إميل أمين
هل كان الفيلسوف ورجل الدين الإنجليزي الشهير «روبرت مالتوس» على حق حين أشار إلى أن عدد سكان العالم يزداد بمتوالية هندسية، وموارد الأرض تتصاعد بصورة عددية، ما يعني أن احتمالات حدوث المجاعات هو الأقرب بالنسبة للبشر على سطح الكرة الأرضية، أولئك الذين سيبلغ عددهم نحو تسعة مليارات نسمة عام 2050؟ لعل علامة الاستفهام الأكثر تخصيصاً وتحديداً: هل نصيب العرب، ومن أسف شديد، من الجوع القائم والقادم سيكاد يزعج القاصي والداني؟
ربما يكون مالتوس محقاً بدرجة أو بأخرى، غير أن واقع الحال يخبرنا بأن هناك عوامل أخرى تساعد على شيوع وذيوع الجوع، حول العالم في العقود القادمة، ولن توفر الظاهرة المؤلمة العالم العربي دون أدنى شك.
يمكن القطع بداية، بأن معضلة الجوع ليست إشكالية اقتصادية بقدر ما هي أخلاقية، بعد أن بات إطعام الأثرياء طريقاً إلى تجويع الفقراء، على حد تعبير الكاتب البريطاني الشهير «باتريك سيل»، في مقال أخير له جاء تحت عنوان «العالم مهدد بخطر المجاعة».
وفي دراسة حديثة أجرتها الباحثة الاقتصادية «هليجا لاروش»، زوجة عالم الاقتصاد الأميركي «ليندون لاروش» ونشرت عبر موقع «انتلجنس ريفيو»، نجد أن علامات كارثة إنسانية لم نشهد لها مثيلاً من قبل، شاخصة أمامنا اليوم كالنبوءة، ومن أسف شديد فإن الويل القادم سيدمر الإنسانية برمتها، إذا لم تنجح الحكومات حول العالم في التحكم فيها بسرعة.
لكن كيف لها أن تفعل ذلك والتهديد الإيكولوجي بات سيفاً مسلطاً على رقاب البشر؟ ونعني بهذا التهديد المناخي، ذاك الذي ستعاني الأرض ومن عليها بسببه تغيّرات جوهرية في أحوال الطقس، بدأت بالفعل بظاهرة الاحتباس الحراري من جراء الأضرار التي لحقت بطبقة الأوزون، الأمر الذي أدى إلى قلّة سقوط الأمطار، وتالياً تصحر الأرض، وجفاف التربة، ما يعني انعدام المحاصيل الزراعية.
أما عن الظواهر الأخرى المهلكة فحدث ولا حرج عن ظاهرة النحر، أي اقتطاع البحر لمساحات وافية من الأرض بسبب ارتفاع منسوب البحار، الناتج عن ذوبان كتل ثلجية هائلة من القطبين الشمالي والجنوبي دفعة واحدة.
في هذا السياق توجه الكثير من أصابع الاتهام إلى الولايات المتحدة الأميركية بشكل خاص، ومرد ذلك انسحاب الرئيس دونالد ترامب من اتفاقية باريس للمناخ، واعتبار أنها تضر بمصالح الاقتصاد والصناعة في الداخل الأميركي، فيما الحقيقة هي أن الرئيس الأميركي وضمن دائرة الضغوط التي يتعرض لها، تأتي جماعة الفحم والكربون المستخدم في المصانع والذي يؤدي إلى تلوث البيئة بشكل غير مسبوق، لكنه من ناحية أخرى يحقق أرباحاً طائلة لرجال الأعمال الأميركيين، لا يريدون التخلي عنها.
ولعل أميركا باتت مسؤولة بنوع خاص عن «جوع العالم المعاصر»، فقد أضحت تفضل مصالح نفعية ضيّقة، على إشباع الأفواه الجائعة.. ماذا نعني بما تقدم؟
جريمة
المؤكد أن أحد مسببات الجوع في العقدين الأخيرين، استخدام الغذاء من أجل إنتاج الوقود الحيوي للسيارات، الأمر الذي بات يشكل «جريمة ضد الإنسانية»، فمن أجل أن يملأ البعض خزانات سياراتهم بالبنزين، لاسيما (الإيثانول)، بات يتحتم على الشعوب في العالم الثالث أن تموت جوعاً.
