1 مايو 2010 20:48
يتتبع دانيال آر. هيدربك عبر كتابه “تاريخ التكنولوجيا” المسار التاريخي للتكنولوجيا من العصر الحجري وبدايات الزراعة، مروراً بالثورة الصناعية وصولاً إلى الثورة الإلكترونية في الماضي القريب. وفي تتبعه للقوة المتزايدة التي اكتسبها البشر في السيطرة على الطبيعة عبر الابتكارات القوية. ويقارن هيدربك مسارات التطور التكنولوجي في مختلف مناطق المعمورة، ويقدم سجلاً أوسع بكثير مما درج غيره من مؤرخي التقنية على رصده، وهو ما يكشف عن التغيرات الصغيرة التي قد تؤدي إلى تغيرات دراماتيكية ضخمة على كافة سبل الحياة.
يعود دانيال آر. هيدربك في كتابه “تاريخ التكنولوجيا” إلى نحو 2.5 مليون سنة حيث عُثر في “وادي أومو” في أثيوبيا على أقدم الأدوات المصنوعة على الأرض، وتمثلت في حصى نهرية، لكنها كسرت للحصول على نوع من آلات قطع بدائية بحواف حادة ما يجعلها مفيدة في تشذيب الخشب ونخر العظام للوصول إلى نخاعها، إضافة إلى تقطيع لحوم الحيوانات وجلودها. وشيئاً فشيئاً ومع تقدم مسيرة الحياة على الأرض، تم صنع أدوات أكثر تقدماً، فظهرت الأداة الحجرية المسماة بالفأس اليدوية أو المزدوجة الوجه، وذلك قبل ما يقرب 1.8 مليون سنة، وقد شُحذت هذه الفأس بعناية على الوجهين كي تعطي قطعاً أكثر دقة وقوة، وامتلك بعضها نقاطاً مسننة، وتميز بعضها الآخر بحافة مستقيمة. فعرف باسم الساطور ووصل وزن الفأس إلى حوالي 2.5 كيلوجرام، وكذلك الأمر بالنسبة للساطور، واستعملت تلك الأدوات لأغراض متعددة، إذ ذبحت بها الحيوانات وقطعت وسلخت، كما شُذبت بها الأخشاب أيضاً. وبقيت هذه الفأس دون تغيير نحو مليون سنة، وفي ذات الوقت قام ما يعرف بـ”الإنسان المنتصب” بترويض النار ومتفرداً في ذلك على غيره من الأنواع الحية، بفضل هذا الترويض وإبعاد الوحوش المفترسة عنه.
الإنسان العاقل
يتنقل الكتاب في رحلة عبر التاريخ ليصل إلى قبل ما يتراوح بين 150 ألفاً و 100 ألف سنة في أفريقيا، حيث تطور صنف وربما أكثر من الإنسان المنتصب، وأطلق على هذه المخلوقات “الإنسان العاقل” وأصبح أكثر تشابهاً معنا.
وفي عصر هذا الإنسان العاقل تطورت الآلات الحجرية وأصبحت أكثر تعقيداً بدلاً من نوع واحد من الفأس اليدوية، صارت هناك أنواع من المعدات، والأدوات الحجرية المتعددة الأغراض، وأمثلة على ذلك رُبطت أسنة حجرية إلى عصي الخشب لتصير رماحاً، وشحذت أطراف الحجارة لتصبح شفرات، ونحتت المكاشط كي تصنع من جلود الحيوانات أثواباً، واستطاعت ميكروسكوبات العلماء لاحقاً أن تبين أن الإنسان العاقل اصطنع أدوات مغايرة لاستخدامها في تكسير الأخشاب ونشر العظم، وتقطيع اللحم، وشحذ القرون وغيرها.
وقبل نحو 70 ألف سنة تسارعت الابتكارات علي نحو انفجاري وطاولت يدها أدوات ومناحٍي لم تكن معروفة من قبل، وهي الفن والدين وحتى عبور المحيطات. وظهر شيء جديد إنسانياً هو الثقافة التي شرعت بالتغير بسرعة لا تقارن بالبطء الذي يتسم به تطور الأنواع بيولوجياً. وفي هذه الحقبة صنع الإنسان أشياء هائلة العدد، اشتق أغلبها من مواد عضوية، ومن أمثلة تلك المصنوعات التي قام بها البشر أدوات متنوعة للقطع والجرف والنخر، واستعملوا الإزميل والمخرز لحفر خطوط دقيقة على القرون والعظام، كما صنعوا مسننات دقيقة من حجارة حادة، ثم ثبتوها في العظام وقبضات الخشب ليكونوا منشاراً .
