أسماء جزائري
يشبه جوزيف كولنز اللوم الذي نلقيه على الطبيعة عن مشكلات من صنع البشر، بقوله «في العالم يوجد على الأقل 500 مليون من البشر سيئي التغذية أو جائعين، هذا الجوع يوجد في مواجهة الوفرة وهنا تكمن الإهانة، وبذلك ستعد صناعة الأسباب الوهمية للجوع السائل مجرد تقديم نوفوكايين للأرواح القلقة كما عبر عنه الكاتب بيتر كوللير.
ما بين رفض الإرادة وفرض الإرادة مسافة وجودية معتلة كالتي يحملُها الصلب أمام السائل ما بين الجوع والتجويع، فإن كان الزهد هو صيام لاهوتي عن الحياة بتجويعها، فإنه ليس إلا رفضاً للإرادة وسعياً لوأدها طوعاً برفض الأشياء المحببة في الحياة عن طريق إذلال النفس بالمشقة تحت مصطلح «التعفف ومجاهدة النفس».
استخدم شوبنهاور مُصطلح «الزهد» ورفض الإرادة كمترادفين، وكان أعنف شكل من أشكالِ هذا الزهد هو الانتحار الطوعيُ بتجويع النفس الذي قال بأنه الشكلُ الوحيد من الانتحار المحصن ضد النقد الأخلاقي. وختم شوبنهاور المجلد الأول من «العالم إرادة» وتمثلا بشرح منظُور الزاهد المُنسحب «المنتصر» على العالم، وبهذه النظرة التشاؤمية الرومنسية كما سماها نيتشه أصبح القهر النفسي مقوداً للعدمية ولإرادة العدم بدلا عن «ألا أريد على الإطلاق». ويزعم نيتشه في معارضته لشوبنهاور أن فلسفته هي تشاؤم القوة، وأن إقبالنا على الحياة «بنعم» بوعي تامٍ لما في الوجُود من فظاعة، ومعاناة، وبؤس، وشر، وبشاعة، وعبث هو اعتراض على الشكل الملتوي للتفاؤل أيضاً، وهكذا وضع نيتشه رؤيته الديُونيسوسية بأن قال «نعم» في وجه «لا» شوبنهاور. لكن ماذا لو لم يكن شيء حتى نصوم عنه، مثلا هل نطلق على الذي يعاني الجُوع «صائما وزاهدا» وهو يجمع ما بين الديونيسوسية النيتشوية والتشاؤمية الرومنسية لشوبنهاور؟ هنالك جوع للعاطفة وجوعٌ للفكر لكن هل يُمكننا أن نشعر بالجوُع لكل هذا ونحن نعاني من سوء التغذية؟ هل يمكننا أن نقُول إننا أحرار الإرادة ونحن لا نمتلك حق التصرف في أمعائنا؟
تساُؤل معتل
يجُوع الإنسان عاطفياً وهو مُحاطٌ بالكثير من الذين يُحبُونه، يجوعُ لجوابٍ عن تساُؤل معتل لم يفهمه بينما تُحيط به الكتب والمكتبات، يجوُع إلى التخلص من ذلك الاندفاع اللامبرر للقتل، بينما يتوسط منزله المسارح والمتاحف الفنية، يجُوع إلى «الله» بينما يعيشُ يومياً بين المساجد والكنائس، ويجُوع جدا في عالم يملكُ فائضاً من الأغذية، فالجياع يظلون جياعاً فقط لأن قانونًا إجبارياً يُجيد صناعة الوهم عن طريق خطر النُدرة والانفجار السُكاني والشبع الخالد، واختراع الشريك الأبدي للحد من التطفل على أخلاقيات صناعة الجُوع، وعن طريق إحراق المزيد من قوة الإرادة لصالح إرادة القوة، فكل ما يحتاجه الإنسان يتحول إلى سلاح يقضي عليه.
