9 مارس 2011 19:37
شاطئ واحد لا يكفي الطائر.. لا بد من شطآن كثيرة لا يحظى بها إلا عبر الارتحال الدائم، الارتحال اللاموسمي في البحار والخلجان والمدن.. ارتحال سادر في تجربة وعي جارح بقدر ما يشفي الجروح القديمة يفتح جروحات جديدة. ارتحال على ما فيه من شقاء للروح المرصودة بالكامل للخسارات فيه فتوحات تترى...
طقس واحد لا يكفي للطائر المهاجر، لشاعر يصنع خريطة رياحه أو يصممها لكي تحمله إلى أثير جديد بعدما امتلأ الأثير حوله بركام الكلام.
مدينة واحدة لا تكفي شاعراً كالبشارة، مفتوحاً على احتمالات لا تعرف النهايات ولا الركون الى الانطفاء.
نغمة واحدة لا تكفي لشاعر يصوغ مدارات الألفة بأسنان حادة... يبحث عن إيقاع يحطم السلالم الموسيقية وغير الموسيقية الملآى بالجثث لينبعث في “صوت” أو ضربة قدم غجرية أو أوبرا يعبث بترتيبها النغمي ليؤلف أوبرا أخرى ويخترع لها أكثر من (دو) و (ري) و (مي) و (لا)ءات كثيرة.
قصيدة واحدة لا تكفي لشاعر متخم بالعزلة، مطمور حتى رأسه برغبة مجنونة في التخلص من التفسخ والأذى بأشكاله كلها، حتى إنه يضع كل مهارته الكتابية وتقنيته وحرفيته تحت أمر تلك الرغبة في طبخ المدينة كلها، بناسها ومناخاتها وروائحها وأفكارها وحيواتها... المدينة كلها بقضها وقضيضها، في طنجرة ويصهرها حتى تحترق... لشاعر كهذا لا بد من نشيد فدائحي ملحمي تراجيدي طويل لكي تتسع الطنجرة لـ ... مدينة، كما أنه لا بد من سوريالية هائلة، سوريالية من طراز عجيب، ذلك الطراز الذي يتيح لها أن تعبر عن/ تتماهى مع السوريالية التي ينتجها الواقع ويرمي بها في وجوهنا كل يوم.
شمس واحدة لا تكفي لتضيء قلب النص.. لا بد من شموس وعي كثيرة تسنده وتكسو عظامه اللينة لحماً فتغدو أكثر صلابة و... فتنة. تلك الشموس التي طاردها الشاعر حتى آخر الكوكب الساكن جهة الشعر وجهة القلب.
بطحاء واحدة نائمة لا تكفي... لا بد من بطاح كثيرة تعلن الفارق بين الحقيقة والمجاز... بين البوح والكتمان، بين الشغف المشنوق في رغبة التخفي عن العيون والشغف المفتوح على آخره لبهجة لا تعرف التنكر ولا تتنقب، تركض حافية القدمين على رمال ساخنة وتشرق بفرحتها على الملأ.
جغرافية واحدة لا تكفي لشاعر يجدف نحو جهة غامضة تنقذ روحه من الموت وترسل له بروقاً تضيء عتمته... لا بد من جغرافيات عدة تغتسل تحت أمطارها روحه الناحلة لتتبدى في جوهرها الإنساني الشمولي لتخفَّ وتطير.
مجموعة شعرية واحدة لا تكفي لكل هذا وغيره.. لذلك لا بد للشاعر أن يفتح (التابوت) ويطير... يطير... إلى مكانات طازجة تخضرّ فيها الروح فينبثق الشعر كما النيلوفر على ماء الأسطورة.
