القاهرة ـ حلمي النمنم :
تفتقر المكتبة العربية الى الدراسات والكتب عن 'الضحك'·· لدينا كتب عن الكوميديا، لكن الكتب عن الضحك محدودة وهناك كتاب لاستاذ الفلسفة -الراحل- د· زكريا ابراهيم هو 'سيكلوجية الفكاهة والضحك'، ويضم تجميعاً جيداً للدراسات والنظريات النفسية والفلسفية حول الضحك·· وهناك كتاب أصدره أحمد عطية في خمسينات القرن الماضي حول الضحك، والترجمة العربية لكتاب الفيلسوف الفرنسي المعاصر هنري برجسون حول الضحك، وهذه الكتب جميعا تتناول نظريات وأفكار فلاسفة ومفكرين غربيين، ولم نجد من يتناول هذه الظاهرة في مجتمعاتنا، والضحك ظاهرة انسانية يشترك فيها كل البشر، من مختلف الأجناس والألوان والأعمار· فهو لغة عالمية وان كانت لغة بلا حروف ولا كلمات، وتضم فقط أصواتا، منغمة ولا يمكن تخيل الانسان بلا ضحك، ولا يوجد انسان لا يضحك حتى لو كان مكتئبا·· وحينما أراد الشاعر التونسي أبوالقاسم الشابي أن يصف وجه حبيبته ويبالغ في جمالها قال ان وجهها مثل 'السماء الضحوك' وكابتسام الوليد·· والمعروف ان الابتسام هو بداية الضحك·· وبهذا المعنى فإن كتاب د· أحمد مستجير الذي صدر مؤخرا يأتي في موعده 'علم اسمه الضحك'·· وهو لا يتطرق الى الجوانب السيكلوجية والفلسفية لكنه يركز على احدث الابحاث التجريبية، الطبية أو العلمية في الغرب، ذلك أن الناس في السنوات الأخيرة يعانون ضغوطا كثيرة، فضلا عن اعمال عنف وارهاب ملأت حياتهم تجهما وبؤسا، ويحتاجون الى من يضحكهم وقد فسر بعض النقاد انجذاب الجمهور الى الفنانين محمد هنيدي ومحمد سعد رغم ضعف وبلاهة ما يقدمانه بأن الجمهور في انتظار ان يضحكه، حتى لو كان الضحك أجوف!!
ويقول العلماء ان الضحك جزء أصيل في السلوك البشري، وأهم من أمور كثيرة في الحياة، يأكل الانسان ثلاث مرات في اليوم، يستوي في ذلك الجميع، لكن متوسط ضحكات الانسان 17 ضحكة في اليوم، ولا يحتاج الإنسان الى من يعلمه الضحك فهو يتعلم كيف يتناول الطعام وكيف يدخل الحمام وكيف يرتدي ملابسه، لكنه يبتسم ويضحك من دون أن يعلمه أحد، ولا يحتاج الانسان الى ان يحاكي احدا أو يقلده في هذا الجانب، الطفل الأعمى أو الطفل الأصم أو الأبكم يمكن ان يضحك من دون أن يرى أو يسمع ضحكة أحد·
دلالة اجتماعية
ولا يخلو الضحك من دلالة اجتماعية، فهو ليس تعبيرا فرديا عن العواطف، والانسان يضحك وهو في صحبة الآخرين ''30 ضعف ما يضحك منفردا فالأغلب ان يبتسم الانسان وهو منفرد أو يكلم نفسه، لا ان يضحك، ومهما كانت سعادة الانسان فإن الضحكة في الأصل اشارة نرسلها للآخرين، وتكاد تختفي اذا لم يكن هناك من يسمع، حتى غاز الضحك 'اكسيد الفيتروز' يفقد الكثير من قدرته على الاضحاك اذا كان الانسان منفردا، وبالتأكيد لا يضحك الانسان مع الآخرين إلا عندما يستريح اليهم ويستريحون اليه والضحك اشارة الى ثقة الانسان بمن حوله، وعندما يضحك الانسان مع آخرين يشعر بانه قريب منهم، وواحد منهم، وعندما يضحك يشعر بانه يريد ان يتكلم ويتعامل اكثر مع من حوله·
