أسماء الحسيني (القاهرة)
مازالت الخديعة التاريخية التي وصل بها نظام الرئيس السوداني عمر البشير إلى الحكم في الثلاثين من يونيو عام 1989، ماثلة في أذهان قطاعات واسعة من السودانيين، لا تغادرهم المقولة الشهيرة لعراب النظام الراحل الدكتور حسن الترابي الذي قال للبشير: اذهب إلى القصر رئيسا وأذهب إلى السجن حبيسا»، في محاولة لإبعاد شبهة انتماء انقلاب البشير إلى الجماعة الإسلاموية الإخوانية، وكسب التأييد الداخلي والدولي. واليوم تتداعى لأذهان السودانيين تلك الذكرى الأليمة لهذه الخديعة التاريخية التي أدخلت بلدهم في نفق مظلم امتد 30 عاماً، وذكريات أخرى مماثلة لخدع مارسها نظام «الإنقاذ» الذي احترف التلاعب بالقوى والشخصيات السودانية، والقفز فوق حبال التحالفات الإقليمية والدولية المتناقضة. وربما تكون أزمة الثقة العميقة هذه هي السبب في رفض المتظاهرين السلميين العودة إلى منازلهم بعد عزل البشير، وتنحى نائبه ووزير دفاعه عوض بن عوف بعد تولي رئاسة المجلس العسكري الانتقالي لأقل من 48 ساعة، لتنتقل رئاسة المجلس الآن للفريق أول عبد الفتاح البرهان الذي سارع فور توليه منصبه إلى إعلان إنهاء حظر التجوال ومرسوم الطوارئ، وحل حكومات الولايات، وأنه سيتم تشكيل مجلس عسكري لتمثيل سيادة الدولة، وتشكيل حكومة مدنية متفق عليها بوساطة الجميع، مؤكدا دعوة مفتوحة للحوار لكل أطياف المجتمع وأحزابه ومنظمات المجتمع المدني.
وجدد البرهان الدعوة لحاملي السلاح للجلوس والتحاور للوصول للسلام والتعايش السلمي، وفق أسس ومعايير جديدة.
ورغم ذلك لا يزال الشارع السوداني وقواه السياسية منقسمين تجاه البرهان وما يطرحه من مبادرات، إذ يرى البعض أن الغموض يحيط بشخصيته، بينما يذهب آخرون إلى أنه فصل جديد من فصول حكم الجبهة الإسلاموية الإخوانية بالسودان، فيما يرى آخرون أن طروحاته معقولة، وأنه يجب التعامل معها بإيجابية. ومن أنصار الرأي الأخير الدكتور عثمان المهدي القيادي البارز بحزب الأمة السوداني المعارض الذي يقول لـ«الاتحاد»: إنه يحبذ التغيير التدريجي، والتعامل مع الأمر الواقع. ويرى أن حالات التنطع والمزايدات والتشدد ستؤدي إلى حالة عدم استقرار في السودان. ويشير المهدي إلى أن تصريحات البرهان كانت إيجابية، وأكدت محاربة الفساد واجتثاث رموز النظام السابق. ويضيف المهدي: أعتقد أن التغيير المتدرج أفضل، ويؤكد: «ليس هناك ثورة ستستمر إلى الأبد».
ويقول الناشط أحمد المخير أحد المشاركين في الحراك الشعبي لـ«الاتحاد»: ما زال الشارع السوداني متوجساً من منظومة البشير وأذنابه، ولذلك يقدم البرهان ومجلسه الكثير من أجل استعادة ثقة الشعب السوداني.. المحتجون في الشارع 80% منهم شباب ليس من السهل خداعهم.. ليس لديهم ما يخسرونه.. لقد فقدوا أقرانهم في الحروب والموت مرضاً وجوعاً وتشرداً.. كل الطرق سدت أمامهم، ولابد من إقناعهم بأن لهم دور في المرحلة الجديدة التي تعبر عن فسيفساء الأمة السودانية.
وحذرت مصادر من محاولة التفاف الدولة الإسلاموية الإخوانية العميقة على مطالب الشعب السوداني، ولفتت إلى أن الإسلامويين في السودان لن يتخلوا عن مشروعهم وتمكينهم بالبلاد بسهولة. ولكن مصادر أخرى أكدت أن البرهان شخص مهذب وعسكري مهني منضبط ولم يسمع عنه أنه تورط في قضايا الفساد الذي تفشى وسط زمرة الإسلامويين بالسودان التي استأثرت بكل موارد البلاد الغنية طوال العقود الثلاثة الماضية. وقد كشفت وسائل إعلام سودانية أن البرهان هو من اعتقل البشير فجر الخميس الماضي. وأنه من كان مقرراً أن يلقي بيان القوات المسلحة.
والرئيس الجديد للمجلس العسكري هو قائد القوات البرية السابق، وشغل منصب المفتش العام للقوات المسلحة السودانية. وكان اسم الفريق أول عبد الفتاح البرهان -60 عاماً- يتداول بقوة في أوساط السودانيين في الآونة الأخيرة، فقد ورد اسمه ضمن القرارات الرئاسية التي أصدرها البشير في شهر فبراير 2019 بتعيين والياً لإحدى ولايات البلاد، لكنه اعتذر عن تولي المنصب وآثر البقاء في موقعه بقوات الشعب المسلحة، وقد تمت ترقيته من رتبة الفريق الركن إلى رتبة الفريق أول، ليصبح ثالث أكبر قائد عسكري في الجيش السوداني، قبل أن تحمله الأحداث الأخيرة لسدة الحكم الانتقالي.