8 مارس 2012
صدر مؤخرا عن دار توبقال في المغرب، أحدث كتاب للشاعر والأديب المغربي محمد بنيس تحت عنوان: “مع أصدقاء”، وذلك ضمن سلسلة “ذاكرة الحاضر”.
في هذا الكتاب، يستعيد محمد بنيس أيامه ولحظات اقتسمها مع عدد كبير من الكتاب والشعراء من مختلف بقاع العالم أَثْروا وأثَّروا في حياته الشعرية منهم: أدونيس، محمود درويش، سهيل إدريس، جاك ديريدا، الخطيبي، زفزاف، محمد شكري، جمال الدين بن الشيخ، أحمد المَجَّاطي، هنري ميشونيك، محمد الخمّار الكنوني، حسين مروة، إدوارد سعيد، إميل حبيبي، وغير هؤلاء.
نصوص الكتاب، هي نصوصٌ لأجل أصدقاء. كلماتٌ عنهم ونداءٌ مفتوح عليهم، منَ العزلة والصمت. يحملُ كل نص (أو أكثر) منها اسماً شخصياً. فالصديق كما يقول بنيس “مقترنٌ باسمه وتفردٌ بحياته. لا شبه بين صديق وصديق، ولا شبه بين صديق وبيني. فبقدر ما أقترب من صديق بقدر ما أراعي المسافة الفاصلة بينه وبيني، هي معنى السرّ الخاصّ، وهي الحرية في الرأي والتعبير والموقف، أو هي الحق في الهامش. فالاقترابُ من صديق يعني الإِنصات، بما يتطلّبه من مجاهدة وتسامح، أي البقاءَ على أهبة حوار لا ينقطع. وإذا كنتُ لا أعرف بدقة كيف أصبح أشخاص أصدقائي، فإن هناك من رافقتُه وجرّبتُهُ لمدة، قبل الوصول إلى لحمة الثقة. فالصديق لا نجده بانتظارنا في باب عمارة أو محطة قطار. نحن نحتاج إلى وقت نتمرَّن فيه ونختبر، حتى تنشأ علاقة حقيقية وتنمو مع شخص مختلف عنا، ستصبح له ذات يوم صفة صديق”.
ويقول بنيس: “أغلب هذه النصوص، التي أجمعها اليوم، جاءت على أثر الموت، بما يفجره من صدمة الفقدان. والباقي كان استجابة لنداء الصداقة، وقد قدمت لي لحظة الموت من فقدتهم، من بين الأصدقاء، في صورة المرآة. على قبر كل واحد منهم وضعت شاهدة. هي شهادة وشهود. وهي، في آن، أثر اعتراف بما كان بيننا. هادئة كنت أرى يدي تتقدم وتكتب. لا تلائمني الكلمات الجنائزية، لا المراثي. وها صديق في مكان آخر. لا يرحل. فقط يغير المكان الذي تعودنا على اللقاء فيه لتبني ذكرياته وأعماله مكانا يصبح له، هو دون سواه، بين أقرباء عاشوا عبر أزمنة من تاريخ البشرية. وهو معهم، في المكان الذي أحافظ فيه على اللقاء. قبرٌ لكل واحد منهم. وأنا، على حافة القبر، أنظرُ إلى جثتي القادمة.
لذلك فإن الأصدقاء كوكبة منتقاة، محدودة العدد. بيننا وبينها الوفاء، لأنه أسمى مظاهر الصداقة. لابد من الوفاء. فهو وحده الذي يسمح لعلاقتنا بالصديق أن يصبح لها معنى، ومعنى العلاقة هو أن تستمر، وتبقى في حالة الصّحْو، التي تنقل المصاحبة إلى أوصاف استثنائية، حيث يصبح بالإمكان أن تؤدي إلى أفعال مبدعة، يحضر فيها ما لا نتوقعه، أو يتحقق ما كنا نعتقد أن لا سبيل إليه.