وثبت بالبحث أن الضحك لا يأتي معظمه استجابة لمحاولات هدفها الاضحاك، كإلقاء النكات أو القصص الهزلية، والضحك الذي يأتي عبر المحاولات المقصودة يبلغ 20 في المئة من الضحك الذي يصدر عن الانسان أما بقية الضحكات فإنها تأتي من ملاحظات عادية وعفوية، وثبت ان النكات الزاعقة لا تسبب عاصفة من الضحك بل الملاحظات العابرة، وهو ما يعني ان المنبه القوي للضحك ليس هو النكتة، وإنما هو الآخر·· وقد عكف روبرت بروفاين وثلاثة من تلاميذه على دراسة السلوك اليومي للبشر وهم يضحكون، تجولوا في أماكن تجمع الناس وأخذوا يتنصتون عليهم وهم يضحكون: في المتاجر، وفصول الدراسة، والشوارع والطرقات والمكاتب والحفلات، جمعوا مادة غزيرة لدراسة الضحك كظاهرة أو تعبير اجتماعي وتكون لديهم ''1200 حالة ضحك حدثت بشكل طبيعي واذا سمعوا ضحكا رصدوا جنس المتحدث قبل بداية الضحك ومن يستمع وما اذا كان المتحدث يضحك أو من يستمع اليه، وماذا قال المتحدث قبل الضحك، وكان الهدف دراسة التركيب الصوتي للضحك وقد اتضح ان هذا أمر بالغ الصعوبة إذ يختفي الضحك ويتوقف عندما تحاول ملاحظته خاصة في المعمل، ومن الطرق التي استخدمت ان يطلب الى الناس ان يضحكوا وكان هناك من يستجيبون بالانفجار في الضحك، لكن النصف بالضبط رفضوا الاستجابة 'لا يمكن ان نضحك بالأمر'، يصعب أن تصدر ضحكة حقيقية بالأمر، والمعنى اننا لا نستطيع أن ننشط عامدين آليات الضحك، وثبت ايضا من هذا البحث عدم عشوائية الضحك، فلا يمكن ان يقطع المتحدث أو المستمع تركيب الجملة بالضحك فمن بين 1200 ضحكة تم رصدها، لم يجدوا إلا ''8 حالات مقاطعة كهذه وكانت جميعا من المتحدث ويمكن ان تسأل 'الى اين تذهب··؟ ها·· ها، ولكنك لا تقول 'الى اين·· هاها·· تذهب؟' وهذا يمكن ان يؤدي الى نتيجة مفادها أن الضحك لا يمنع الكلام ولا يكبحه، والضحك والكلام مثل عملية الكتابة والترقيم، علامات الترقيم تأتى بعد الكتابة وهكذا الضحك يأتي بعد الكلام، وثبت أيضا ان المتحدث أو من يلقي النكتة يضحك اكثر من سامعيه بنسبة 46 في المئة الامر الذي يفرض على الباحثين ضرورة ألا تقتصر الدراسات عن الضحك على سلوك المستمعين وحدهم·
المرأة الضحوك
وهناك تمايز في الضحك بين الجنسين، فقد ثبت ان المرأة تضحك أكثر من الرجل وتبتسم اكثر مما تضحك، وثمة تنوع كبير في أصوات الضحك، فقد يتم التعبير عنه بصوت مسموع، قهقهة عالية أو ضحكة خاصة، وقد يكون الضحك صامتا أو أقرب الى الهمهمة أو ما يقال عند السخسخة النسائية لكن انفجارات الضحك المسموعة تتكرر من النساء اكثر من الرجال، وتبين ان المرأة حين تكون متحدثة تضحك 127 في المئة اكثر ممن يستمع اليها من الرجال واذا كان الرجل متحدثا فإنه يضحك اكثر من المستمعين اليه بنسبة 7 في المئة فقط، ويضحك الجمهور اكثر اذا كان المتحدث رجلا لا امرأة، وقد اثير التساؤل عن مدى دخول الضحك عاملا في التوافق بين الجنسين، وبحث بروفان هذا الجانب بدراسة الاعلانات الشخصية بالصحف، فقد فحص 3745 اعلانا شخصيا ظهرت يوم 28 ابريل 1996 في ثماني صحف وثبت ان النساء يؤكدن 'الضحك' في اعلاناتهن بنسبة تزيد على 62 في المئة من تأكيد الرجال ، وانهن يتذوقن الفكاهة اكثر من الرجال وحس الفكاهة لديهن أعلى والرجل في كل الثقافات 'يؤدي الفكاهة' ويحرص على الضحك، والمرأة تستمتع بالفكاهة والضحك اكثر·
النساء يبحثن عمن يضحكهن من الرجال أو الرجل ذي 'الدم الخفيف' والرجال يتلهفون كي يقدموا لهن الفكاهة، ويمكن ان تشير نغمة الضحك بين رجل وامرأة الى مدى اهتمام كل منهما بالآخر لكن ضحك المرأة لا الرجل هو الدليل الحاسم على العلاقة الصحية بينهما، وعموما فإن الضحك الصاخب والتعبيرات والحركات المبالغ فيها عند الضحك تعتبر في معظم الثقافات أمورا 'غير أنثوية' بينما نجدها اكثر شيوعا بين الرجال، وهذا في معظم الثقافات، فالمرأة تفضل الضحك بلا قهقهة، لأن ذلك يعد استرجالا منها·