في هذا النطاق والذي هو عار العالم الذي يصف نفسه بأنه متقدم وطليعي للحصول على حقوق الإنسان، تضحى الأنانية المفرطة أداة قاتلة وإبادة جماعية غير مباشرة للفقراء في الكون، ولهذا فإننا نرى الاضطرابات حول العالم، والتي تنتج عن يأس مطلق من قبل أناس يخافون على حياتهم، ولأن الموت يتهددهم، فلا حيلة لهم سوى الخروج إلى الشارع، والدخول من ثم في صراعات أهلية.. هل ما نراه في فنزويلا مؤخراً ترجمة حقيقية لهذا الحديث؟
في الأسابيع القليلة المنصرمة أعلنت الأمم المتحدة أن ربع سكان فنزويلا، أي سبعة ملايين نسمة، بحاجة لمساعدات إنسانية وغذائية، وسط تفاقم سوء التغذية والأمراض. وتقارير الأمم المتحدة عن فنزويلا تحذر بأن المجاعة قادمة هناك لا محالة، إذا ظلت الأوضاع متأزمة والصراع متفاقم، على النحو القائم حالياً، سيما وأن أكثر من 94% من سكان فنزويلا يعيشون الآن تحت خط الفقر. وبلغة الأعداد، فإن استهلاك اللحوم والخضراوات انخفض بشكل كبير بين عامي 2014 و2017، كما انخفض استهلاك الحليب بنسبة 77%، فيما 3.7 مليون شخص يعانون سوء التغذية الذي صار آفة تصيب 22% من الأطفال من دون سن الخامسة.
يتأتى الجوع حول العالم من الجشع المالي والاقتصادي، ومن الذات المتضخمة، ومن السعي الآثم للسيطرة على العالم، من دون شراكات حقيقية وعدالة في توزيع ثروات الأرض، ولهذا فإننا من دون شك في بدايات المخاض لجوع عالمي غير مسبوق، مادامت سياسات الدول الغنية هي منهج التجارة الحرة، والعولمة المختلّة، حيث تجد كارتيلات الغذاء والحبوب والمضاربين في البورصات العالمية، يستغلون الوضع الناشئ عن تصاعد أزمة النظام المالي والنقدي العالمي، من أجل زيادة أرباحهم ولتغذية التضخم في الأسعار، من دون أن يجني الفلاحون أي ربح من ذلك، وحال استمرار البنوك المركزية في أوروبا والولايات المتحدة في ممارساتها عبر استخدام مدخول الضرائب والأموال العامة في محاولة لتعويض خسائر المضاربين والبنوك الخاصة، فإننا سنرى تضخماً فائقاً على غرار ما حدث في ألمانيا عام 1923، ولكن هذه المرة في كل أرجاء العالم.
فشل
يذهب البروفيسور «راي بوش» أستاذ الدراسات الأفريقية، وسياسات التنمية بجامعة ليدز بهولندا، في كتابه «هل الليبرالية الجديدة وراء فقر فقراء العالم»؟ إلى أن أكبر إهانة في القرن الحادي والعشرين، هي وجود أناس يموتون من الجوع، وفي جنوب الكرة الأرضية يوجد نحو 89 مليون شخص يعانون من سوء التغذية المزمن والحاد.
مع حلول العام 2005 أضحى من الواضح أن الهدف الأول من الأهداف التنموية للألفية والمتمثل في محو الفقر المدقع والجوع لن يتحقق.
