لكبيرة التونسي (أبوظبي)
بكثير من الإبهار فتح «المغرب في أبوظبي» أبوابه للجمهور وسافر به إلى أحضان عوالم المملكة التي يصعب اختصار جمال عمرانها وطبيعتها وتقاليدها وطقوسها ومطبخها وأزيائها في هذا الحيز، وعبر لمحة عن إبداع وابتكار تراث غني، لامس الزائر من خلاله نوعاً من فن العيش عند المغاربة يعلوه رقي وأناقة وجمال فائق خلقته الصناعة التقليدية التي أبهرت الحضور بإنتاجها المتميز والغزير، والتي تعتبر مصدر حضارة وثقافة وتعكس تراثاً ضخماً وقيمة إنسانية وثقافية بارزة مرتبطة بتاريخ وعادات الشعب المغربي القائمة أساساً على تمازج متبادل بين الثقافة العربية والأمازيغية ومختلف الحضارات التي شهدها المغرب.
فعالية «المغرب في أبوظبي» في دورتها الرابعة التي تختتم اليوم، وتقام بمركز أبوظبي الوطني للمعارض، تركت أثراً طيباً في نفوس الجمهور الذي اطلع على موروث المملكة من صناعة تقليدية وتقاليد وعادات ومأكولات وموسيقى وفنون وحفاوة تعكس طابع الكرم عند أهل المغرب، وأبرزت الفعالية تعزيز ودعم العلاقات التاريخية والأخوية التي تجمع دولة الإمارات العربية المتحدة بالمملكة المغربية في جميع المجالات.
فن «التبوريدة»
التاريخ ينثر عبقه ونفحاته في أرجاء فعالية المغربي بأبوظبي، فكل صناعة تحكي قصصاً وتنطق بحكايات ارتبطت بتاريخ الأجداد منذ آلاف السنين، لمحة عن فن العيش المغربي وارتباطه بالعادات المتأصلة، منها فن «التبوريدة» أو الفروسية التقليدية، التي يقول عنها هشام سقاط، المنحدر من عائلة فاسية، إن صناعة سروج الخيول التقليدية توارثناها عبر الأجيال بالأسرة منذ عام 1896، مقدماً لمحة بصرية من خلال ركنه التفاعلي، الذي يعرض مجموعة من السروج ذات الألوان المبهجة، ولا يتردد في سبر أغوار التاريخ والنفاذ إلى أعماقه عبر سرد قصص ارتبطت بالخيل وزينتها، مؤكداً أن السروج لازالت تُشغل يدوياً، ويقول إن هذه الصناعة دقيقة وصعبة، فالسرج الواحد يتكون من 34 قطعة، ويتعاون في صناعته مجموعة حرفيين ينتهي عملهم لتبدأ عملية التطريز التي تقوم بها النساء غالباً، حيث إن السرج الواحد تعمل على تطريزه أكثر من 14 سيدة.
ينافسن الرجال
ويوضح أن صناعة سرج واحد، من هذا النوع الرفيع، تستغرق سنتين ونصف السنة، ويصل ثمنها إلى 5 آلاف دولار، مشيراً إلى أن التقليد درج على أن ترتدي الفرقة الواحدة من الخيل «السربة» نفس الزي، وتتباهى القبائل في تجهيز أرقى وأجمل السروج لخيلها خلال المهرجانات والمناسبات والأعراس، بحيث يتحول من تقليد إلى فن فلكلوري فرجوي يضيع فيه المتفرج بين الواقع والخيال، موضحاً أن هذا الفن تمارسه النساء أيضاً بعد أن كان حكراً على الرجال. وأضاف: منذ القرن الخامس عشر للميلاد ظل فن الفروسية المغربية التقليدية المسمى بـ«التبوريدة» (نسبة إلى البارود الذي يطلق من البنادق) يتألق، أما «الفانتازيا» فهي فن مغربي أصيل ويعني «عروض الفروسية»، وهذا الموروث الثقافي الحضاري عايشه المغاربة قروناً عدة، وكان حكراً على الرجال، إلا أنه وإلى زمن غير بعيد، كسرت النساء هذه القاعدة، وامتطين صهوة الخيول ليبرهن على أن المرأة قادرة على اقتحام شتّى المجالات، حتى تلك التي تستدعي جرأة ومغامرة، فأضفين جمالية فائقة على فن لا يخلو من الروعة، حيث امتزجت رهبة الفرس مع أنثوية المرأة لتتشكل لوحة يقلُّ نظيرها في ربوع العالم، تأسر الناظر، وتزيد الاحتفالية متعة والمشهد ألقاً، واعتبر الفانتازيا أو عروض الفروسية، نوعاً من استعادة تاريخ الفرسان المغاربة كمحاربين شجعان لرد العدوان، بسلاحهم «المكحلة» أي (البندقية).