ولأن كل صديق عالم مستقل بذاته، فإن الوفاء هو أن نصدق في رؤيتنا له وتعاملنا معه، حسب فرديته وتفرده، دون اشتراط تعامل بالمثل، بل دون الحصول على أي شيء منه، كيفما كان، حتى نحافظ على استمرار العلاقة معه. لا إرغام ولا إخضاع. فالطريق التي أسلكها في الحياة هي طريقي أنا، واللقاء بالأصدقاء يحدث في المكان الذي يمكن أن نتقاطع فيه، أي أن من حقنا أن نفترق عن بعضنا لحين. وحرية الافتراق تضمن لنا بدورها أن نعود لنلتقي من جديد. إنها حدود الممكن وغير الممكن في الصداقة والحياة. والصدق هو ما يرسخ الصحو في مراقبة الحدود. إن كلمة “الصديق” مشتقة من فعل “صَدَق”، الذي هو نفسه أصل اشتقاق كلمة الصدْق. ويكون الصدق أصْفى مَنْ نحبُّ، في السرّ والعلَن، أن نتقاسم معه بصدق جزءا من حياتنا، بدون أن ننافق أو نداهن. من هنا نوسع أيضا معنى الصديق بالانفتاح في عربيتنا على اللغات اللاتينية التي تؤلف بين الصداقة والحب، بل نوسّع المعنى، أبعد من ذلك، باستحضار كلمة المحبَّة، ذات نفحة الإبداع العربي. بمعنى أن وفاءنا في الصدق مع الصديق تعبيرٌ عن حبّنا له وميْلنا الدائم إليْه، بصفته جامعا لأوصاف عليا تتفرق في أشخاص كان لنا حظ ان نعيش معهم أو نتعرف عليهم، ويجسد المثال الأبعد لما نريد أن نكون عليه أو لمن نريد أن نتكامل معه. ففي الوفاء فقط، في استمرار العلاقة مع الصديق والبقاء معه في صحو، ونحن نراقب حدود الممكن وغير الممكن، تطأ أقدامنا عتبة المستحيل.
سهيل إدريس
عن رحيل الكاتب اللبناني الكبير سهيل إدريس يكتب بنيس واصفا رحيل هذا العملاق “في حالة من الخشوع تلقيت رحيل الدكتور سهيل إدريس. إنه، بلا ريب، أحد الفاعلين الثقافيين العرب الكبار، بين الخمسينيات والستينيات. وهو، أيضا، الصديق الكبير، المعلم والقدوة. ما أثاره رحيله من رجة، في نفسي وفي نفوس مثقفين عرب عديدين، صادر عن قوة حضوره في مسار الثقافة العربية الحديثة. كتاباته الروائية، ومقالاته وأفعاله الثقافية، وموافقه السياسية، تأتلف كلها في كلمة واحدة هي الحرية. ذلك ما وشم مرحلة بأكملها. جرأة ونبل. والذين عاشروا القليل أو الكثير من تلك المرحلة يدركون ما كان للدكتور سهيل إدريس من حياة ثقافية بها أعطى لزمنه العربي حياة جديدة”.
