9 مارس 2012
(القاهرة) - عندما توفيت الأم - رحمها الله - لم يكن الطفل الصغير يدرك معنى الموت وأنه فراق إلى الأبد، كان يعتقد أنها ستغيب يوماً أو يومين في مهمة ما ثم تعود أو كما يقال أحياناً للأطفال عندما يموت أحد الأبوين بأنه مسافر وسيعود أو أنه انتقل إلى السماء أو ذهب إلى مكان أفضل مما نحن فيه.
حينها كان عمره لم يتجاوز الرابعة جاؤوه بأنواع شتى من الطعام والعصائر والمشروبات ودللوه بشكل مبالغ فيه وغير مسبوق في حياته خاصة عمته الوحيدة التي احتضنته ولم تتركه لحظة يشعر بفراق أمه أو افتقادها ولم تكن تلك الرعاية له وحده، بل كانت أيضاً لأخته التي تكبره بعامين فمن حسن حظه أن عمته هذه كانت متزوجة من أحد أبناء عمومتها وتقيم في البيت المجاور لهم مما أتاح لها الوقت لتتولى رعايتهم.
لم يعرف وقتها معنى الأحزان ولا الحداد على فقد الأحبة، وما بالك إذا كانت الأم التي كانت فيضاً من الحب والحنان والتفاني في خدمة الأسرة الصغيرة وتؤثرهم جميعاً على نفسها وتحتويهم تحت جناحها وكثيراً ما لم تكن تتناول طعاماً إلا إذا شبعوا ودائماً لا تنام إلا إذا استغرقوا في النوم، وهذا كله وغيره لم يكن يخطر في بال الصغير حينها لأنه لا يستطيع أن يميّز الأمور أو يحكم عليها وأعتقد أنها طبيعية.
عدة أسابيع مضت على رحيلها وبدأ الهمس عن حديث لا يفهمه وكلما كان قريباً منهم يتوقفون عن الكلام الذي كان في الغالب يدور بين العمة والأب ولا يستطيع أن يقول وقتها إنهما صمتا ليخفيا عنه شيئاً مهماً وهو القضية التي يتناقشان فيها وقد يكون فهم أنهما يتحدثان عن زواج أبيه من سيدة أخرى.
إنهم جميعاً بحاجة ماسة لامرأة تتولى شؤونهم، خاصة وأن الأب لم يبلغ الثلاثين من عمره بعد إلا أنه يرفض هذا الأمر الآن ويصر على ألا يأتي بامرأة غريبة يخشى أن تلحق بأبنائه سوء العذاب وبعد أن تحاول أخته إقناعه بأن ذلك لمصلحة الجميع له وللولد وللبنت فإنه يعود ليرفض حداداً على رفيقته الراحلة التي كانت نعم الزوجة الهادئة المطيعة التي لم تغضب منه ولم تغضبه يوماً على مدى عشرتهما التي استمرت أكثر من سبع سنوات وعليه أن ينتظر على الأقل لمدة عام وفاءً لها.
الأب كان مهموماً وشارد الفكر ولا يخفى على وجهه ما يشغله ورغم الوقت الطويل الذي تمنحهم إياه أخته، فإن الثلاثة يشعرون بفراغ كبير وأنهم افتقدوا ركناً مهماً من أركان البيت ويفتقدون الأم عند الطعام، وعند المنام، وعند الحركة، وعند السكون، وفي كل حال أياً كان يظهر جلياً أنهم في وضع غير عادي لا يحسدون عليه ويعانون أشياء كثيرة، لكن لا يشكون منها ويلوذون بالصمت.