مذاق من ذهب
لوحات فنية تعكس التنوع الكبير للرصيد الحضاري والثقافي والتراثي للمملكة، بمختلف أنواع المواد الخام التي نجح الصانع المغربي في تحويلها إلى تحف فنية، إلى ذلك قالت فاطمة الزغموتي، التي اقتحمت مجال الصناعة التقليدية قبل أن تتم 11 عاماً، واستطاعت أن تدخل موسوعة الأرقام القياسية «جينس» بعملها المتمثل في تصميم وخياطة أكبر قفطان على الصعيد المغربي، شغفها بالتطريز والأشغال، وهي اليوم تشارك برحاها في مختلف أنحاء العالم، لتتحدث عن المنتوج الأكثر طلباً في العالم، وهو زيت «الأركان»، فعندما يعبر الزائر عبر البوابة الضخمة ويتجه يساراً في ركن بالقرب من جناح عرض الشاي، ماراً بسوق المدينة القديمة الزاخر بالألوان والروائح، يرى الزغموتي تجلس خلف الرحى بزيها الأمازيغي الأنيق كلوحة فنية، تطحن حبات الأركان الصغيرة المحمصة لاستخراج زيت الأركان الطبيعي الذي لا يوجد له مثيل حيث تنمو شجرته المعمرة بمنطقة سوس جنوب المغرب، إلى جانب عرض مجموعة من المنتجات الأخرى ذات العلاقة بالزيت مثل «أملو» وهي أكلة صباحية تتكون من زيت أركان والعسل واللوز.
وتحدثت الزغموتي المسؤولة عن جمعية المرأة الصانعة التقليدية، وهي جمعية غير ربحية مقرها أغادير، عن زيت الأركان المسمى بـ«الذهب السائل»، الذي يستخرج من لوز شجر الأركان، وهو شجر نادر يوجد بسهل سوس المغربي، ويعمر لمدة 200 سنة وما فوق، وعن إعداد «أملو»، حيث قالت: نحن نعمل على طحن لوز الأركان المحمص ونخلطه بالعسل الحر وزيت أركان لنحصل على مادة متجانسة صحية غنية بالفيتامينات تسمى «أملو» وهذا المنتج مشهور جداً بدول شمال أفريقيا وأوروبا وأميركا. وأوضحت الزغموتي أن العديد من الزوار يتوقفون ويبدون رغبة كبيرة في التعرف على أصل المنتج ويتذوقون «الأملو» كما يتعرفون على الفرق بين زيت أركان للتجميل وزيت أركان للأكل، حيث إن زيت أركان الذي يستعمل في التجميل مستخلص من بذرة غير محمصة، بينما الزيت الذي يتم تناوله مع الخبز يتم استخراجه من بذرة محمصة في أداة فخارية على نار حطب هادئة، مؤكدة الإقبال الكبير على زيت الأركان بنوعيه.
فنون الخط العربي
نجح في بث الفرح في زاويته التي تشع بنور الحرف العربي وجماله، كتب آلاف الأسماء وجمّلها بكلمات إيجابية، نشر في المكان روح الدعابة والحب، فأقبل عليه الناس، ليكتب أسماءهم بخط جميل، وفاجأهم بكتابة الاسم يسبقه «سيدي فلان أو مولاتي فلانة أو الأميرة أو الأمير فلان»، مما أسعد الزوار، حيث أكد فنان الخط العربي عبدالغني فيلالي بابا، أن هدفه من المشاركة في «المغرب في أبوظبي» وباقي المعارض في مختلف أنحاء العالم، يتمثل في نشر جمالية الحرف العربي عالمياً، عبر كتابة أسماء وآيات قرآنية يهديها للزوار، بطريقة فنية راقية، تعكس عمق الخط العربي الأصيل.