أسنة كلوفيس
يعرج الكاتب على الأميركيين الأوائل قبل 15 ألف سنة والذين انتشروا في أرجاء الأميركيتين، وبرعوا في الصيد وصنعوا من الحجارة الصلدة أسنة رماح، يشير إليها العلماء راهناً باسم “أسنة كلوفيس” نسبة إلى بلدة “كلوفيس” في نيومكسيكو حيث عثر على تلك الأسنة أولاً، ووجد الأميركيون الأول أن الأراضي التي وصلوها مليئة بالوحوش الضخمة التي نسميها “الحيوانات العظمى” مثل الماموث والمستودون “حيوان بائد يشبه الفيل”، والجمال والموظ “يشبه الإيل”، لكنه أضخم حجماً وقرونه أكثر قساوة وتشعباً، والثور الأميركي وقردة “الكسلات” التي تخلوا أفواهها من الأسنان وغيرها من أنواع الحيوانات التي أخذ ينقرض معظمها مع بداية ظهور البشر في تلك المناطق.
ومن الأميركيتين إلى فلسطين وتحديداً في منطقة جبل الكرمل، وهي أحد أماكن الاستقرار النادرة في تاريخ البشر قبل نحو عشرة آلاف عام، حيث أتقن السكان هناك الصيد بالقوس والسهام واصطياد الأسماك بالحربون (الحربون عبارة عن رمح بأسنة قابلة للانفصال، تشد بأوتاره الى عوّامات من جلود الفقمة)، كما دأبوا على حصد الحبوب البرية بمناجل عظم ثبتت فيها أسنان صغيرة صلبة، فضلاً عن أنهم استعملوا المطحنة الحجرية لسحق الحبوب.
صناعة الفخار
يشير هيدربك إلى أنه تمت أول عملية صناعة للفخار في التاريخ في جنوب اليابان، وكان ذلك قبل 12 ألف سنة، وجاءت أوانيهم الفخارية الأولى على هيئة وعاء طبخ مجوف وضخم الحجم، لا يسهل حمله ونقله، ولاحقاً زينوا أوانيهم الفخارية بوضع حبال في صلصالها، قبل أن يجففوها على النار، ما أكسب تلك الفخاريات وصناعها اسم الـ”جومون” وهي لفظة يابانية تعني لفة الحبل.
ثم يشير الكاتب إلى أنه مع نهاية العصر الجليدي قبل 12 أو 14 ألف سنة شرع الناس في منطقة الشرق الأوسط بتنمية الطعام وخصوصاً في منطقة الهلال الخصيب، الممتدة من شمال المتوسط من فلسطين وسوريا، ويصل جنوبها الشرقي إلى جبال إيران المحاذية للسهول بين نهري دجلة والفرات، حيث تمتعت تلك المنطقة بطقس دافئ، وتوسعت فيها السهول وخصوصاً التي تعطي قمحاً وشعيراً، واستهلوا ما يعرف بالبستنة. ومع ظهور القرى الزراعية الأولى، ولأكل الحبوب، توجب طحنها بالرحى الحجرية، أو سحقها في أجران الخشب بالمدقات. وعمد البعض إلى الطبخ عبر إسقاط حجارة حامية في أوعية الفخار المملوءة بالماء، وظهرت المنسوجات في تلك القرى وحلت محل جلود الحيوانات.
حضارات الماء
يتحدث هيدريك عما يعرف بـ “حضارة الطاقة المائية” في الفترة ما بين (4000 - 1500 ق. م)، فيقول:”لم تنبثق الحضارات الأولى في الأرض الخصبة المروية بالأمطار في المناطق المعتدلة. وعوضاً عن ذلك انطلقت من مناطق جافة أو صحراوية، حيث الماء يأتي من نهر أو بحيرة أو مستنقع، وحقق المزارعون نتائج باهرة ونجحوا في السيطرة على المياه، وشكل العراق مهداً للحضارة الأولى، وانتشرت التقنيات التي استعملها السومريون تدريجياً لتصل خارج وادي الرافدين، وبعد عام 2000 ق. م شرع المزارعون في ري حقولهم بواسطة الشادوف أو “كاسح الآبار”.
ويتألف الشادوف من عصا معلق في طرفها دلو بحبل، مع تثبيت وزن في الطرف الآخر. ويغترف الدلو الماء من البئر، ويرفع بسهولة بفضل الوزن المقابل له في العصا، فبدل استعمال المجرفة وعصا الحفر اللتين ظهرتا في العصر الحجري، استخدام المزارعون محراثاً يجره الثور ونثروا الحبوب بآلة ترمي البذور على فترات منتظمة، وترتب على هذه العمليات الابتكارية الانتقال من البستنة إلى الزراعة الحقة.
