عبد الجواد يسن
من وجهة نظر بعد حداثية، تبدو الأيديولوجيا ضرباً من الميتافيزيقا شبيهاً بالدين، فهي تقدم تفسيراً كلياً يحمل نفساً توجيهياً، وتعد بنوع من الحياة الثانية أو الخلاص، قابل للتحقق على الأرض في الزمن المنظور. ومن هذه الزاوية يمكن مساءلة الأيديولوجيا عن وعد السعادة الأرضية، خلافاً للدين الذي لم يقدم هذا الوعد خالصاً، وأجَّل تحقيق السعادة الكاملة إلى الحياة الآخرة كنوعٍ من مكافأة الخلاص.
بما هي أفكار تفسر العالم وتستهدف تغييره بوعي سياسي، يمكن القول بأن الأيديولوجيا بدأت انطلاقاً من نقطة تناقض مع الدين. أشير إلى مبادئ وروحية المرحلة التنويرية التي انتشرت في أوروبا عند القرن الثامن عشر. وهي المبادئ والروحية التي ستسفر في القرن التالي عن تبلور مفهوم الأيديولوجيا بالمعنى الضيّق، خصوصاً بعد ظهور «الاشتراكية» كحزمة أفكار منظمة في إطار نظري، يقابل «الرأسمالية» التي كانت قد توافرت على إطارها النظري في وقت أسبق.
فكرة الوعد الأرضي تثير التساؤل عما إذا كان الدين أكثر «واقعية» من الأيديولوجيا في التعاطي مع «الواقع» الإنساني. لقد ولدت الأيديولوجيا في سياقات التفاؤل التي أطلقها التنوير حول قدرة العقل والعلم التجريبي على الوصول إلى قانون موحد لفهم الكون والإنسان، يتيح السيطرة على الطبيعة والاجتماع، ويكفل إشباع الحاجات البشرية المتنامية.
لا يمكن القول بأن الأيديولوجيا فهمت السعادة بمعناها المادي المحض. ومع ذلك فهي اشتغلت أساساً على المطالب الأرضية الدنيوية للإنسان التي تبدأ بحاجاته المادية المباشرة وأظهرها الحاجة إلى الطعام والشراب. خلافاً للدين الذي يشتغل كغرض أولي على حاجاته السماوية المؤجلة، ما يعني التقليل نظرياً من أهمية الحاجة المادية، ويعطي لمفهوم السعادة الأرضية ذاته بعداً معنوياً أوسع (أقل حسية).
في خدمة الإيمان
خلافاً للأيديولوجيا، لا يعرض الدين «للجوع» بما هو «مشكل» إنساني اجتماعي يلزم التصدي لحله، أو يمكن النقاش حول قابليته للحل، بل بما هو معطى تفصيلي يخدم فكرة الإيمان: الجوع احتياج يكشف عن ضعف الإنسان أمام الله، ويجب أن يكشف عن احتياجه الدائم إليه. ويستخدم التجويع من قبل الله كابتلاء أو تجربة للاختبار «لكي يذلّك ويجرّبك ليعرف ما في قلبك، أتحفظ وصاياه أم لا؟ فأذلك وأجاعك وأطعمك المنَّ الذي لم تكن تعرفه ولا عرفه آباؤك، لكي يعلمك أنه ليس بالخبز وحدة يحيا الإنسان» (تثنية 9:2،3)، «وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ * وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ» (البقرة 155). ويستخدم التجويع أيضاً من قبل الله كعقوبة على الكفر «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ» (النحل 112).
الشعور الناجم عن الجوع مطلوب ديني لأنه يقرب الإنسان من الله، ومن هنا يظهر الصيام كشعيرة تعبد متكررة، وتظهر في أشكال الجوع الاختياري المعروفة في ممارسات التدين المتعددة التي تصدر عن سياقات لاهوتية مختلفة. يقدم الدين غذاءً تعويضياً مصدره الروح: «طوباكم أيها المساكين لأن لكم ملكوت الله. طوباكم أيها الجياع لأنكم تشبعون» (لوقا 6: 21، 22). «أنا هو خبز الحياة، من يقبل إليّ فلا يجوع، ومن يؤمن بي فلا يعطش أبداً» (يوحنا 6: 35).
ومع ذلك تعود النصوص فتقر بحكم الواقع، حيث يمكن للجوع أن يؤثر سلباً على الشعور بالإيمان «لا تعطني فقراً ولا غنى، أطعمني خبز فريضتي، لئلا أشبع وأكفر وأقول «من هو الرب»، أو لئلا أفتقر وأسرق واتخذ اسم إلهي باطلاً» (أمثال 30: 9).
