ميلان كونديرا
ترجمة - أحمد عثمان
أتذكر الجملة الشهيرة لفردريك شليغل في بداية القرن التاسع عشر: «الطموحات الثلاثة الكبرى في عصرنا: «الثورة الفرنسية»، و«فيلهلم مايستر» لغوته، و«أسس علوم المعرفة» لفيخته.
هو ذا حدث تاريخي عظيم يتموضع على نفس سطح هذين الكتابين الثقافيين. هي ذي أوروبا (أوروبا العصر الحديث)، المكان الذي يتميز بمكانته المهيمنة ثقافياً أعني على مستوى الفكر والإنتاج الفني، (وذلك لتحاشي صور سوء الفهم التي أنتجتها الدلالات المختلفة لهذه الكلمة).
لنتخيل أن أحدهم قال، خلال الستينيات أو السبعينيات: كبرى طموحات عصرنا هي إزالة الكولونيالية، ونتاج فيلليني ونقد تقنيات هايدغر. الفكرة، كما يتبدى لي، تعتبر مبررة بقوة، ومع ذلك، عصرذاك، لم يقل أحد أن «الفكرة» لا تجيب على روح العصر والمكانة المحفوظة للثقافة.
اليوم، كلمة من هذا النوع تتبدى لي مستحيلة، لا يمكن أن نجد نتاجاً ثقافياً من الممكن وضعه على نفس مستوى «اختفاء» الشيوعية، مثلاً. هل هذا ممكن؟ ألا توجد نتاجات كبرى؟ أو بالأحرى، هل تتوافر ولا نراها؟ أو لا نريد رؤيتها؟ من الصعب الإجابة.
شيء ما يتبدى لي ضروري: كانت أوروبا التي ذكرها شليغل ممكنة وطبيعية، ولكنها هذه الأوروبا غادرتنا. رحيلها نحو العدم حدث أمام أعيننا. وتظاهرنا بأننا لم نر شيئاً. ربما لم نر شيئاً بالفعل. هذا الحدث الاستثنائي لم يكن متأملاً ولا محللاً ولا موصوفاً ولا حتى متحققاً.
لم يكن متحققاً لأن العالم، كما هو مكون خلال العقود الأخيرة، أصبح لا مبالياً تجاه نتاج غوتة، وفيخته، وهايدغر وفيلليني، وبالتالي لوجودهم كما لغيابهم. إذا توفي عمٌّ عجوز لم يكن أحد يزوره، من الممكن بسهولة عدم ملاحظة غيابه. فضلاً عن ذلك، من تبلبلت أفكاره، أصابه القلق، تشوش من جراء محو الثقافة الأوروبية؟ لا أحد. على الرغم من كل شيء، هناك ضحيتان سوف تعانيان الكثير: الأولى، بالتأكيد، الفلسفة والفن. ثم، فرنسا. إذ أن السلطة الاستثنائية لفرنسا خلال الثلاثة قرون، القرنين الأخيرين، راجعة إلى المكانة المميزة التي تحتلها نتاجاتها الثقافية في حياة أوروبا. أتكلم من خلال تجربتي الشخصية: كانت البيئة الروحية لشبابي التشيكي موسومة بشغف فرنسي كبير. هذا بالضبط ما جرى بعد الحرب العالمية، مما يعني أن حب فرنسا بقي إلى حد ما في القلوب على الرغم من «صدمة ميونيخ» ، «التي اعتبرت آنذاك خيانة». كيف استطاع البقاء؟ لأن حب فرنسا لا يقبع في حب رجال الدولة الفرنسية، ولا في التماهي مع السياسة الفرنسية، إنه يوجد حصرياً في هوى ثقافة فرنسا: فكرها، أدبها، فنها «الفن الحديث على وجه الخصوص». حينما تصبح جملة شليغل مغلوطة تاريخيا، حينما لا تمثل الثقافة الفرنسية لدى الأوروبيين الشيء الكبير، يصبح من سخرية القدر، أن العالم غير مكترث بفرنسا، أصم مع صوتها. وبما أننا نستبعد الماضي بشيء من الهوى، يكون عدم الاكتراث خاصية النفور، ويصبح عدم الاكتراث بفرنسا (فرانكوفوبيا) سبب آخر لحب فرنسا: من دون غبطة، حبٌ قلقٌ، عنيد، حنينيّ.
(*) Milan Kundera: «Ma passion pour la culture de la France»، la Revue des Deux Mondes، Novembre، 1994
(**) المقصود معاهدة ميونيخ أو اتفاق ميونيخ وهي اتفاقية تمت في ميونيخ في 30 سبتمبر 1938، بين ألمانيا النازية، وبريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وكانت بمثابة تسوية تسمح بضم ألمانيا النازية لمنطقة السوديت التابعة لتشيكوسلوفاكيا والتي يعيش فيها مواطنون ناطقون بالألمانية في محاولة لاحتواء ألمانيا النازية، وتجنب اندلاع حرب عالمية أخرى.