18 أغسطس 2009 03:23
في شهر أغسطس من عام 1993، غادر «نادر نيسي»، وهو أحد الفلاحين الذين يقطنون هنا في قرية مجاورة لبلدة سيزار المغبرة القريبة من شاطئ نهر الفرات إلى قرية مجاورة أخرى، ولكنه لم يعد منها مطلقاً. وكان الأثر الوحيد الذي عثرت عليه أسرة الفلاح المختفي هو فرسه الذي عاد وحيداً إلى القرية في اليوم التالي. والآن يعلّق ابنه «رمضان نيسي» على حادثة اختفاء والده بقوله: «منذ ذلك اليوم لم نذق طعماً للسعادة ولا لراحة البال. ومن يومها وإلى الآن ما انفكت العائلة تتساءل عما حدث له، وما الذي تسبب في اختفائه بتلك الطريقة؟ وأملي أن نعثر على رفاته ذات يوم. ويهمنا جداً أن نعرف أن أبانا قد دفن في مقبرة معروفة حتى نستطيع زيارته والترحم عليه».
وبالنسبة لعائلة الفلاح «نيسي» وغيره من المختفين الأكراد الذين يقدر عددهم بنحو 6500 الذين إما اختفوا أو قتلوا إبان حرب الأعوام الخمسة عشر التي استمرت بين قوات الأمن التركية والعصابات الكردية الانفصالية المتمردة -مع العلم أن تلك الحرب دارت بشكل رئيسي هنا في هذا الجزء الجنوبي الشرقي من تركيا- فقد بدا تحقق رغبة أسر الضحايا القتلى أو المختفين في زيارة مقابر ذويهم أكثر احتمالاً الآن. وقد وقع ذلك على نحو مفاجئ نتيجة تحقيقات جرت مؤخراً حول تحركات استهدفت الإطاحة بالحكومة التركية الحالية، أسفرت عن اعتقال جنرالات كبار في الجيش ما كان ممكناً المساس بهم من قبل، وفتحت الطريق في الوقت ذاته أمام الأكراد كي يعبروا عن التظلمات والفظائع التي عانوها في ماضيهم القريب جداً. ففي شهر يونيو المنصرم، حلت أول دعوى قضائية رفعت باسم أحد الفلاحين الأكراد المختفين في إطار حملة للبحث عن المختفين عموماً إثر بدء تحقيقات «إيرجينكون»، التي اتخذت اسمها من الجماعة اليمينية المتطرفة ذات الصلة بالمؤسسة العسكرية التي تستهدفها. وكانت رفات ذلك الفلاح المدعو «حسن إرجول» الذي اختفى قرب بلدة سيزار نفسها منذ عام 1995 -بعد أن اقتاده شرطي يرتدي الملابس المدنية- قد عثر عليها، حيث تمكنت عائلته من دفنه في قريته الأصلية. ثم تقدمت عائلات أخرى من أقارب المختفين بدعوى قضائية ضد جنرال عسكري عقب فتح ملف «تحقيقات إيرجينكون»، اتهمته فيها بأنه كان وراء اختفاء ذويهم. و«قد مكنت تحقيقات إيرجينكون الفلاحين من رفع أصواتهم والتقدم بشكاواهم وتظلماتهم والمطالبة بحقوقهم، خاصة إذا كانوا من أقارب المختفين. فهم يشعرون الآن بقدر أكبر من الأمان في التعبير عن مشاعرهم وأحزانهم»، ذلك هو رأي المحامي «طاهر إلكي» بمدينة ديار بكر الواقعة جنوب شرقي تركيا. وقد استطرد المحامي قائلاً: إن المجتمع الكردي يعلم جيداً مَن هم الجنرالات الذين سُجنوا مؤخراً. ونعلم أنهم كانوا وراء اختفاء أبنائنا. وهذه هي الحقيقة التي سيدركها بقية أفراد المجتمع التركي. يذكر أن بلدة سيزار التي تبعد نحو 20 ميلاً فحسب عن حدود تركيا والعراق، كانت مسرحاً لأعنف المعارك التي دارت بين عصابات مقاتلي «حزب العمال الكردستاني» الانفصالي وقوات الأمن التركية، مع العلم أن تلك الحرب أزهقت أرواح حوالي 40 ألفاً خلال السنوات الممتدة بين 1984-1999. وتشير تقديرات منظمات حقوق الإنسان إلى اغتيال ما يزيد على 5 آلاف من الضحايا، بينما يصل عدد المختفين إلى حوالي 1500، مع ترجيح احتمال دور لعناصر أمن في اختفاء هؤلاء. وخلال الأشهر الأخيرة الماضية، تم نبش قبور يشتبه في أنها قبور جماعية ضمت رفات أشخاص يرجح اختفاؤهم من قرى ومناطق مختلفة في جنوب شرقي تركيا. وقد أسفرت عمليات النبش هذه عن الحصول على رفات تخضع الآن لاختبارات الحمض النووي بهدف تحديد هويات أصحابها. وكما سبق القول، فقد حدثت كل هذه التطورات نتيجة لفتح ملف «تحقيقات إيرجينكون»، التي تجرى بشكل رئيسي في كل من إسطنبول وأنقرة، وأدت لاعتقال حوالي 200 من المشتبه بهم، بمن فيهم جنرالات كبار في الجيش وعدد من الساسة والصحفيين والأكاديميين البارزين. وقد أشارت الإفادات السرية والبينات التي تم جمعها حتى الآن إلى ما دعا هيئة الادعاء إلى الاعتقاد بأن المتورطين في التآمر على حكومة «حزب العدالة والتنمية» الإسلامي الحالية قد خططوا لإسقاط حكومة أردوجان عن طريق إشاعة حالة من الفوضى والذعر والترهيب واغتيال شخصيات بارزة. وبذلك يرغم المتآمرون الجيش على تولي زمام الأمور في البلاد والإطاحة بالحكومة المدنية الحالية. وعن الدعاوى القضائية المرفوعة عن حالات عدد من المختفين، قال المحامي «إلكي»: لقد حاولنا فتح هذا الملف من قبل، إلا أن الخوف كان لايزال يسيطر على أسر الضحايا. ومن شدة الخوف مما يمكن أن يحدث للعائلات، وجدنا أنفسنا مضطرين في حالات كثيرة للضغط على أفراد تلك الأسر كي يخبرونا عن الشخص المفقود في عائلتهم. ولم يكن الخوف وحده هو الذي يمنعهم، بل كذلك الشعور باليأس من احتمال وصولهم إلى أي نتيجة لشكاواهم. ولكل هذه الأسباب، فإن «تحقيقات إيرجينكون» هذه تعد فرصة ذهبية لتركيا كلها. فبفضلها سيتعيّن على الدولة إعادة النظر إلى ذاتها وممارسات ماضيها، وإلى الممارسات التي ارتكبها البعض باسمها بحق مواطنيها.
يجال شليفر - تركيا
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»