بحسب سفر التثنية ستواصل حضور الجوع في العالم «لأنه لا يفقد الفقراء من الأرض» (15 : 11) . لكن النصوص لا تقدم حلاً لمشكل الفقر إلا من خلال الحض الأخلاقي على البر بالفقراء وإطعام المساكين، فهو واقعة طبيعية (فردية غالباً) ذات علاقة بالتقوى. لا تعرض النصوص للفقر بما هو مشكل «اقتصادي» دائم في الاجتماع الإنساني العام، أو بما هو مشكل «اقتصادي سياسي اجتماعي» متكرر على مستوى المجتمع أو الدولة المعنية بالديانة. وذلك على الرغم من انغماس الديانة الصريح في دائرة الاحتياجات المادية للاجتماع من خلال شريعة تفصيلية أوسع من قانون الأخلاق الكلي. وهو الانغماس الذي يكشف عن الطابع الأيديولوجي للدين (التاريخي)، ويبرر طرح السؤال في مواجهته عن إشكاليات الواقع الاجتماعي.
ضمنياً، يستنبط العقل الديني (المعاصر) من النصوص أن الفقر لا يرجع إلى نقص الموارد الطبيعية، بما يعني تبرئة «الطبيعة» أي الإرادة الإلهية من المسؤولية، وإسنادها إلى السلوك البشري، الذي لا يحسن الإنتاج ولا التوزيع ولا الأخلاق «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ * وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا* إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» (سورة إبراهيم 32 : 34).
رغم أن الديانة التاريخية تقدم نفسها كمنظومة أوسع من قانون الأخلاق، إلا أنها تحيل المشكل على هذا القانون. ومع ذلك فهو يظل من الناحية الواقعية – قاصراً عن التعاطي مع مشكل الجوع بتجلياته الفردية، والمجتمعية، والدولية على السواء. وفي هذا السياق تظهر الصعوبات الجمة التي تواجه القانون الأخلاقي لاختراق الحواجز الأنانية التي تصنعها فكرة السيادة على المستوى الدولي، والتي تحول دون تكون مجتمع إنساني كوني واحد. هذه الوضعية القديمة موروثة من تاريخ الدولة الطويل الذي لعبت الديانة التاريخية دوراً في تثبيته.
الاشتراكية والرأسمالية
اعتبرت الاشتراكية الفقر منتجاً رأسمالياً بالضرورة، فيما اعتبر الفكر الرأسمالي الاشتراكية مجرد دعوة إلى المساواة في الفقر، وعلى أرض الواقع لم تنجز الرأسمالية وعد الرفاهية، ولم تنجز الاشتراكية وعد العدالة، وبات واضحاً أن الأيديولوجيا، رغم واقعية أهدافها قياساً إلى الدين، لم تتمكن من الإحاطة بالكلّيِّ، أعني لم تستطع أن تكون نظاماً كونياً يستوعب واقعتي التنوع والتطور داخل العالم، وظلت مجرد أطروحات إقليمية وتاريخية تعكس السياقات الاجتماعية الخاصة التي أنتجتها (السياقات التي انتهى إليها التطور الاقتصادي في القرن التاسع عشر الأوربي بالذات).
