاع والأداء الموسيقي الفردي وابتعادهم عن الأداء الجماعي، كالأو ركسترا والكورال كما هو الحال في الغرب، وقد أوجز عازف الكمان الشهير يهودي منوهين ما يتحقق من وراء تلقي الموسيقى الهندية بقوله: «غاية هذه الموسيقى صقل الروح، ترويض الجسد والبحث عن اللاّمتناهي بداخلنا».

السعادة والمعرفة
وبذلك تعد الموسيقى في الهند من مصادر السعادة والمعرفة، فهي تجربة جمالية وروحية خفية يطبعها النفس الصوفي لتجردها وروحيتها وسموها، فهي تعمل على تربية الجسد وصقل الروح، وإدخال الموسيقى في الطقوس الدينية في الهند جاء نتيجة الوعي بكون التوظيف الديني للموسيقى قديم قدم الكون، لذلك استشعرت المذاهب الروحية في الهند، ما للإيقاع الموسيقي من قدرة على التأثير الموسيقي في وجدان الإنسان وروحه وتيسير قابليته لتلقي التعاليم الدينية.
ونظراً لخصوبة الموسيقى الهندية الفنية، فقد امتد تأثيرها إلى حضارات أخرى، وقد أكد ذلك الباحث برهان شاوي بقوله: «تأثرت جميع الحضارات والشعوب بالتنوع النغمي المعقد للموسيقى الهندية بمن فيهم الإغريق والفرس والأتراك والعرب. ويبدو أن الحضارات القديمة كانت تنظر للهند باعتبارها وطن الموسيقى، رغم أن العرب كما يذكر (ابن قـُتيبة) يعتبرون الهند بلاد الحكمة».
وما يمكن قوله عن الموسيقى الهندية، أنها متميزة، وسر تميّزها نابع من اعتمادها على التنغيم والإيقاع، وقد اعترف بذلك يهودي منوهين لما قال: «في مجال التنغيم والإيقاع بلغت الموسيقى الهندية درجة من النضج والاكتمال لم تتمكّن الموسيقى الغربية من استشعاره إلاّ في القرن العشرين مع بارتوك وسترافنسكسي».
وعليه، فقد أضاف الهنود القدماء صبغة من القدسية على الموسيقى، واعتبروها: «ذات أثر سحري على الطبيعة، فهي تسقط المطر، وتتغلب على كسوف الشمس وعلى غضب الرياح، بل وأحياناً تؤثر في النجوم والكواكب والأرواح، حتى ليقال في أسطورة هندية إن راقصة بنغالية وضعت حداً للقحط لما غنّت إحدى (الراجات) والتي تسمى «منع مالار» ومعناها نغمة استنزال المطر. فما هي (الراجات)؟

نظام (الراجا)
الموسيقى الهندية عبارة عن «راجات»، والراجا نظام في التأليف الموسيقي، وهي كلمة سنسكريتية تحيل على «العواطف أو الجاذبية أو الألوان»، فهي تخضع لتصنيف يعتمد على مشاعر الإنسان خلال الأوقات المختلفة، سواء خلال اليوم الواحد، أو خلال فصول السنة كالصباح مثلاً، أو الربيع، أو الليل.. وبذلك فإن ما يميّز الراجا أنها تعبر عن عاطفة واحدة، وقد ترتبط بفصل من الفصول أو بلحظة من لحظات اليوم، أو بزمن محدد من السنة، وقد منحها الأسلاف قدسية خاصة، فتتم مراعاة حرمتها لما تعزف، فهي حسب معتقدهم، صورة من صور الغناء التي أداها الإله «شيفا». وحسب زيد الشريف، فإن الموسيقي الهندي: «يختار إحدى الراجات في عمله الموسيقي، ولا ينتقل من راجا إلى أخرى في القطعة الموسيقية الواحدة، فهو يعبر عن «الشتاء» أو «المساء» أو «النشوة» براجا واحدة، وكل واحدة من الراجات المعروفة تحمل اسماً، ولكن عدد الراجات وأسماءها يختلف بين المدرسة الهندوسية والكارناتيكية، وكان العدد الأصلي للراجات في البداية ستاً، ولكن مدرسة الشمال الهندوسية تبنت نظاماً يتضمن عشر راجات، تحمل كل واحدة منها اسماً»، وحسب الموسيقي العالمي رافي شانكار، فإن:«أعداد الراجات تكاد تكون لا نهائية، وأن الإنسان يحتاج عمراً كاملاً لكي يلم بكل الراجات، ولن يكفيه».
