إبراهيم الملا (أبوظبي)
عندما يكون الخيار محصوراً بين البديهي والاستثنائي، فلا يمكن للشعر الوضّاء والمتوهج سوى اختراق المألوف والذهاب إلى الاستثناء حتى منتهاه، وهكذا أيضاً يمكن أن نصف الشعر الغنيّ والثريّ والمتفردة لشاعرة الإمارات الكبيرة: عوشة بنت خليفة السويدي (1920 - 2018)، والتي احتفى بها معرض أبوظبي الدولي للكتاب في دورته الحاليّة (التاسعة والعشرين)، واختارها الشخصية المحورية للمعرض، كي تلقي بظلالها الوارفة على أجنحة وردهات ومنصات الكتب، التي طالما ارتبطت بها عوشة، وصارت هي والمفردة الشعرية توأمين في مسيرة حياة كاملة، بدأت بحلم غرائبي، وتواصلت بمغامرة وجودية، وأسفار روحية، ورحلات تأملية في المكان والزمان وتحولات الإنسان.
وهكذا أيضاً كانت الندوة التكريمية للشاعرة، والتي نظمها معرض أبوظبي الدولي للكتاب مساء أمس الأول بصالة المسرح الرئيس، هي الندوة التي يمكن وصفها بمختبر حواسّ وذاكرات واستعادات وانتباهات للمسيرة الإبداعية الطويلة التي قطعتها عوشة بنت خليفة في أرض الشعر، والتي مازال وقْعها ورجْعها وصداها يغمر الأسماع والأذهان والقلوب.
شارك في الندوة الدكتورة رفيعة غباش مؤسس متحف المرأة بدبي، وكاتبة السيرة الذاتية الرسمية للشاعرة عوشة، والكاتب والشاعر والسينمائي ناصر الظاهري، وأدارت الندوة إيزابيل أبو الهول المديرة التنفيذية عضو مجلس أمناء مؤسسة الإمارات للآداب ومديرة مهرجان «طيران الإمارات للآداب»، والتي استهلت الندوة بمقولة للمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، وهي: «إذا لم نمتلك التاريخ، لن نمتلك الغد، وإذا لم يكن لنا ماض، لن يكون لنا مستقبل»، ثم أثنت على الجهود الكبيرة التي بذلتها الدكتورة رفيعة غباش في توثيق المسيرة الشعرية والحياتية للشاعرة عوشة السويدي، واحتفاظها في متحف المرأة بكنوز من إبداعاتها ونتاجاتها الشعرية بخط يدها، والكتب التي احتشدت بها مكتبتها، كما أثنت أبو الهول على الاهتمام الأدبي والإنساني الذي أولاه الكاتب ناصر الظاهري تجاه الشاعرة عوشة السويدي، وكيف أن هذا الاهتمام الفردي يمكن أن يتحول إلى شغف مشترك، وإلى ارتباط وجداني بتاريخ المكان وإرثه وتفاصيله القديمة، الحاضرة والحية في ذاكرتنا الجمعية.
حلم غريب
بدأت الدكتورة رفيعة غباش مداخلتها بالإشارة إلى أن اختيار عوشة السويدي شخصية محورية لمعرض أبوظبي للكتاب، هو اختيار أتى في محله لأنه يشتمل على تقدير خاص لقامة إبداعية ساهمت بقوة في إثراء المشهد الثقافي الإماراتي، وتمكنت من خلال نتاجاتها المميزة في إعلاء قيمة الشعر وتوقير الشعراء، خصوصاً ما يتعلق بالقصيدة النبطية، وبمختلف أغراضها وأنواعها وحقولها التعبيرية.
وتساءلت الدكتورة رفيعة غباش: «من غير عوشة بنت خليفة، في الإمارات وفي منطقة الخليج، قال الشعر كما قالته؟، ووصف البيئات المختلفة على هذه المساحة من الأرض، كما وصفتها؟ بدءاً بمواسم النخيل، ومروراً بأنواع المغاصات، وليس انتهاء بلغتها الدالة على سعة المعرفة، وعمق الاطلاع، ودقة الانتباه لتفاصيل المكان وهويته».