من بين ما تم استهدافه في إطار ذلك الهدف من الأهداف التنموية للألفية تقليل نسبة البشر الذين يعانون من الجوع إلى النصف بين عامي 2000 و2015، ومن الأكيد أيضاً أن الهدف الأكثر طموحاً لمؤتمر القمة العالمي للغذاء، الذي أنعقد في 1996، بشأن تقليل عدد البشر الذين يعانون من الجوع إلى النصف بين عامي 1996 و2015، أي من 800 مليون إلى 400 مليون لن يتحقق أيضاً، وكان النمو في عدد السكان يعني أن تحقيق هدف برنامج الغذاء العالمي للأمم المتحدة WFP بالوصول إلى رقم 400 مليون شخص فقط يعانون من سوء التغذية يحتاج إلى تخفيض نسبتهم بمقدار الثلثين، وليس بمقدار النصف.. السؤال الآن هل كان الفشل في تحقيق هذه الأهداف مفاجئة؟
بالقطع لا، فمن سخرية القدر أن الجوع مستمر ومتكرر بينما نحن نناقش المجاعة والأمن الغذائي، فيما معظم المعلقين لا يدركون أن المجاعة جزء أساسي من الرأسمالية الحديثة، أو من الحداثة بوجهها المزعج إن لم نقل القبيح، ورغم أن السعي لتقليل الجوع في العالم أمر محمود، إلا أن المزعج هو أن الاستراتيجية التي القت الأمم المتحدة والمؤسسات المالية الدولية الأخرى بثقلها كله وراها، هي تقليل الجوع إلى النصف بحلول عام 2015 وليس القضاء عليه، وهذا ما لم يحدث.
تفكك
أحد الأسئلة المثيرة كذلك في العالم العربي مرتبط بظاهرة الإرهاب والاضطرابات السياسية التي عرفتها المنطقة منذ العام 2001، والتي أسميت ولو بشكل منافي ومجافي للحقيقة «الربيع العربي»، فهل هناك علاقة ما بين ظاهرة الجوع في ملمحه وملمسه العربي، وبين الصرعات المسلحة التي رأيناها وبخاصة في ظل نشوء وارتقاء الظاهرة الداعشية، والتي لا يظن المرء أنها ستنحل عناصرها سريعاً ودفعة واحدة؟
الذين قدر لهم متابعة الأزمة السورية، يعرفون حالة الجوع الشديد التي ضربت منطقة «مضايا» وما حولها، ولم يكن الجوع إلا انعكاساً لفشل أصاب أصحاب الأمر هناك في بناء دولة تقدمية، يقف فيها الجميع موقفاً متساوياً من القانون، أي الإخفاق في اللحاق بدولة المواطنة، والإصرار على المحاصصة الطائفية والمذهبية، والتي كان لابد لها أن تقود إلى حالة التشرذم والتفكك في السبيكة المجتمعية، وصولاً إلى التناحر، ذاك الذي فتح الأبواب واسعة للإرهاب والتطرف.
لم يتوقف مشهد الجوع العربي المؤلم عند سوريا، بل امتد إلى العراق، وقتما كان الدواعش يعيثون هناك فساداً متصلاً، وبالتحديد مدينة الموصل التي بلغ فيها الوضع الإنساني ذروة مأساته في أبريل (نيسان) من العام 2017، عندما عاشت الهلع والرعب من جراء سيطرة تنظيم داعش على مقدراتها، وحصار القوات العراقية لها، والمعارك الطاحنة التي دارت من حولها هناك.
في تلك الفترة المؤلمة، وجد نحو 800 ألف مدني أنفسهم لا سيما الذين يقطنون النصف الغربي من المدينة العراقية التاريخية، يعيشون تحت وطأة كارثة إنسانية فتكت بهم مع نفاد مستلزمات الحياة الأساسية، وفي ظل اتهامات للداخل والخارج بتجاهل هذه الصورة.
كان المشهد الممزق لنياط القلوب، مرسوماً على محيا الكثير من الرجال والنساء العراقيين، أصحاب الحضارة والمجد، وهم يضعون اللثام على وجوههم خشية معرفتهم أو كشف هوياتهم، يجوبون المواقع التي تتواجد فيها النفايات، ويبحثون فيها للحصول على بقايا الطعام وتنظيفه، ومن ثم تناوله لسد جوعهم وجوع أطفالهم.
ومع الانتصار العسكري على داعش كان تقرير مشترك لبرنامج الأغذية العالمي والحكومة العراقية يشير إلى أن نصف عدد الأسر العراقية معرّض لخطر انعدام الأمن الغذائي، أي المقياس العالمي الذي يستدعي الدعم الأممي، فيما 75% من الأطفال العراقيين دون سن الخامسة عشرة، يعملون لمساعدة أسرهم في توفير الطعام بدلاً من تلقيهم التعليم.