آهٍ ما أجملك أيتها الحرية
مفتتحاً مجموعته بالوداع يقبض صاحب “افتح تابوتك وطِرْ” على كل ما يلزم الشعر ليكون شعراً: المبنى والسبك والصورة الشعرية والتنوع الدلالي للمفردات والموسيقى الداخلية والحساسية الشعرية وغيرها، لكن قصيدة “وداعاً.. وداعاً” القصيدة الأولى في ترتيب الديوان تكاد تكون زبدة القول أو بيت القصيد الذي اقتنصه الشاعر الجوال من رحلاته في بلاد الأرض، فهي في طبيعتها الاختزالية وتكثيفها للقول الشعري تبدو الحامل الأبرز لغايات الشاعر ومراميه، والمعبر الأوضح عن تحولاته الفكرية ورؤاه الفلسفية الثاوية في تلافيف النصوص. وبمعنى ما يمكن القول إن هذه القصيدة رسالة عشق تمجد الحرية وتقول لها بكل ما في الشعر من قوة جمالية: آهٍ ايتها الحرية ما أجملك!، ولأنها على هذا القدر من الجمال، ولأنها منحت الشاعر هذه السعادة غير العادية، ولأنها ضرورة روحية يحرضنا الشاعر على نيلها، والحرص على تحققها في ذواتنا والذهاب وراءها ـ إذا اقتضى الأمر ـ الى آخر الدنيا وإلى آخر نبض فينا لأننا بدونها موتى نحيا في (توابيت) ومعها أحياء نتفس ملء ارواحنا نسائم الأعالي منعتقين من جميع الجبريات الفكرية والمجتمعية، يحرضنا بقوة تستدعي الأمر وتكرار الأمر أكثر من مرة، وتستدعي أن تغص القصيدة بأفعال الأمر (افتح، طِرْ، ارْكُلْ، حَطِّمْ، اضْرِبْ، ودَعْهُمْ، احْمِلْ، واطْعَنْها).
إذن هذه معركة كاملة، يجب أن تخاض بكل قوة، والشاعر يسرّب لنا تجربته وتحولاته معلناً لنا أن ليس لدى المرء ما يخسره في هذه المعركة سوى (النمل الذي يرعى في فمه).
لكن هل يخاطب الشاعر القارئ أم يخاطب نفسه في مونولوج أو حوار داخلي؟
في تقديري تحمل هذه المجموعة الشعرية خطاباً ذي مستويين: الأول للإنسان بشكل عام والثاني للإنسان المختلف مع/ والمخالف لـ السائد في كل مكان وزمان، والثاني يشمل الشاعر ذاته عبر مونولوجات حوارية تكررت في أكثر من قصيدة بوصفه هو الآخر مختلفاً، وقد دفع على ما يبدو ثمن هذا الاختلاف وسدد فاتورة وعيه الشقي بالوجود، ولم يبق له والحال هذه إلا البحث عن حريته والتخلص من كل قيد يشده الى التابوت بل ومن المقابر. وبهذا الخروج المظفر، بهذا الانتصار الكامل على مفردات الحياة التابوتية، والفكر التابوتي، يكتب الشاعر نصه محدقاً في ما حوله، متأملاً، متدبراً، رائياً وراوياً. راصداً تبدلات الناس والأمكنة والعلاقات من نافذة وعيه الجديد بعين جديدة، عين لا ترى في المشهد إلا حقيقته ولا تقول من الشعر إلا ما يحقق البصيرة.
هذه الحكمة/ المفتتح الشعري الذي يضيئنا هو الذي يضيء النص ثم المجموعة كلها التي تبدو مثل (فلاش باك) لرحلة الشاعر في بحثه المضني عن ذاته الحرة، تلك الرحلة في الذات وفي الجغرافيا التي سنعثر فيها على ثمرة الحرية تتجلى في مستويات من النضج الفكري والفني والحياتي، بالرغم من أن الشاعر روى الكثير مما رآه وتعلمه في مرتحلاته وصمت عن كثير...