حلَّت الكآبة على الدار التي تبدو مظلمة حتى في النهار ولا أحد يريد أن يبقى بها، يهربون إلى أي حال، لكن ليس إلى وضع أحسن، ولم يكن الإصباح بأفضل من الليل لأن الأحزان تلازمهم ولم يكن أمام الأب بديل عن الزواج مثل الهبوط الاضطراري الذي لا خيار فيه واقتنع أن ذلك ليس جرياً وراء نزوة أو متعة وإنما لمصلحة الصغيرين قبل كل شيء ولو كان وحده الذي يتحمَّل المعاناة ما أقدم على تلك الخطوة بحال ولاستطاع أن يعاند نفسه مهما كانت المسؤولية ثقيلة.
المشكلة الأكبر، هي الاختيار فلابد أن تكون “زوجة الأب” بمواصفات خاصة أي تكون مستعدة لتحمل مسؤولية الطفلين وأن تعاملهما معاملة خاصة جداً، فلا يخفى على أحد القصص الواقعية التي لا حصر لها عن زوجات الآباء وقسوتهن على أبناء الأزواج التي تصل أحياناً إلى تعذيبهم وهو لا يقبل أبداً أن يتكرر ذلك أو يحدث مع ابنه وابنته.
ولابد لزوجته أن تتقبل أنها زوجة لرجل أرمل ولا تشكو من أي شيء، ولم تكن تلك المواصفات معلنة إلا أنها كانت في الحسبان عند البحث عن هذه الزوجة التي قد تكون نادرة جداً ومن الصعب التوصل إلى مثلها.
فهذه المواصفات وان كانت نادرة الوجود فهي صعبة القبول من أي امرأة مهما كانت لأن كل زوجة تريد أن تكون سيدة بيتها ولا تقبل أن تربي أبناء غيرها ومن ناحية أخرى لا يجوز ولا يعقل أن يتم طرح المواصفات كشروط إذ من الطبيعي أن تكون مرفوضة بلا تفاوض وهذا ما يزيد من حساسية الموقف وتعقيده.
توسم الأب وأخته خيراً في إحدى الفتيات وكانت الأقرب إلى الشخصية المطلوبة، وهي تعرف كل الظروف بكامل تفاصيلها وليست بحاجة إلى شرح، لكن يبقى السؤال الحائر الذي يبحث عن إجابة: هل يجدون فيها ما يبحثون عنه أم أنها قد لا تعمر وتعود إلى بيت أبيها مطلقة؟ ولا أحد يملك الجواب الآن إلا أنه لابد من الانتظار وصولاً إلى الواقع العملي والدخول فيه وبلا مظاهر للعرس تم الزواج إلا من الرسميات والشرعيات مثل عقد القران والإشهار ورغم أن العروس لم تكمل الخامسة والعشرين وأنها لا ذنب لها فيما حدث ومن حقها أن تفرح وتحتفل بعرسها وترتدي الفستان الأبيض وتقتني كل ما يلزم العروس فإنها وأسرتها لم يقفوا أمام ذلك واعتبروه من الشكليات، فلابد من الالتزام بالقيم ومراعاة الأصول إذ لا يجوز الاحتفال بأي شكل وهُناك امرأة متوفاة منذ أشهر قليلة في هذا البيت والأهم وجود الطفلين اليتيمين وضرورة مراعاة مشاعرهما.
الزيجة كانت مفاجأة للجميع للزوج وأخته وللصغيرين، فقد قامت الزوجة بكل واجباتها نحو زوجها وحملت عنه كل مهام البيت ولم تشغله باحتياجات الطفلين أياً كانت وعاملت الطفل والطفلة مثل أمهما أو أكثر ويلقيان منها كل الاهتمام والرعاية حتى التحقا بالمدرسة، وكانت تعد لهما الملابس وتنظم الكتب إلا أنها لم تكن تساعدهما في استذكار الدروس لا تقصيراً وإنما لأنها لا تجيد القراءة ولا الكتابة، لكن كانت تهيىء لهما كل سبل الراحة وتسهر بجانبهما وتعد لهما الطعام وفي الصباح تستيقظ قبلهما لتعد الإفطار وتمشط شعر الفتاة وتتأكد من أن كل شيء على ما يرام وإلى هنا انتهى دور العمَّة تماماً بعد أن اطمأنت على الأسرة.