وأضاف: «كتبت حتى الآن 15 مليون اسم بمختلف أنحاء العالم، مقدماً الفن الراقي والإتقان العالي للخط العربي، وذلك في مقابل «ابتسامة» تسعده من الزوار، وأشار بابا، الذي ينحدر من مدينة فاس العريقة والشهيرة بفنونها التقليدية الضاربة في عمق التاريخ، أنه مولع بهواية فن الخط مثابراً على ممارستها بحب ومن دون محاولة جني أدنى ربح مادي من ورائها، مؤكداً أنه لا يتردد في تلبية دعوات المكتب الوطني المغربي للسياحة ودار الصانع من أجل مرافقتهما في مختلف أنشطتهما داخل وخارج المغرب، مشيراً إلى أن هناك أنواعاً متعددة من الحروف منها خط الثلث، والديواني والفارسي والرقعة والكوفي والخط المغربي.
الصناعات المغربية.. جمال يأسر الحواس
تتألق فعالية «المغرب في أبوظبي»، التي تعتبر جسر محبة وتواصل وتبادل حضاري وثقافي بين دولة الإمارات والمملكة المغربية، بإرث الماضي وحداثة الحاضر، حيث يشكل ركن التصميم والمبدعين الشباب بوابة ولحظة في الزمان والمكان تعرض درراً لفنانين مغاربة يتجاوزون قواعد الصناعة التقليدية المغربية، ويوفر فرصة لإبراز ثراء تلك الصناعة وغناها الحضاري المتنوع والفريد.
وقد استقطب رواق التصميم والمبدعين الشباب اهتمام الزوار، بمهارات الصناعات التقليدية التي تتمحور حولها مشاركة الفنانين في هذا الركن، وتمثل الإرث الحضاري الذي يؤرخ للحقب التي مرت بها المملكة المغربية، ونتاجاً لآلاف السنين من التفاعل الحي بين المجتمعات المحلية بما تحمله من رؤى وقيم حضارية.
وفي هذا السياق، تحدثت إلينا مونية مفتاح وهي المصممة المشرفة على أحد أركان رواق التصميم والمبدعين الشباب، عن مجموعات من المنحوتات الفنية التي جمعت فيها بين القديم والعصري لخلق إبداع جمالي يأسر الحواس، وقالت: أطلقت اسم «دار مفتاح» على مجموعتي الفنية، وتابعت: هنا تتألق في إحدى زوايا الركن قطع من مجموعة سميت حسب التقنية المعمولة بها «فراكتيكال بيكسل» ومنها لوحة جدارية تجسد أشكال الكثبان الرملية، وهي مصنوعة من حجر مشابه للرخام والمرمر ولكنه أغلى ثمناً، ويطعم بكتابات نحاسية.
وأضافت: مزجنا صوراً من الطبيعة بتقنيات العصر الحديث «بيكسالايزايشن»، وهي طريقة حديثة لمعالجة الصور، مع إيقاعات متناسقة ونماذج متقنة، وفي الزاوية الأخرى تقبع مجموعة من القطع الفنية من النحاس المخرم تدعى «توهج»، وأشارت مونية إلى أن الطابع الهندسي المحض هو الارتكاز الرئيس في الابتكار المعاصر لهذه المجموعة، حيث تأخذ أنماطاً من نيازك مضاءة على شكل مكعبات تحدث إشعاعات ضوئية عند سقوطها، لتعكس سحراً براقاً على السقف والجدران.
وفي ركن الأثاث للمصمم جميل بناني، تجد براعة الصانع المبتكر أضيفت إلى أشكال ضخمة من الحجارة والمستوحاة من الطبيعة، مع لمسات جديدة في الطلاء والخشب والصقل بالنحاس على أسطحها مع مراعاة شكلها القديم، ومرايا من خشب في زوايا أخرى تحمل لوحات فنية من خشب يسمى «العرعار» منقوشة بكتابات الخط العربي ومصقولة بالنحاس من كافة الزوايا، وأخرى دخلت في صناعتها أطلية الذهب والفايبر جلاس والنحاس.
وللأزياء أيضاً حضورها الفتان في المكان عينه، فبين التراثي القديم والعصري الحديث، ظهرت الملابس النسائية خاصة بحلة جذابة تحاكي قمم الأناقة، حيث انفردت بتميزها بأنماط الحداثة من أحزمة وحقائب اليد، والأحذية، بالإضافة إلى ضيق الأكمام وأنماط وأشكال التطريزات الحديثة التي تواكب ذوق العصر.
ومن خلال عوالم ونهج وتأثيرات كل فنان ونظرته للعالم، يتحول جناح التصميم والمبدعين الشباب، إلى رحلة خارج الزمن لاكتشاف مغرب ينبض بالإبداع والأصالة.