وأضافت غباش أن القصة التي سمعتها شخصياً من عوشة عندما اتصلت بها في العام 2006 لتستفسر عن دوافع ومسببات ارتباطها بالشعر، والتي أرجعتها عوشة إلى حلم غريب تمثل في اقتراب القمر من وجهها ثم ابتلاعها للقمر بكامله، حتى فاض وتسرّب ضوؤه من أنفها وفمها، كانت هي القصة التي عملت الدكتورة رفيعة غباش على تحويلها إلى فيلم قصير شارك في أدائه التمثيلي مجموعة من أحفاد عوشة الذين أحبوا قصائدها وارتبطوا بها بقوة، وذلك بعد أن دشنت الطبعة الأولى من «ديوان عوشة بنت حليفة السويدي، فتاة العرب»، ثم قامت بعرض لقطات من الفيلم الذي صوّر الحالة العجائبية لطفلة تجد نفسها فجأة في خضمّ تجربة ذهنية وعاطفية مذهلة، جعلتها محط اهتمام عائلتها، فكان الأثر الإيجابي لهذا الحلم سبباً لتشجيعها في اقتحام بحور الشعر، رغم أنها بحور محتدمة ومخيفة بالنسبة لفتاة في عمرها.
وبعد انتهاء اللقطات المكثفة من الفيلم، أشارت الدكتورة رفيعة غباش إلى أنها عندما تتذكر التحديات والصعوبات الكبيرة التي واجهتها لتلمس واكتشاف التجربة الشعرية لفتاة العرب عن قرب، فإنها تستشعر اليوم قيمة هذه الجهود والتضحيات التي بذلتها لعرض السيرة الحياتية والشعرية لعوشة السويدي أمام آلاف القراء الشغوفين بقصائدها، والمهتمين بمعرفة سر امتلاك قصائدها لجاذبية خاصة، وبلاغة مؤثرة، وصور مبتكرة، حتى باتت مدرسة شعرية مستقلة، ومتوافرة على كمّ هائل من الجمال والجموح وقوة السبك وعمق المعنى.
قصة جميلة
بدوره قال الكاتب ناصر الظاهري: «تبدو قصتي جميلة مع عوشة بنت خليفة، فقد كنت مندفعاً تجاه اللغة الفصحى والآداب العالمية، ومتناسياً الأدب المحلي والشعر النبطي، بل كنت أتفادى الاقتراب من النتاجات الشعبية، حتى سمعت قصيدة لعوشة بنت خليفة تقول فيها:
قال من يشكو إلى الله الأمر
يا مفرّج همّ من قلبه صبور
الرجا منك اليسر بعد العسر
أنته يا علّام ما تخفي الصدور
طاش فكري طيش لطّام البحر
والهوى شرعي تعلّى به عبور»
مشيراً إلى توقفه الطويل وتأمله العميق في هذه القصيدة، وأضاف: «أحسست أن عوشة كانت تناديني وتقول لي: «ليش إنته مغرّب والعين في الشرق؟» ولماذا أنت ذاهب نحو البعيد وتحت قدميك يجري ماء الأفلاج؟».
وقال الظاهري: «وقتها كنت في آخر سنواتي بالمرحلة الثانوية، وعلى أبواب الجامعة، فأخذتني عوشة من يدي ودلتني على مكامن جميلة في العبارة المحلية الصافية كعذوبة الماء».
وأشار الظاهري إلى أنه قرر وهو في أولى سنوات الدراسة الجامعية عمل دراسة تعريفية مصغّرة حول جماليات اللغة في قصائد عوشة السويدي، لتقديمها للصحافة وللساحة الأدبية، فرغم وجود اسم عوشة في الساحة الشعرية الشفهية -كما أوضح الظاهري- فإن ذكرها كان غائباً تقريباً عن المدونات النقدية، وداخل خضم الصحافة اليومية، ونوه إلى أنه ظلّ يتتبع كل ما كتب ويكتب عنها، وكان يبتاع أشرطة الكاسيت المتضمنة قصائدها والتي كانت تلقيها بصوتها، حيث وجد مخزوناً كبيراً من هذه الأشرطة الصوتية لدى الشيخ حمدان بن مبارك.
واستطرد الظاهري: ظلت عوشة بالنسبة لي مثل (البنديره) العالية التي دائماً ما أراها في سمائي، وعندما كتبت مرة مقالة عنها في جريدة «الاتحاد» قبل 12 عاماً تقريباً، وقرأتها عوشة، فقررت الذهاب من دبي إلى مدينة العين، وهي تحمل ثقل عمرها، كما كانت تحمل معها كرمها وطيب أصلها، كي تزورنا في منطقة «المعترض»، ولكننا كنا قد انتقلنا وقتها لمنطقة «فلج هزّاع».