عن الآخرين.. وفيهم
حول نفسها لا تدور المجموعة الشعرية الموسومة بـ”افتح تابوتك وطِِرْ” للشاعر عبد العزيز جاسم بل تدور حول الآخر... الآخر في كل تجلياته المفاهيمية والإنسانية. الآخر القريب والآخر البعيد والآخر الذي يسكن في جسد الشاعر ويرافقه مثل ظله، يقاسمه لونه وشكله وتفاصيله وحتى موته... بل إنه بعد الموت ينطق عنه، الآخر الساكن بين مدينتين أو خديعتين أو الذاهب في المعنى متأبطاً “مئة عام من العزلة” باحثاً عن السحر الماركيزي في النص وعلى الارض.
في “قميص طنجة” يدخل الشاعر، وفي قميص طنجة يتسع الشعر لكل شيء: لهسيس الروح على الورق، لتقلب الشاعر ذات اليمين وذات الشمال على نار عزلة فائضة، لإبر الكآبة، للمنتجع الشتوي الذي يصبح في الليل مأوى للأطفال المشردين الذين تاهوا عن طفولتهم واحلامهم ودفنوها في حفر الرمل التي يأوون إليها مع حيواناتهم، للمهمشين وكسيري الأحلام والأرواح والنهايات المأساوية للباحثين عن لقمة الحياة في الهجرات السرية ومحطات التهريب الطويلة، للمعذبين فوق الأرض وتحت السماء وما بينهما، لحيرته الشخصية هو، الشاعر، من كل من عرفهم وخصوصاً تلك المرأة البربرية التي (كانت تنظف غرفتي/ وتمسح جبهتي/ من تسرق أشيائي يومياً/ وتناديني في الصباح/ بعينين حانيتين: يا ولدي!).
يتسع قميص طنجة للحاجة الحشاشة التي لم تذق شيئاً من بركات الوطن ورغم ذلك تردد وتجبر كل عابر تلتقيه على أن يردد معها هتافها الأثير: (الله، الوطن، الملك)، ويتسع قميص طنجة أيضاً لكل الرافضين والمتمردين والباحثين عن عدالة ما، ولاسئلة كثيرة حارقة عن معنى حضور الآخر في الموت وغيابه عند الحاجة إليه، وللأفاقين والنساك والمدن التي (تعلمك بلا بوق ولا لسان. بالإشارة وحدها تعلمك. تعلمك الطيران والعصيان والسباحة في دماغ المستحيل)... وأخيراً يتسع القميص للموت حضوراً ودلالة. الموت قاسم مشترك لفظاً ومعنىً في نصوص المجموعة. يتخذ تارة شكل الموت الحقيقي وتارة يرتدي ثوب المجاز... بدءاً من الموت العام/ الشامل الذي جاء في القصيدة الأولى عبر محمول رمزي هو التابوت والذي استدعى من الشاعر أن يشن عليه هذه الحرب الكاسحة، ومروراً بالموت الحقيقي للنيجيري، والمُنتجعٌ الشِتْوي الذي يغدو “مقبرة” مجازاً حيث (فعل الحفر والنوم في الحفر دلالة بارزة على المعنى التابوتي)، والعلاقات الإنسانية بين البشر هي الاخرى في حالة موت، والتفسخ الروحي الذي يتمظهر في كل شيء يحيل إلى الموت، وحتى عودة (صقر الهجرات الى مدينته القديمة ذات السبع مقابر... لمائه الأول) تفضي الى الموت.
بيد أن الشاعر في انشغاله بالتعبير عن الذين يحيطون به إنما يعكس رؤية إنسانية وإبداعية شمولية، تتجاوز الجغرافيا والأعراق والألوان والأجناس لجهة التعبير عن جوهر المعاناة الإنسانية المشتركة بين كل الموجوعين والمحزونين من جهة، والنظرة الإنسانية والشمولية للشعر ودوره وغاياته من جهة ثانية والقدرة على تشارك الفعل الإبداعي سواء على مستوى الموضوع او حتى التقنية. فالانزياحات التي تحققها قصائد عبد العزيز جاسم هي انزياحات لغوية وجمالية وفنية ووجودية أيضاً، ما يجعلها تتوفر على كم كبير من الوعي والرهافة الإنسانية.