إننا كائنات تجُوع ولا تستطيعُ أجسادها تصنيع أغذيتها من تلقاء ذاتِها، ومن ثم فإن لنا قابلية التراجع عن الإرادة، نعم، يجُوع الإنسان من أماكن عدة، ولذلك فإنه يأكل عن طريق أفواه عديدة، لهذا يمُوتُ جائعاً للحياة أو لله أو لوجبة، إنه كائن تسيلُ منه كل احتياطاته ويتآكل في الطبيعة مثلما يتآكل الطلاء على الجُدران جراء الرُطوبة. هنالك متسع للموت مادام ثمة متسع للحياة، هنالك متسع للأكل «المعدة» مادام هُنالك متسع للجوع، وهنالك متسع للجُوع مادام ثمة متسع للأكل. ولهذا علينا دائماً التفكير في الحياة بشكلها التراجيدي والذي يتمثل في أنها مُستعدة دائماً للتخلي عنا بدل الحفاظ علينا إذا ما تعلق الأمر بكائن يتم استبداله في الطبيعة عن طريق ولادة آخر من جنسه، فلا يوُجد اختلال في هذه الطبيعة بموت جماعة من الناس مادام هُنالك جماعة أخرى في الطرف الآخر من الكون ستولد، هكذا أصبح الموت حلاً إذا لزم الأمر.
جغرافية الجُوع
لكن لماذا؟ لماذا يجُوع الناس بينما لا تتوقف المصانع عن تعليب الأغذية والمزارع عن حصد المحاصِيل؟ لماذا يموت الإنسان جوعاً ثم يُدفن على أرض خصبة صالحة للزراعة؟ لماذا يجُوع الإنسان القادر على سد جوعِه؟ إن جوع الإنسان هو الأهم لأنه لا يعطل الكثير من الأجهزة الحيوية لعدالة اللاعدل.
ينوه فرانز فانُون لضرورة معرفة الآليات التي تُحافظ على الاستقلال وكيفية مجاراة الشكل الجديد من الاستعمار، والتفطن لحيل الاستغلال الرأسمالي التي تصب لتكريس جغرافية الجُوع مكان جغرافية الاستعمار، فوقوع الشيء يجعل من السؤال وهماً آخر يوقع بنفسه في جُوع عدم معرفة الإجابة لا بغرضِ عدم الإجابة بل بتجنب الحقيقة، فحينما يصنع الناس لأنفسهم وهم الجُوع لشيء ما رغم أنه في متناولهم، فهم لا يريدُون أن يروه فحسب، وبذلك ستكُون الأسئلة ذاتها تتضور جوعاً. أن يولد الإنسان وهو يُنكر موضع الإشارة ليتجنِبها، يسمح بذلك لتمادٍ ما بأن يحتل صدارة الشبع، وجوع الإنسان للحقيقة الغائبة عن متناول رؤيته سواء غياب واهِم نابع عن إدراك أو حقيقي نابع عن عدم الإدراك هو قيام الكثير من مصانِع الإشاعة بطبع وتصنِيع المزيد من الأجوبة التحايلية التي ستصبح مستقبلا حقيقة مزيفة. فاختراع الحقائق وجه من أوجه انتشار مجاعة «ماذا يحدث» بتدمير منابع التغذية الحقيقية للصورة الأم المختطفة لا بفعل الغلق عليها واستبعادها بل بصناعة التشتيت والحقائق المزيفة من حولها، وبذلك يستطيع الإنسان الهروب بالدهشة حينما يتعلق الأمر باكتشافه أن كل ما كان يبحث عنه لسد جوعه كان بالقرب منه مثله مثل الذي يتضور جوعاً وينسى خبزه في الثلاجة. فالإنسان يجد نفسه أمام وجبة وهمية تُشبع معدة خالية لم يتم القضاء عليها وذلك باستمرار صوت الأمعاء بالتصاعد، وما بين جوع الذات وتجويعها يقفُ خيط رفيع من الهروب، الهروب للأمام أو منه.
أعطني خبزا..