مضيفاً: «عندما أخبرني جيراني في منطقتنا القديمة بما حدث وأنها لم تجدنا، هاتفتها وأبديت رغبتي القوية للقدوم إليها في دبي وذلك لعلو قدرها عندي وعلوّ شأنها، وكرم أخلاقها، فهي «الراية» الخفّاقة، والبنديره العالية والغالية أبداً بالنسبة لي».
جهود بوشهاب
ثم تناولت الدكتورة رفيعة غباش دفة الحديث، ووجهت تحية تقدير للشاعر الراحل حمد خليفة بوشهاب، أوّل من وثق قصائد عوشة بنت خليفة، وجمعها في ديوان مستقل في العام 1990، وطالبت بتكريم بوشهاب في إحدى الدورات القادمة من معرض أبوظبي للكتاب، لأنه يمثل قامة شعرية عالية أيضاً، وله إسهامات لافتة في تطوير ونشر القصيدة النبطية، وزيادة الاهتمام بها وبروادها.
وأردفت غباش قائلة: «بدأ اهتمامي بالشعر الشعبي بعد جمعي لقصائد جدي، حيث كنت قبلها بعيدة عن جو القصائد النبطية، ولا أتعاطى معها، وعندما انتهيت من ذلك الديوان، قلت لنفسي: لماذا لا أستمر في هذا البحث الأدبي الذي له علاقة قوية بالموروث والعادات وتفاصيل الحياة القديمة، وكانت عوشة هي المحطة التالية، ومن هنا بدأت قصتي معها، والتي ما زالت تفاصيلها تكبر وتلحّ عليّ باستحداث مشاريع جديدة حول حياتها وشعرها، ومنها مشروع ترجمة قصائدها إلى اللغة الإنجليزية، وتحقيق مادة كتاب عنها يمكن قراءتها بطريقة «برايل» المخصصة لفاقدي البصر، إضافة إلى إصدار كتاب مسموع يتضمن كل ما نشرته في الطبعة الثالثة من ديوان فتاة العرب، وعمل أوركسترا جماعية لعدد من قصائدها، وغيرها من المشاريع التي لا يتوقف ذهني عن التفكير فيها».
وأكدت غباش أن اعتزال عوشة شعرياً في العام 1994 سبّب نوعاً من الصدمة وأشاع الكثير من الاستغراب وسط متابعي شعرها، والمعجبين بقصائدها، وفي مقدمتهم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، والذي حاول مراراً وتكرراً ثنيها عن قرار الاعتزال، وأضافت غباش أن آخر قصيدة كتبتها عوشة كانت بعنوان «غفران»، وأنها استفسرت منها عن سبب انقطاعها عن كتابة الشعر، فردت عوشة: «لقد قلنا الشعر ونحن صغار، وعليّ الآن أن أهدأ»، وأرجعت غباش سبب هذا التبرير إلى بحث عوشة الدائم عن الطمأنينة بعد فترة قلق طويلة عاشتها ذهنياً وجسدياً، كما أنها لم تعد تحتمل موجة التغيير الثقافي من حولها لكثرة ظهور الشعراء وبحثهم عن الجوائز المالية.
واختتمت غباش مداخلتها بالقول: «عندما أرى كتب عوشة ومخطوطاتها في متحف المرأة، أتخيل عوشة وهي خارجة من العين ومتجهة إلى دبي، وأكاد أراها وهي تكتب قصائدها على رمال الصحراء، لقد تحولت عوشة بالنسبة لي إلى أيقونة للمرأة الإماراتية القوية المعتزة بإرثها وهويتها، والتي امتلكت الشجاعة الكافية للتعبير عن قضاياها ومشاعرها الإنسانية».
أما ناصر الظاهري، فدعا في ختام حديثه إلى ضرورة البحث والتنقيب في التراث الشعري الغزير للشاعرة عوشة السويدي، وقال إن هناك قصائد ما زالت مجهولة وأخرى غير منشورة، إضافة إلى وجود حكايات وقصص كثيرة عنها وحولها لا يعرفها سوى المقربين منها، وفي مقدمتهم معالي أحمد خليفة السويدي ممثل صاحب السمو رئيس الدولة، لأن لديه أشياء كثيرة ومختلفة فيما يتعلق بالنتاج الشعري غير المعروف لعوشة السويدي.