قنابل
ولعل ما لا يفهمه أغنياء العالم وسادته الجدد، هو أن الجوع الناجم عن عدم عدالة توزيع الثروات، أو بسبب الرؤى والطروحات السياسية الساعية للهيمنة على أكبر مساحات جغرافية، إنما هو قنابل موقوتة قابلة وجاهزة للانفجار في أي لحظة، ويمكن لها أن تصيب الجميع من خلال مسارين أحدهما أخطر من الآخر:
الأول، هو التوجه إلى دوائر التطرف والإرهاب، سيما وأن المخزون الهائل من الفقراء الغاضبين يشكل مصدراً هاماً تعتمد عليه المنظمات الإرهابية لتجنيد عناصرها.
والطريق الآخر، هو أن الجوعى لا يخشون الموت، ومن هنا سوف نرى مستقبلاً موجات هائلة ومخيفة من المهاجرين واللاجئين غير الشرعيين الساعين في طريق أوروبا وأمريكا وأستراليا، والحاملين معهم ذكرياتهم المؤلمة تجاه المستعمِر القديم الذي أفقرهم باستغلال ثروات بلادهم وترك لهم الفقر والجوع والمرض كإرث بغيض.
لا يزال الملايين يعانون نقصاً حاداً في الأغذية، وهذه ليست المرة الأولى، فقد شهدنا مجاعات كبيرة في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، والمجاعة عادة ما تكون أحد أعراض الحروب الممتدة، وعندما تظهر المجاعة، فإنها نادرة ما تطل برأسها منفردة، بل عادة ما يصاحبها تدهور في المنظومة الصحية والبنية التحتية والأوضاع الاقتصادية، وهي تحدث عندما لا يتوافر أدنى احترام للكرامة والحياة البشرية.
ولعلاج مثل هذه الأعراض يوصي السيد «بيتر مورير» رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر، بعلاج المرض والوقاية منه، إذ ينبغي دعم تماسك النسيج الاجتماعي والخدمات والمقومات التي يعتمد عليها الناس بشكل استباقي، ولابد أن نعمل على ضمان معاملة الناس معاملة كريمة حتى لا تغذي مشاعر الحقد، والعداء، وعلينا أيضاً العمل من أجل تحسين الأسلوب الذي تشن به الحروب عن طريق تعزيز احترام القانون الدولي الإنساني.
هل يستمع قادة العالم ودعاة العولمة وأصحاب السيادة المالية الاقتصادية الخفية، أم أنهم يصمون أذانهم ليوم القارعة؟
نظرية مالتوس
توماس روبرت مالتوس (14 فبراير 1766 ـ 23 ديسمبر 1834) باحث سكاني واقتصادي سياسي إنجليزي، مشهور بنظرياته المؤثرة حول التكاثر السكاني.
والمعروف أن مالتوس لم يكن أول من بحث في نظرية نمو السكان، فابن خلدون بحث في ذلك منذ القرن الرابع عشر، حيث تحدث عن الصلة الوطيدة بين عدد السكان ومستوى الحضارة، لأن عدد السكان عامل مهم في تقسيم العمل وفي النمو.
وهذا ما أعتقده جميع من جاء بعده من علماء الاجتماع، ولكن فضل مالتوس هو في كونه وضع نظرية متكاملة في السكان وقد فرضها على علم الاقتصاد عندما أشار إلى وجود عامل يجب دراسته إلى جانب الإنتاج والتوزيع والتبادل، ذلك لأن العلاقة وطيدة بين تطور عدد السكان وتطور كمية الإنتاج، ويكون مالتوس بذلك قد أدخل من خلال ذلك عنصري الزمن والحركة في دراسة الفعاليات الاقتصادية في وقت كانت هذه الفعاليات ما تزال تدرس وتحلل على أسس سكونية راكدة، وكان لدخول عامل السكان في صميم السياسة الاقتصادية أن تشكل علم خاص يرتبط ارتباطاً وثيقاً بعلم الاقتصاد وهو علم السكان.
و اعتبر أن عدد السكان يزيد وفق متوالية هندسية بينما يزيد الإِنتاج الزراعي وفق متوالية حسابية كما سيؤدي حتماً إلى نقص الغذاء والسكن. ومن مؤلفاته «بحث في مبدأ السكان» وصاغ فيه نظريته حول السكان والتي أثارت ضجة كبيرة.