ومن سمات الموسيقى الهندية أيضاً الارتجال، لكنه ارتجال خاضع لقواعد صارمة، فالعازف الهندي حسبما جاء في كتاب «قصة الحضارة» لمؤلفه وول ديورانت (1885-1981):«لا يلتزم «الراجا» التي اختارها لبرنامجه الموسيقي التزاماً يضيّق من حريته تضييقاً خطيراً، أكثر مما يلتزم المنشئ الموسيقي في الغرب، إذا ما أنشأ «سوناتا» أو «سيمفونية»، موضوعَه الموسيقيَّ التزاماً يعرقله؛ ففي كلتا الحالتين، ما يفقده العازف من حرية، يعوضه بما يتاح له من تماسك البناء واتزان الصورة؛ فالموسيقي الهندي شبيه بالفيلسوف الهندي، كلاهما يبدأ بالجزئي المحدود «ويرسل روحه إلى اللامحدود»؛ إنه يظل يمعن في وَشْي موضوعه وشياً دقيق الأجزاء، حتى يتمكن في نهاية الأمر بفعل تيار متموج من دورات التوقيع وتكرار النغمة، بل بفعل اطراد الأنغام اطراداً رتيباً مملاً، أن يخلق نوعاً من «اليوجا» الموسيقية».
ومن حسنات الموسيقى الهندية، أنها لا تنفصل عن السياق الاجتماعي والجمالي والروحي للهند، كما أنها تتماشى مع الطبيعة والفصول، وما جاء في كتاب «موسيقى الهند» لريجنالد ماسي وجميلة ماسي يؤكد ذلك، حيث ترتبط الموسيقى الهندية بالطبيعة الصرف في جانبين مهمين الأول جانب الصوت، فهي ناشئة عن محاكاة الصوت، وأعلى تمثيل له هو الصوت البشري، فالحنجرة الآدمية أول آلة موسيقية عرفها الإنسان، وينبغي لكل الآلات الموسيقية أن تحاكيَها وتأخذ عنها أو تضاهيها، وقد ضمنت هذه القاعدة للموسيقى الهندية صفاء طبيعياً وقدرة لا متناهية على التطور نظراً لأن الصوت البشري يتعدد بتعدد الأفراد، فلا تشابه فيه ولا حدود له، الجانب الثاني من جوانب الارتباط بالطبيعة أن فلسفة الموسيقى لدى الهند قائمة على تجسيد إيقاعي لحالات نفسية يرمز لكل منها بلون من ألوان الطبيعة، فحالة الحب يرمز لها بالأخضر الفاتح، والمرح يرمز له بالأبيض، والشفقة يرمز لها بالرمادي، والغضب بالأحمر، والبطولة بالبرتقالي الفاتح، والرعب بالأسود، فكلما ارتقى الفنان في التجسيد الإيقاعي للحالة النفسية دخل إلى صفاء اللون، واقترب بذلك من النقاء والسمو الروحي، وكأن الطبيعة البكر في نقائها الصرف قبل أن تدنّسها يد الإنسان هي التمثيل الأول للحقيقة، ويعكس هذا التوظيف الفلسفي للطبيعة أثر الثراء الطبيعي والتنوع البيئي لأرض الهند في البنيات الثقافية والروحية لشعوبها، وبذلك ونتيجة الزخم الروحي الذي تتميز به، فهي تتفاعل مع مشاعر المتلقي بشكل غريب.

رافي شانكار.. حامل رسالة السيتار إلى العالم
يعد رافي شانكار من موسيقيي الهند الكبار وأحد أسياد السيتار، وينتمي لأسرة هندوسية عريقة، وقد لد في مدينة بيناريس، على ضفاف نهر الغانج في الهند، في 7 أبريل 1920 وتوفي سنة 2012. وافتتن بآلة السيتار وأبدع في العزف عليها.