بالمقارنة مع بلاد الرافدين، ومع الألفية الرابعة قبل الميلاد، توزعت مصر على ممالك صغيرة، لكل منها “مجلس ماء” يخطط بناء الخنادق ويوجه تربية الحقول، وفي وقت مبكر من الألفية الثالثة قبل الميلاد، وبعد أن وحد الفرعون مينا الوجهين القبلي والبحري لوادي النيل، ثبت المهندسون ما نسميه راهناً “مقياس النيل”، وهو أداة لقياس ارتفاع منسوب المياه في النهر، كما طوروا أدوات المسح والتقصي. وعرفوا علم الهندسة الذي ساعدهم على تثبيت حجارة لترسيم الحدود بين الحقول وأحواض الري. واستعملوا الشادوف وأدوات أخرى مثل البكرات والطواحين لرفع الماء من الأقنية. ونجم عن تلك الأمور وفرة في المحاصيل التي ساندت ظهور ثقافة متقدمة وتشييد نصوب مذهلة أكسبت مصر القديمة صيتاً ذائعاً، وكذلك انبثق منها حضارة كانت أكثر الحضارات أمناً وديمومة، إذ استمرت لأكثر من 3 آلاف سنة مع فترات نادرة من الانقطاع.
حقبة الحديد والجياد
يتناول المؤلف الفترة من 1500 ق. م إلى 2500، والتي يسميها حقبة الحديد والجياد والامبراطوريات، حيث تم اكتشاف الحديد وآثاره المذهلة على كثير من الصناعات، وكذا تدجين الجياد وما مثله امتلاك هذين العنصرين (الحديد والجياد) من خطورة في موازين القوى في ذلك العصر، كون من امتلكهما قادراً على قهر الحضارات القديمة وفرض سطوته وتكوين إمبراطوريات الناس الذين تحكمهم حكومات مركزية.
وينطبق هذا الوصف على إمبراطوريات آشور وفارس، وروما والصين، والهند، كي تحافظ هذه الامبراطوريات على تماسكها ولتشجيع قاطنيها على قبول حكام بعيدين، وغالباً غرباء استعملت تقنيات مبتكرة، إضافة الى قوة الجيوش والنظام الإداري المتطور، وخصصت الحكومات الإمبراطوريات موارد كثيرة لمشاريع العمل العام الكبرى.
وفي فصل بعنوان “عصر التبادلات الدولية” (1300 - 1800) يستعرض هيدريك بعضاً من أهم الابتكارات التي غيرت العالم - منها بناء السفن الكبيرة القادرة على الإبحار في المحيطات، وكذا اكتشاف البارود وصناعة القنابل، الذي جعل من هذه الفترة تسمى بعصر العنف، حيث باتت فيه الأسلحة النارية تمتلك الكلمة العليا في عمليات الصراع الحضاري بين الأمم والممالك المختلفة.
أما عن الثورة الصناعية الأولى (1750 - 1869) والتي شهدت حدوث تغيير جذري للإنسان وبيئة الأرض، فقد أرجع الكاتب هذه التغيرات غير المتوقعة في مسيرة البشر إلى 4 مزايا اتسمت بها الثورة الصناعية الأولى وهي:-
1 - تقسيم العمل إلى سلسلة من الأعمال البسيطة التي تنجز في المصانع والمعامل وورش البناء.
2 - استعمال الآلات بديلاً للجهد البدني.
3 - الإنتاج الواسع للسلع.
4 - استعمال الوقود الأحفوري “مثل النفط والفحم الحجري” مصدراً للطاقة الميكانيكية.
المحركات البخارية
شهد عصر الثورة الصناعية الأولى ظهور صناعات عديدة وأهمها صناعة النسيج بآلاته المختلفة. أما أقوى آلات الثورة الصناعية أثراً على معاصري تلك الحقبة، تمثل في استخدام المحركات البخارية في المواصلات، وهو ما أدى إلى ازدهار السكك الحديدية التي أخذت في الانتشار في العديد من دول العالم. ويلفت هيدريك إلى أنه مع أواخر القرن التاسع عشر تسارعت وتيرة التغيرات التقنية، وكان ذلك في الأساس لسببين رئيسيين هما:-
1 - التوصل إلى أشكال للطاقة أكثر رخصاً وتوافراً وفاعلية مما عرفته الإنسانية من قبل.