وتختلف الضحكة تبعا لاختلاف الدور الاجتماعي لمن يضحك، وتختلف ايضا طريقة استقبال المستمعين للضحكة حسب وظيفة من يقوم بالاضحاك، مثلا لن نجد مديرا عاما يقهقه مع موظفيه، ولن نجد وزيرا يفعل الشيء نفسه مع مرؤوسيه، ولو فعل ذلك يلام عليه حتى منهم ، ويمكن ان تصدر ضحكة 'مؤدبة' أو هادئة اذا اطلق الوزير أو المدير ما يرى مرؤوسوه أنه يستدعي الضحك، ويمكن للمتحدث أحيانا ان يضحك ضحكة للتخفيف من ملاحظة بيديها أو انتقاد يوجهه لأحد، وقد يختلط الضحك بالكلام في هذه الحالة·
والضحك معد، ويمكن للضحك ان يستثير الضحك لدى آخرين، وقد اجريت تجربة على فصل به 128 طالبا بأن وضع 'صندوق للضحك' عبارة عن جهاز تسجيل مسجل عليه ضحكة تستمر 18 ثانية، وتم تشغيل الجهاز وفي المرة الأولى ابتسم 90 في المئة منهم وضحك نصفهم، وبعد دقيقة تم تشغيله وهكذا عشر مرات، وفي كل مرة كان عدد الضاحكين يتناقص وفي المرة الأخيرة ضحك ثلاثة فقط، وكان رأي الطلاب في المرة الأخيرة أن الأمر صار ثقيلا ومملا، فالنكتة تمتعنا لدى سماعها أول مرة، ويمكن ان تضحكنا بعد ذلك مرة ثانية أو ثالثة، لكن إذا تكررت وعلى فترات متقاربة تصبح 'بايخة' أو 'قديمة' فالضحك لا يمكن ان يكون معلبا والضحكة تكون أكثر متعة وهي تلقائية·
وتساءل عدد من الفلاسفة والباحثين عن نشأة الضحك لاول مرة لدى الانسان وذهب الفيلسوف الاميركي جون موريل الى ان الضحكة البشرية الاولى ربما تكون قد صدرت تعبيرا عن الارتياح لزوال خطر ما ويسمع الاخرون الضحكة فيحسون بالأمان ويطمئنون ويضحكون وبعد ذلك يمكنهم ان يستريحوا ويسترخوا، وعندما يضحك الفرد تسترخي عضلات جسمه كلها، والضحك يعطيك اشارة ثقة بمن حولك وهو اعلان عن زوال تهديد·
ويرى بعض العلماء أن ضحك الانسان قد تطور كوسيلة لتشكيل العلاقات بين الناس وتقويتها، وكان الانسان الاول ينقل بالبسمة الى الاخر الرغبة في التواصل ومع الزمن اصبح من السهل تزييف البسمات وتطلب الامر اشارة اكثر تعقيدا فكان الضحك·والضحك يتطلب من الجهاز العصبي جهدا أكبر ويحتاج الى طاقة أقوى، وبذلك يصعب تزييف الضحك وحل الضحك محل الابتسامة كدلالة على الرغبة في الاندماج في صفوف الجماعة وطبقا لهذه النظريات فإن الضحك قد نشأ لتغيير سلوك الاخرين شأنه في ذلك شأن غيره من ضروب السلوك البشري·
ففي وقت الخطر قد يستخدم الضحك كإيماءة للتهدئة والاسترخاء وكوسيلة لتنحية الغضب واذا اشترك معك الشخص الذي يهددك في ضحك تلاشى خطر المواجهة اذا تغير الحديث من الحدة والتشنج إلى التهدئة اختفى التهديد·
وهناك فريق آخر من العلماء لا يرى في الضحك وسيلة لبناء العلاقات الودية بين الناس وانما يرونه يدل على فعل عدواني في المقام الاول والضحك يعني لديهم انك قد تفوقت على الاخرين وتميزت عليهم ويعني انك كسبت الجولة، واحد العلماء وهو تشارلز جرونر يرى ان الضحك في الاصل صيحة النصر والسخرية من الخصم يطلقها المنتصر والمحارب اذا هزم عدوه وطبقا لهذه النظرية فإن الوليد يبتسم لأمه لا ليرضيها وإنما لأنه قد حصل أو سيحصل منها على ما يريده!
وإذا ضحك رئيس العمل ضحك جميع المرؤوسين نفاقا وتملقا أو قهرا منه وهناك دراسات عديدة تؤكد أن ذوي السلطة، رؤساء العمل او كبار رجال القبائل يستخدمون الفكاهة اكثر من مرؤوسيهم ليصبح التحكم في ضحك الجماعة طريقا لممارسة السلطة عليهم ولذا فإذا سقط رئيسهم على السلم مثلا أو تعثر في أي شيء أوتعرض لموقف محرج وجدوا في ذلك امرا مضحكا للغاية فهم بشكل ما قد 'انتصروا' عليه!