وأضاف: “قوة الحضور هي ما أستحضره في هذه اللحظة المكثفة من المشاعر. حضور لازمني، منذ مراهقتي. ولم يتوقف عن تأكيد فاعليته عبر جرأة ونبل. مجلة الآداب، كانت اللغة المشتركة بين شباب المجلة، ومنشورات دار الآداب تحولت في لمح البصر إلى مكتبة جميع التواقين إلى تغيير الأفكار والحساسيات. ويقول :أتذكر ذلك جيدا. وما زلت أحتفظ بأعداد قديمة من المجلة، كما أن إصدارات الدار، في الشعر والرواية والدراسات والترجمات، أظل حريصا عليها في مكتبتي. وأتذكر الطريقة التي كان جيل ما بعد الاستقلال في المغرب يستقبل بها المجلة وإصداراتها. استقبال الفرج بالكلمة الحرة وبالعبارة المبحوث عنها. لكن الكلمة أصبحت، بالنسبة لجميع المثقفين العرب، النازعين إلى فك القيود، ملخصة في واحدة هي الالتزام. سهيل إدريس هو الاسم الثقافي الذي جعل من هذه الكلمة دليلا على الانفتاح على الفلسفة الوجودية بعد أن كان، في الخمسينيات، أيقظ حساسية الشباب على الشعر المعاصر. وقوميته كانت ذات صبغة إيمانية، مقابل عقائد وتيارات من اليمين واليسار. إيمانية هي الدليل على الرسوخ قبل أن تفيد العبودية. فالحرية هي التي دعته إلى اعتناق القومية والدفاع عنها، كتابة وموقفا. وهي في الوقت نفسه الذي قادته، في التسعينيات، إلى الاعتذار للشيوعيين عن خطأ موقفه منهم. يقول بنيس في رثاء الراحل سهيل إدريس “باب بيتي انفتح عليه وعلى الدكتورة الغالية عايدة. مثلما بيته انفتح لي، في بيروت. وكنت القريب من الأبناء، رائدة، سماح ورنا، كل واحد منهم بمثابة أخ من إخوتي. ابتسامته لا تفارقني. نكتته التي يبدع فيها. أو أداؤه اللذيذ لأغاني محمد عبد الوهاب. وفي كل مرة كان يهتز طربا كلما عاد باسمه إلى فاس، ومولاي إدريس. كذلك كان يقول لي وهو يعيد كتابة تاريخ أجداده. من فاس هاجروا إلى بيروت. فاس التي كان يحب اسمها ويحب رائحتها. هي الذاكرة المتوارية التي لا تغيب، هي الأقحوان والنارنج والياسمين والرمان. هي البيوت والمساجد والألبسة والكتب والموسيقى. هي الأقواس المشبعة بالأضواء والظلال”.
أدونيس الكوني
ويتذكر الشاعر محمد بنيس صديقه الأبدي “أدونيس” بقوله “منذ أكثر من ربع قرن وأنا أنصت إلى أدونيس وأتعلم مصاحبته. تلك هي الفترة التي تفصلني عن مراهقتي. حيث الشعر وعشق الحياة كانا صنوين. يرافقان جسدي في فاس، بين أزقة تتعلق في أعاليها قطع الشمس وتحت سقوف مجنحة بزخرفة الجبس وبألوان زجاجية تتلاعب بأطراف الروح. ويعود محمد بنيس ليخصّ الشاعر السوري الكبير “أدونيس” بمقالة أخرى يقول فيها: أكثر من ربع قرن. هذا قليل. فالإنصات وتعلم المصاحبة يمتدان إلى زمن أطول، يتشكل لي، أحيانا، في طقس الأبدية، ما دام ميلادي الشعري منحجبا وراء تلك الفترة ذاتها. وأدونيس حاضر باستمرار، لأنه كاشف باستمرار عن لانهائية تخومه، في الشعر والقلق والسؤال. وفي استمرارية الحضور يكون الانصات نُسكيةً ومتاهًا في آن. ويكون تعلم المصاحبة حوارا متعدد الجهات، لأنه من مساءلة الحياة يأتي، ومن مساءلة الوجود يأتي أيضا.
فعلان متآخيان. وأنا البعيد التائه بين أزقة فاس، في بلد منسيٍّ اسمه المغرب، كنت أقترب من اسم أدونيس، عبر الدواوين والكتابات كما لو كنت أهاجر، محموما في اتجاه الكلمات الأولى، وهي تصعد من قرار التكوين، حالمة جغرافية كون له مجهول الذهول.
عن أدونيس يقول بنيس” في 1966 تعرفت لأول مرة، بالصدفة، على ديوان كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل. كانت نسخة واحدة عند الكتبي معروضة لمدة. ولا أحد يسأل عنها. في نهاية الطالعة. هناك، في الجهة اليمنى كانت المكتبة، وفي المكتبة كتاب التحولات. بنوع من التحدي، أو بإحساس البحث عن المجهول اشتريت الديوان. فكانت بداية اللقاء، أعني الإنصات وتعلم المصاحبة.
يذكر أن الكتاب جاء في 190 صفحة من الحجم المتوسط وزين غلافه بلوحة الفنان العالمي جان كينج.