2 - التزايد المذهل في التفاعل بين المهندسين والتقنيين رجال الأعمال، ما قاد إلى اختراعات تقنية، وكذلك لظهور طرق مكنت للمرة الأولى من خلق الابتكارات بحسب الطلب.
وشكل انتصار التقنيات التي أدخلت خلال المائة سنة السابقة أبرز التحولات في القرن التاسع عشر، وشهد عام 1869 حدثين يرمزان إلى هذا الانتصار، وتمثل الأول في افتتاح قناة السويس التي ارتبطت بين البحرين الأحمر والمتوسط، وتالياً بين أوروبا وشرق آسيا وجنوبها. وجاء الحدث الثاني مع افتتاح أول خط للسكك الحديد يربط بين الساحلين الشرقي والغربي في الولايات المتحدة الأميركية. وفي نهاية الكتاب يعرض هيدريك إلى عالم ما بعد الصناعة وهي الفترة من (1939 - 2007)، لافتاً إلى جذور انطلاق الكمبيوتر التي ترجع إلى الحرب العالمية الثانية، فحتى ذلك الحين أجريت العمليات الحسابية المعقدة يدوياً وباستعمال الآلات الحاسبة المكتبية، وحفز تعقيد الأسلحة الحديثة وحال الاستعجال التي تفرضها الحرب، المهندسين وعلماء الرياضيات في بلدان عدة، على إيجاد طرق لتسريع الحسابات، وهو ما أدى لظهور الأجيال الأولى من أنظمة الكمبيوتر المعقدة والتي استمرت لعقود إلى أن بدأ شكل الكمبيوتر الحالي في الظهور إلى الوجود وما صاحب ذلك من طفرة تقنية أثرت على كافة مناحي الحياة.
دولاب الماء
عرف العالم الإسلامي دولاب الماء، لكن بصورة متفرقة، نظراً لقلة الأنهار الجارية في المناطق الجافة في شمال أفريقيا وغرب آسيا، وقرابة العام 1000، ظهرت طاحونة تعمل بقوة المد البحري في مدينة البصرة على الخليج العربي، “استعمل المؤلف تعبير “الخليج الفارسي” للإشارة إلى الخليج العربي، وذلك أمر يتكرر كثيراً في الكتابات الغربية - المترجم”، واحتوت بغداد على دواليب ماء تعمل على مجرى نهر دجلة، وفي القرون الثلاثة الأولى للميلاد، بنى الرومان طواحين شغّلتها دواليب الماء، لكنها لم تكن غير مألوفة حينها، وبعد القرن الثامن تكاثرت الطواحين التي تحرّكها دواليب الماء في غرب أوروبا، حيث يصنع المطر الشديد التهاطل الكثير من مجاري الماء، وفي البداية اقتصر عملها على طحن الحبوب وبعد العام 1000، صارت دواليب الماء مصدر طاقة لآلات نشر الخشب، وحياكة الملابس وطرق الحديد، وتكسير خامات المعادن وغيرها، وأحصى كتاب القيامة 5624 طاحونة في 3000 تجمع سكني، بمعدل طاحونة لكل 50 منزلاً، ووضع الكتاب بأمر من الملك ويليام الفاتح في العام 1086 ليكون ثبتاً إحصائياً شاملاً، وأصبحت الآلات المعقدة التي تديرها قوى غير بيولوجية جزءاً من الحياة اليومية لمعظم الأوروبيين.
الكلفة البيئية
منذ الثورة الصناعية، يصمم كل تقدم تكنولوجي كي يكون مفيداً للبشر، أو لقسم منه على الأقل، ورغم ذلك، فمنذ مصانع القطن ومحرك البخار، بدا واضحاً أن معظم التقدم في التكنولوجيا، يترك آثاراً مدمرة على البيئة، وصارت الكلفة البيئية شديدة مع انتشار التصنيع، وخصوصاً مع إحراق كميات ضخمة من الوقود الأحفوري، ووصلت مسألة تلوث الهواء إلى مستوى الأزمة في لندن في مطلع ديسمبر من العام 1952 إذ دفعت موجة صقيع بسكانها إلى إحراق كميات كبيرة من الفحم الحجري في المنازل، في وقت وصلت إلى لندن طبقة من الضغط المرتفع في الغلاف الجوي، التي تترافق مع سكون الريح، ما أدى إلى احتباس الدخان في سماء تلك المدينة، وتراكم الضباب المثقل بالدخان، وتوقفت المواصلات لأن السائقين عجزوا عن رؤية الطرق، وأقفلت دور السينما لأن روادها لم يعودوا قادرين على رؤية الشاشة.
المصدر: أبوظبي