استهل صاحب الثلاثية الرائعة «الدار الكبيرة، الحريق، المندول» محمد ديب بجملة: «أعطني خبزا» حتى يُعلن منذ البداية: أن للجُوع دور البطُولة ومركز دوران الأحداث رمزيا، حيث كان يغير فقط الأسماء في «دار سبيطار» المكان الذي سيُلتهم فيه الإنسان لا عن طريق الأسلحَة المعدنية بل الأسلحة الخضراء. إنها صرخة عنف في وجه إرادة الإبادة الاستعمارية بغرض إذلال الأفراد، وهي طريقة عسكرية قديمة مورست على الشعوب، فإن لم يموتوا وهم يدافعون عن كرامتهم فإنهم سيستسلمون وهم بلا إرادة. و«عمر» بطل الرواية ما هو إلا تمثيل لجيل كامل سينشأ بلا أحلام كبيرة حينما يكون سقفُها «خبزة». ومن ثم فإن صناعة وهم الشبع بالتحايل على الأنفس الميتة لا تلك التي كتب عنها نيكولاي غوغول بل تلك التي كتب عنها محمد ديب عن طريق سد الأفق رمزياً يُصبح ضرورة للخُروج من عُنق السؤال الذي بدوره يعاني سوءاً في تلعثم حقيقته. ففي أحد المشاهد الأكثر تراجيدية تقُوم «عيني» والدة البطل عمر بصب الماء في الحلة المعدنية ليظل يغلي طيلة وقت العشاء المفرُوض إلى غاية ما يأخذ النوم أطفالها بدل أن يفعل الجوع. لقد كانت تهربُ بهم في الوهم وكلما أطالوا الانتظار استيقظوا على لوم الذات. «النوم» أفضل لهم من النوم على حقيقة «المغلوب التاريخي»، ومن حيث لا تدري «عيني» كان موقفها عبارة عن مواجهة للموت بحرب نفسية. «الموت النفسي» لا يمكن أن نقُول إنها غلبته لكنها أجلته مادام هؤلاء الواهمون «أطفالا» يستيقظون من النوم ولم يستيقظوا بعد من طفولتهم، لهذا فالحديث عن الجوع هو حديث بيولوجي وحديث عن الحاجة كحق مشروط لجدلية «الصراع على البقاء». أما الحديث عن التجويع فهو حديث أيضاً عن الصراع على البقاء لكنه حديث عن ممارسة العُنف لأجل هذا الصراع الأزلي.
«حينما يظهر العنف تختفي السلطة» هكذا حدثتنا حنة أرندت في كتابها «في العنف» الذي تناول مفاهيم تعارض النظرة الكلاسيكية التي تناولت الموُضوع الحيوي الملازم للتاريخ البشري، ومن ثمة فالتجويع كعنف ناعم أو ما يطلق عليه السلاح الأخضر مفهوم ممتد لتلك الأفكار التي تطوِر تقنياتها وأدوات ممارستها بصناعة الأمان الشمولي الذي تغلب فيه عملية التضحية بالبعض لأجل وهم البقاء للعرق البشري، في حين هو بقاء محصور في الآخرين نفسهم، ورغم أن هذه الطريقة العنيفة كانت حاضرة منذ العصُور الوسطى في حالتها الصلبة، إلا أنها أخذت في الذوبان تحت شمس المؤشرات لتحقيق المصلحة الكونية. وبينما يُعتبر «الجائع» في الحالة الطبيعية مصدر سُلطة تجعل المسؤولين عن مصادر الغِذاء يوفرون له حق تناول الوجبة امتثالا لهذه السُلطة الأخلاقية عن طريق توفير عمل يؤدي فيه الإنسان واجبه ليستطيع الحُصول على أوراق نقدية تسمح لحقه بالوصُول، إلا أنها ساهمت في رعاية معدلات البطالة ومن ثم الحِفاظ على مفهوم «الجياع» في حالته الاقتصادية، ففي ظل انتقال الجُوع من الحالة الصلبة إلى الحالة السائلة «المجوَع» فإن تلك السلطة تختفي نهائياً لأن العنف في عمقه هنا يرتبط بالتحايل والضبط، أو التطويع الاجتماعي، التخدير الإيديولوجي، وتبعاً لمقاربة أرندت الظاهراتية الفينومنولوجيا ترى أن العنف يعبر في كثير من الأحيان عن مشاعر لا ترتبط بالضرورة بالسياسة: كالخوف من الموت والفناء، والبحث عن الخلود عن طريق استمرارية الجماعة. ويظهر العُنف المضاد للسلطة عند غياب الحرية التي تعني «القدرة على الفعل»: أن آكل مثلاً أو أن أُبقي الجائع صامتاً، أو القُدرة على التأثير.
