غالية خوجة (دبي)
يعتبر التشكيلي الراحل إبراهيم العوام من علامات الفن المعاصر في السودان، ليس بسبب دراسته الفنية الأكاديمية، والمناصب التي شغلها، بل لأنه، أيضاً، مبدع في تعامله مع روحانيات الألون والخط والأشكال والملامح، وهذا ما تحكيه لنا أعماله الباقية أثراً فنياً مع ما كتبه أيضاً، ومن إصداراته نذكر مجموعة شعرية بعنوان (الدرب)، وكتاب (نسق الفكر في الجمال)، وعبْر الدرب، وظف فكره في الجمال، منتجاً أعمالاً نازحة إلى تشابكات اللون ضمن نسق المعنى المتحاور مع المتلقي.
ضمن هذا المجال النشط، نرى كيف يبدو الرمز اللوني ـ من نقطة، خط، انحناءة، ظل، ضوء، حرف، شكل هندسي، باب، شجرة، وجه، نقطة ـ مفصحاً عن محاولته الدخول إلى الأعماق الإنسانية، ثم السباحة معها في الفراغ الكوني، لعله يصل إلى لون الطاقة الروحانية المشعة من شبكة العلائق المتشكلة فسيفساء هندسية لونية وتحولات حروفية، تمزج مفردات الطبيعة من أشجار وأرض ورياح وتراب وشمس، بألوان الدلالة الطالعة مع حركة الريشة، لتعكس المساحات اللونية مساراتها الحمراء على تدرجات الأصفر والأزرق والترابي، وكأنه يعيد تشكيل تضاريس السودان وهو يحلق على جناح الحلم، ويرسم وطنه وجهاً مؤنثاً عامراً بالطبيعة والتحديق والتأمل والحب.
ويكتسب الحرف وجوده في لوحات العوام من خلال الحركة والالتفاف على اللون الأقرب للبوح، ولذلك يصبح الحرف جهات وأمكنة وأزمنة وشخوصاً تنطوي وتتحرك، تتكلم وتصمت، ثم تجلس متأملة الأحداث، كما تصبح اللغة شجرة أبجدية، تتوهج بألوان النور وقوس قزح، جاعلة حرف (لا) المسافة الثابتة بين الجذور والأرض، الحاملة للذات، المتصلة مع السماء، وكأن (لا) تطوي في إحدى دلالاتها الإنسان، المحلق إلى الخالق، الموحد للخالق، الواقف بين ذاته والعالم، باحثاً عن الكون من خلال (لا) إحدى آيات سورة النور «شجرة لا شرقية ولا غربية»، وتوضح هذه اللوحة كيف تتفاعل الطاقة الروحية مع الصفاء والنور من أجل الوصول إلى موسيقى الطمأنينة وهي تتوهج دائماً وإلى الأبد.
وتتحول فسيفساء الهندسة اللونية إلى أشكال ترسم رموزها لتكشف عن محور يتصاعد إلى الأعلى مع لون الصفاء، ليتكاشف مع إيقاعات السماء، ويعود إيحاءات هاطلة بموسيقية، تود لو يستنطقها المطر: الأقطاب رباعية، والنقطة مركزها، والنور محورها، والغوص بين أعماق الذات وأعماق الرحلة هو المبتغى.
ولذلك يبدو المربع والمثلث والمستطيل والدائرة عنصراً فنياً نافراً، متوالداً، شفافاً عاكساً للأخضر والأزرق والأحمر والكحلي والبني والترابي والبنفسجي والزهري، ثم لتمتزج هذه الألوان من دون أن تمتزج، أي تمتزج طاقتها من خلال إشعاعاتها، لتخرج من ظلالها إلى هطولها المتجدد مع الطمأنينة الداخلية العابرة إلى منطوق اللوحات، المعبّرة عن فلكلور السعادة.