الزوج لم يصدق نفسه وهو يرى زوجته تتفانى بلا مقابل في خدمته وخدمة ابنه وابنته ولا يملك إلا أن يوجه لها الشكر وكلمات الامتنان التي كانت عازفة عنها ولا تنتظرها وتؤكد أنها لا تفعل إلا الواجب، لكنه يصر على أن يكرر لها الثناء والاعتراف بالجميل فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله وان كانت ظنونه أحياناً تثير في نفسه المخاوف خشية أن ترزق بطفل وتهمل ابنيه أو تتغير معاملتها لهما، لكنه لم يبد ذلك وتركه للأيام التي أثبتت عدم صدق تلك الظنون، فقد حدث بالفعل أنها بعد ثلاثة أعوام رزقت بطفلة، لكنها لم تفرق في المعاملة بينها وبين أخيها وأختها إن لم تكن تميزهما عنها حتى بعد أن كبروا وشبوا جميعاً عن الطوق، وكانت “زوجة الأب” مضرب المثل في الإخلاص والتفاني ونالت احترام الجميع وتقديرهم وإكبارهم لما تفعل إذ لم يستطع أحد أن يعرف أي من الثلاثة ابنها وأيهم ابن زوجها.
لم تكن الدنيا لتستقر على حال، فقد مات الأب وترك زوجته وأبناءه الثلاثة غير أن الزوجة تحملت المسؤولية على أكمل ما يكون رغم أنها في ريعان الشباب إلا أنها أغلقت عليهم بابها واحتضنت الصغار وضحت بنفسها من أجلهم وكافحت وذاقت الأمرين من أجل أن يتعلموا ويحصلوا على الشهادات العلمية، فحصلت الكبرى على مؤهل متوسط وتزوجت من أحد أقاربها لكن “الأم”، ولا نقول “زوجة الأب” استطاعت أن تعد لها جهازاً لائقاً وإن كان فوق طاقتها والابن حصل على مؤهل عالٍ والتحق بوظيفة مرموقة، أما الابنة الصغرى، فقد انتهت من دراستها الجامعية وفي انتظار فرصة عمل مناسبة.
تلك ليست “حدوتة” قبل النوم للصغار أو قصة للتسلية وإنما حقيقة أنا محدثكم الطفل الذي عايش هذه الأحداث بحلوها ومرها، وأذكر ذلك انصافاً لزوجات الأب، فكلهن مظلومات بوقائع قد تكون مفتراة أحياناً وان كنت أعترف أن بعضهن أكثر قسوة من الحجارة غير أنه في نفس الوقت هناك أمهات كذلك يبحثن عن سعادتهن ويضحين بأبنائهن وأعود لأؤكد بلا مبالغة أن من بين زوجات الأب من هن أفضل من بعض الأمهات حتى المخلصات منهن.
أما السبب الثاني الذي جعلني أطرق هذا الموضوع فإن زوجة أبي، بل “أمي” رحلت عن دنيانا فشعرت باليتم الحقيقي رغم أنني فقدت أمي التي أنجبتني ومن بعدها أبي إلا أنني أقول صادقاً إن رحيل أمي الثانية هو الأكثر تأثيراً على حياتي وفي نفسي وأحسست بمرارة فقدان الأم واكتشفت أن اليتم عند الكبار أقسى منه عند الصغار وأصابني اليأس والإحباط لولا أنني اعتصمت بالصبر والصلاة.
ما يحز في نفسي أنني لم أتمكن من رد بعض جميلها علينا فما أن بدأت أتحمل عنها المسؤولية حتى تركت دنيانا إلى الأبد رحمها الله لم تعش حياتها كانت نموذجاً للتفاني والعطاء بلا مقابل، فلا أملك لها من البر إلا الدعاء ومواصلة المشوار وتحمل مسؤولية أختيّ.