الاستهلاك والفجع
فهل الجائع محكُوم عليه بالجُوع الأبدي؟
إن الاستحواذ اللامشرُوط لحرية الذات في ظل عولمة تخلق لكل جوع سماء، ولكل إنسان رحمة تحت بيانات المعالم وأسعار البوُرصة. فالجائِع ليس قائمة من الأسماء الثابتة نساعدها لجعل العالم أكثر تصالحاً مع أعطابه، هو مُعدلات اقتصادية، حلقة ضمن عجلة حتمية في ظل التغول، ثيمة ردعية للمزيد من السيطرة وقابلية السيطرة. ففي كتاب «صناعة الجوع» لمؤلفيه جوزيف كولنز وفرنسيس مور، تظهر جلياً هذه الصناعة المُربحة بكل عيوبها، وتقف على إمكانية تحويل أزمة الغذاء العالمية من الساحة السياسية الاقتصادية إلى أرضية الأخلاق الفردية عن طريق مُقارنة الاستهلاك هنُا بالحرمان في الأماكن الأخرى، وتحميل المعاناة المأساوية لكلا الطَرفين. ويعُطي الكاتب مثالاً «أن كمية الأسمدة المُستخدمة في مُروج الولايات المتَحدة وملاعب الجُولف فيها وساحات مقابرها يُعادل كل السماد الذي تستخدمه الهند لإنتاج الغذاء» ولا مناص عندئذ من أن يشعر المُستهلك ببعض الخجل من إسرافه الذي سيعكِس بالضَرورة إخفاقاً أخلاقياً بدل أن يكون اقتصادياً. وصناعة الجُوع تقابلها صناعة الإسراف، وكما يُراد للجائع أن ينتمي لدائرة الضحية فإن المُسرف سيحملُ تهمته.
لكن هل يختفي الجُوع إذا وُفر الأكل لكل سكان العالم؟ تبقى الكثير من المسائل عالقة لا لأنها لا تنزل على حل نهائي، بل لأن كل حل نهائي هو ذريعة لخلق وجه آخر مثل الجُوع، لذلك كلما أغلقنا ثقباً في جدار، أحدثنا بالضرورة ثقباً آخر في الجانب الآخر منه، لأن الجُوع الحقيقي يستطيع أن يلم بأصحاب البُطون الممتلئة أيضاً، فالحرمان من الطعام لا يعني فقط شعوُرك بمعدة فارغة، لأن وحدته لا تستطيع أن نحسبها فقط بقياس الوحدات الحرارية أو العتبات التي تعطينا حركة الحاجة، لأن هنالك المصابين بالأنوريكسيا (فقدان الشهية) والنسّاك والمضربين عن الطعام. فالصوفيون الجائعون لله يجدون في التوقف عن الأكل طبقا يغترفون منه ليقربهم من الشبع اللاهوتي. هنالك من يشتد به الجوع رغم تناوله ما يكفي من السعرات الحرارية، كما في إمكاننا الأكل دون الشعور بالجُوع لنخلق حالا يُطلق عليه البوليميا (الشره المرضي) الذي خلق فجعاً ذائع الصيت في التاريخ البشري، وبينما كان الفجع سابقاً شأنا شخصياً، أصبح اليوم شأناً عالمياً «البدانة» لأن الكثير من الوجبات الخفيفة المتناسلة تورطنا داخل عدم الانقطاع عن الأكل، كما لو أن كل شيء يرجئ الشبع إلى ما لا نهاية.
الندرة والوفرة
انتشرت أسباب تحايلية حول مسألة الجوع، منها الفكرة البسيطة التي جاء بها العالم جاريت هاردن «قارب النجاة» القائلة بأن الأرض تشكل الآن قارب نجاة ليس فيه من الطعام ما يكفي الجميع، ومن المنطقي حسبه أن يذهب الطعام إلى من يتمتعُون بأكبر فُرصة في النجاة، وألا نخاطر بسلامة الجميع بإحضار ركاب جدد. ماذا يحدث إذا اقتسمت المساحة في قارب النجاة؟ وهكذا يسأل الدكتور هاردن ويجيب «يغطس القارب، ويغرق الجميع، العدالة المطلقة تعني الكارثة المطلقة، وبهذا التشخيص تم توسيع دائرة وهم الندرة بمنطق «بشر أكثر مما يجب وأرض أقل مما يجب».