فوائد الضحك
وللضحك فوائد كثيرة وكان الاغريق يبنون المستشفيات الى جوار المسارح حتى يستفيد المرضى من ضحكات رواد المسرح فيحل الشفاء بسرعة ويقول الاطباء ان من يستطيع اكتشاف النواحي المضحكة في المواقف الصعبة يكون اقل عرضة للاكتئاب والغضب والتوتر والضحك مثل البكاء يقلل القلق والاضطراب ويقلل هرمونات الاجهاد وعندما يضحك الانسان يزداد إفراز بروتين 'جاما انترفيرون' وهو يزيد المناعة ويقلل الاصابة بالمرض وهناك خلايا 'ت' وخلايا 'ب' تنشط مع الضحك وهي خلايا الدفاع ضد الامراض كما يرتفع الاكسجين في الدم وتتحسن الدورة الدموية ويزداد تركيز جلوبولين المناعة 'أ' في اللعاب مع الضحك وهو يعمل ضد عدوى الجهاز التنفسي وتزداد الاندروفينات 'قاتلات الألم التي يفرزها المخ' وتتعزز قدرة تخزين المعلومات في المخ والضحك يخفف ارتفاع ضغط الدم وضغوط الحياة·
وفي مارس من هذا العام أعلن عدد من الباحثين من جامعة ميريلاند لأول مرة أنهم وجدوا ان الضحك يتسبب في تمدد البطانة الداخلية للأوعية الدموية الامر الذي يزيد تدفق الدم·
وذكر د· ميشيل ميللر رئيس هذه المجموعة انه لاحظ على مرضى القلب ان استجابتهم لوقائع الحياة اليومية تكون أقل بشاشة من الاصحاء وان الذين يضحكون يكونون اقل عرضة للاصابة بأمراض القلب وعنده أن الانسان يحتاج الى ان يفضفض ويرفه عن نفسه يوميا لمدة 15 دقيقة وقد تصل الى 20 دقيقة·
ولاحظ الباحثون ان تدفق الدم في الشريان العضدي قد ازداد بنسبة 95 في المئة اثناء مشاهدة فيلم كوميدي وان هذا التدفق انخفض بنسبة 75 في المئة لدى من شاهدوا فيلما حربيا وان متوسط الزيادة في تدفق الدم اثناء الضحك 22 في المئة وفي حالة الاجهاد الذهني انخفض التدفق بنسبة 35 في المئة ولكن هناك حالات قد لا يكون الضحك فيها خير دواء ذلك ان الضحك قد يزيد ازمات الربو في الاطفال بأكثر مما ينتج عن الدخان أو القيام بمجهود ففي عام 2002 ظهر بحث تم فيه تحليل حالات كل من وصل الى قسم الطوارئ من الاطفال خلال ستة اشهر باحد مستشفيات بريطانيا واتضح ان نسبة الثلث منهم كانوا يعانون مما يسمى 'ربو المرح' وأن له علاقة بالضحك·
وباء الضحك
الضحك يمكن ان يكون وباء ولا يعني أن الضاحك دائما سعيد أو فرح ففي عام 1962 وقعت حادثة غريبة في قرية 'كاشاشا' الصغيرة المعزولة على الشاطئ الغربي لبحيرة فيكتوريا، فقد اجتاحت نوبة ضحك مجموعة صغيرة من البنات بمدرسة داخلية، اعمارهن تتراوح بين 12-18 سنة· ثم انتشرت الظاهرة بسرعة كالوباء في المدرسة كلها ثم في المدارس الاخرى وانتقلت من القرية الى قرى مجاورة· وتجاوز الضحك المدارس الى الأهالي واقتضى الامر اغلاق المدارس لمدة 6 أشهر وتم تشخيص الوباء بأنه 'ظهور نوبات مرضية من الضحك تجتاح الجماعات بالمنطقة على فترات غير منتظمة'·
وبعد بحث طويل وجد أن الدولة -تنجانيقا- كانت قد استقلت حديثا عن انجلترا وشعرت الطالبات والناس جميعا بضغوط نفسية حادة خوفا من المستقبل وما يمكن ان يحدث لهم، فهل يختلف ذلك عن المثل المصري الذي يقول 'أنا باضحك من غُلبي' أي حين يضحك فرد وهو في ظرف لا يسمح له بالضحك أو حينما يبالغ انسان في الضحك ويتوقع الخطر أو الشر ويقول: 'خير·· اللهم اجعله خيرا'!!·