وهو ايضاً يصغي بعمق ورصانة الى ما تطلبه القصيدة فنياً ومضمونياً، بحيث يبدو مشغولاً بتطوير أدواته الكتابية طامحاً إلى تكريس صوته الذي تفرد به بين كتاب قصيدة النثر الشباب.. عبد العزيز جاسم يحاور النثر ويداوره، يجربه، يطوعه، يهدم ويبني، يشيد صوره السوريالية أو يراقص اللغة في عذوبتها، ويقترب من النفس القصصي كثيراً وربما نلمح لديه نفساً حكائياً فضلاً عن لغته الرائقة، الزاهدة في اللغو والترهل والذاهبة في خط مستقيم واضح تماماً إلى حكمتها... هذه وغيرها في الحقيقة ثيمات فنية تحتاج الى دراسة نقدية مستفيضة لا تتسع لها المساحة.
عن الحياة.. وفيها
“في أرض الدورادو” يحل الشاعر ضيفاً ليس على الحياة فقط بل على الشعر واللغة الفوارة بالفرح والألوان والبهجة... تلك أرض تشبه عاصفة تضرب رجلاً ساهياً، وقد أخذته في صدرها فتنفس هواء مختلفاً، هناك سيكتب عن صوت دبّاح لبزق تركي، وعن اثر الموسيقى في روحه، عن راؤول الذي تتجسد في ملامح وجهه وجسده كل معاني الفقر والجوع والتشرد التي تلطخ ثياب قارة هي أميركا اللاتينية، عن قيثارات ودفوف ورقص مختلف لا يغازل شهوات الجسد بقدر ما تتشربه الروح، عن الحب على شواطئ الكاريبي وعن أشياء كثيرة وتفاصيل زاهية جعلته يحمل في صدره سماءين، ويصغي لأهزوجة الطيف في آخر الكوكب وضعها في تسع سوناتات أو مقطوعات أو ومضات مصاغة بلغة ترقص: (فقط، كنت أمشي الهوينى بين الأنام. أتناول الضياء بملعقة، وامهل القلب ساعة كي يتوقف!)... هناك، وضع الشاعر رحاله وأحماله، تخفف وارتجل (هذه مرساتي المعشوشبة! فلألق بها في ردهة النوم، وأفك أزرار قميصي، متلمساً النور المتصبب من أطرافي، قطرة قطرة). في رحلته الطويلة لم يكن لدى الشاعر أوهام ولا نياشين على كتفه، كل ما الأمر أنه أراد أن يتخلص من (حياة شوكية على ظهره) ليمضي وحيداً وخفيفاً.
متأبطاً ماركيز وعزلته مضى عبد العزيز جاسم إلى كولومبيا باحثاً عن أنفاس السحر الماركيزي... مسكوناً برغبة الكشف يغذ السير في دروب المعرفة. على جناح الأسطورة وفي طين الحضارات وجد صوته يصفو، وصوره تتدفق في ثراء مربك، ومشهدياته تمتلك من الخصوصية ما تجعله لا يضع رأسه إبداعياً إلا حيث يأخذه صوته. في قصيدة النثر أصوات قابلة للعطب السريع، وأصوات لا يعرف أحد كيف تسللت حافية القدمين لتجد لها أكثر من موطئ قدم على ساحة الشعر والإبداع. في قصيدة النثر يصعب الحفاظ على ذلك التوتر العالي والكثافة المهيبة التي تجعل الشعر أقرب الى طفلة تلهو بشعرها أشعة الشمس، وما على الشاعر الحقيقي إلا أن يحوز ألقها ليجعل الفرح الذي يبرق في عينيها سرمدياً.
لولا الشعر ما كان لنا قلب يخفق. هكذا تبدو الأمور بعد قراءة الشعر الجميل. مع “افتح تابوتك وطٍرْ” ثمة تعديل بسيط يجعل السؤال: من أين تدخل القصيدة الى القلب؟