ويعود له الفضل في جعل الموسيقى الهندية عالمية في ستينيات القرن الماضي، حيث تعاون مع جورج هاريسون من فرقة البيتلز الذي أدخل موسيقى السيتار ضمن أغانيه، فاستمال الجمهور الغربي وأذهله وجعله يتذوق هذه الموسيقى المنبعثة من أعماق الشرق بكل سحرها وروحانيتها، فتحقق بذلك التواصل الروحي والحضاري عبر الموسيقى، خاصة أن هذه الأخيرة أسهل طريق يمكن سلوكه لخلق تمازج وتواصل بين الثقافات المختلفة والمتباينة، لأنها تخاطب الروح، وكل ما يخاطب الروح يسهل توصيله للآخر، ويعد جورج هاريسون، عضو فريق البيتلز من تلامذة شنكار، حيث قام بالمزج بين الموسيقى الغربية والهندية، وقد اعتبر شانكار الأب الروحي للموسيقى العالمية، وتعاون معه في بعض المشروعات الموسيقية، واعترف بفضله في جعل أثر الموسيقى الهندية يتجاوز الحدود الهندية ويؤثر في الموسيقى العالمية، ويؤكد ذلك الكاتب العراقي شاكر نوري: «إن رافي شانكار نجح في إكساب الموسيقى الهندية مكانة عالمية رفيعة، فأصبح العالم يتعامل معها من منطلق قيمتها الروحية، ورمزيتها وغناها، خصوصا وأنها ترتبط، هي وآلاتها، من الناحية التاريخية والميثولوجية، بمعتقدات دينية وطقوسية. إذ كان الهنود القدماء يعتبرون الموسيقى هدية وعطاء من الآلهة، كما ورد في أساطيرهم».
وهناك من انتقد انفتاح رافي شانكار على الغرب فأجاب منتقديه، بقوله: «في الهند يقال إنني مدمر الموسيقى التقليدية. وأصحاب القول هذا يخلطون بين هويتي المزدوجة الوجه، المؤلف الموسيقي والمؤدي. فبصفتي مؤلفاً، اختبرت كل أنواع الموسيقى ولم أستثن أياً منها عند التلحين. ولكن حين كنت أعزف على المسرح، التزم شيئاً فشيئاً، الأصول الكلاسيكية والأرثوذكسية للموسيقى الهندية، التزاماً أميناً. وحميت التراث الذي اكتسبته».
وبذلك يمكن اعتبار رافي شانكار من أبرز من أجاد وأبدع في العزف على آلة السيتار وتحكم فيها، وعدته الهند، ممثلاً وسفيراً للموسيقى الهندية الكلاسيكية، وهو من رفع من شأن هذه الآلة عبر العالم.
وبعد رحيل رافي شانكر واصلت ابنته أنوشكا شانكر رحلة العزف على آلة السيتار، فهي تعد من العازفات الشهيرات على هذه الآلة، مؤكدة على استمرارية هذا الإرث الإنساني والروحي ليس في الهند فقط وإنما عبر العالم.

آلة السيتار
من الآلات الموسيقية الشهيرة في الهند، آلة السيتار، هي آلة موسيقية هندية تشبه العود، لكن ما يميزها عنه، رقبتها الطويلة وصغر حجمها، وجذور هذه الآلة الساحرة تضرب في الماضي البعيد، حيث تعود تاريخياً إلى أصل فارسي، وتعني لفظة «سه تار» بالفارسية الأوتار الثلاثة. وتستخدم آلة السِّيتار في الموسيقى الهندوسية ومجمل الموسيقى الكلاسيكية الهندية،. والنسخة الحديثة من آلة السيتار أصبحت بعتبات ونقوش، ولها سبعة أوتار لحنية.
وكان الموسيقي أمير خوسرو، هو من أرسى أساس تطوير آلة السيتار في القرن الـ13 خلال فترة حكم سلطنة دلهي. وازدهرت آلة السيتار خلال القرنين الـ16 والـ17، ووصلت لصورتها الحالية داخل الهند في القرن الـ18. وتستقي لحنها المتميز من أوتارها الفريدة وتصميمها البديع.
أما الأمر الرائع حقًا في موسيقى آلة السيتار، فهي أنها لا تعتمد في عزفها على مقطوعة محددة، وإنما يشرع المرء في العزف فحسب، ويختلف الناتج كل حسب تعليمه وما يعتمل بداخله. حيث يبدأ الموسيقي الرئيس في جميع الحفلات بمقدمة فردية طويلة تسحر السامعين وتسبح بهم في عوالم روحية بهيجة.
وقد اشتهرت الموسيقى الكلاسيكية الهندية في الغرب وتحولت إلى العالمية بفضل ثلاثة من عمالقة العزف على آلة السيتار، وهؤلاء، هم، بانديت رافي شانكار وأوستاد فيلايات خان وعبد الحليم جعفر خان، ويعرفون باسم «ثلاثية السيتار» وقد استطاعوا جذب أنظار الغرب إلى روعة الموسيقى الكلاسيكية الهندية، وكتأكيد على أهمية هذه الآلة وعلى مساهمتها في وصول الموسيقى الهندية إلى العالمية سنتطرق لأحد عازفيها الكبار وهو رافي شنكار.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2025©