ستدخل هذه الملاحظة في حيثيات الحديث عن أفول الأيديولوجيا الذي أخذ يتردد في منتصف القرن العشرين، في إطار النقاش النقدي المتفاقم حول مفردات «الحداثة» ومصداقيتها إجمالاً. في البداية كان الحديث عن «نهاية الأيديولوجيا» يعني نهاية الشيوعية بوجه خاص بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية في شرق أوروبا، فيما بدا انتصاراً نهائياً للرأسمالية الغربية. ولكن سرعان ما ظهر أن النقد ينصب على الأيديولوجيا في ذاتها كمفهوم. مفهوم ينطوي على دوجمائية شمولية ذات طابع مثالي وخطابي، يستمد مادته من ماض متغيّر أو من مستقبل مفترض، ومن ثم فهو لا يتناغم مع خصائص العقل التقني المعاصر الذي يستمد وعيه من حاجاته الآنية الحاضرة. بالنسبة إلى هذا العقل بدت الأيديولوجيا الخائبة نسخة علمانية من الدين، محملة بشحنة حماسة زائدة. ومع ذلك ظلت الرأسمالية المنتصرة تقدم نفسها كنموذج أيديولوجي قابل للتعميم تأسيسًا على نجاحاتها الإقليمية في عدد محدود من المجتمعات الصناعية، وذلك عبر الترويج لخطاب العولمة التي لا تزال تداعب مخيلات الشعوب بوعد الرفاهية الرأسمالي. وهو خطاب أيديولوجي بامتياز رغم الأدوات التقنية ذات الطابع العملي الذي تستخدم في تمريره. لكن بصرف النظر عن جدوى النقاش حول نهاية الأيديولوجيا أو تحولها إلى صورة جديدة كما ذهب هايدجر وهابرماس، صار واضحاً -بالنسبة إلى قطاع كبير في الفكر المعاصر على الأقل– أن الأيديولوجيا التاريخية، التي اشتغلت بشقيها على الجانب الاقتصادي للاجتماع، لم تقدم حلاً لمشكل الفقر على المستوى الكوني. وهو المشكل الذي يتفاقم بوتيرة متصاعدة رغم تطور التقنيات العملية والتكنولوجية التي صارت تمثل، حسب هابرماس الشكل الجديد للأيديولوجيا. حسب هذا القطاع الكبير من الفكر المعاصر، لا تُسأل الأيديولوجيا عن مشكل الفقر من زاوية عجزها عن إنجاز وعودها فحسب، بل أيضاً بوصفها سبباً في تفاقم الجوع: فوفقاً للتقارير الإحصائية المتأخرة حول الجوع، يرجع تزايد الجوع في العالم مجدداً إلى سببين: النزاعات، والتغيّر المناخي. وحسب هذه التقارير تزيد نسبة انتشار الجوع في الدول المتأثرة بالنزاعات عن نسبة انتشاره في الدول الأخرى بما يصل إلى 44% وهي زيادة تقع مسؤوليتها غالباً على الأيديولوجيا التي تكمن خلف معظم أسباب النزاع في العالم المعاصر. (جزء واضح منها يرجع إلى «أدلجة» الدين على نطاق واسع).
ولا تزال ذاكرة المجاعات الكبرى في القرن العشرين تشير إلى مجاعة الصين الشيوعية (التي أودت بأكثر من 30 مليون شخص) كنموذج للمجاعة الأيديولوجية، عندما أجبرت سياسات ماوتسي تونج الصينيين على التخلي عن العمل في الزراعة والتحول إلى إنتاج الفولاذ، بهدف تحويل الصين إلى مجتمع صناعي هائل في قفزة واحدة.
مساوئ الثورة.. الثقافية
في 16 مايو 1966، دشن الزعيم الصيني ماو تسي تونغ ثورة البروليتاريا الثقافية الكبرى. حذر ماوتسي تونغ آنذاك من أن من أسماهم بممثليّ البورجوازية قد اخترقوا الحزب الشيوعي، وأنه سيعمل على اجتثاثهم. وكان إعلاناً مزّق المجتمع الصيني. دعا الرئيس ماو الشباب بعد الإعلان عن ثورته الثقافية أن يقوموا بالانقلاب على الزعامة الشيوعية في البلاد. واستجاب لدعوته ألوف الشباب الذين عُرفوا فيما بعد باسم الحرس الأحمر. وغرقت الصين في الفوضى التي راح ضحيتها مئات الآلاف، وجرى تعذيب الملايين، وتخريب جانب كبير من تراث الصين الثقافي. وبنهاية عام 1968 كانت الثورة الثقافية قد جعلت الصين على شفا حرب أهلية.
في أعقاب الثورة الثقافية واجهت الطبقة الحاكمة مشكلتين جوهريتين. كلتاهما مثّلت تحدياً كبيراً لإستراتيجية ماو لتطوير الاقتصاد الصيني.
الأولى: كانت مهمة إعادة بناء الحزب وأجهزة الدولة.
والثانية: كانت الاقتصاد. كان واضحاً أن فترة طويلة من السياسات الاقتصادية الليبرالية كانت ضرورية ببساطة لإصلاح الخراب الذي حدث خلال الأعوام القليلة التي انقضت.
وكان العلم والتكنولوجيا الصينيين أكبر ضحايا الثورة الثقافية. ففي خلال أربع سنوات لم يتخرج طالب واحد، بينما قضى معظم العلماء الصينيين تلك الأعوام ينظّفون الشوارع ويزرعون الأرز.