محمد قنور
بعد استقلال الهند من الاستعمار البريطاني عام 1947، شهدت معظم مناطق البلاد حركات تحررية فكرية وسياسية من قبضة بقايا المُستعمر. وكانت البنغال أكثر المناطق دعوةً إلى التحرّر بمفهومه الشامل. فخلال الفترة القاتمة التي تلت إعلان استقلال الهند وإعلان التقسيمات الإدارية والسيادة السياسية أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات، عرفت منطقة البنغال تدفقاً كبيراً للنازحين والفارين من ويلات الفقر، مما كان له أثر كبير على النسيج الاجتماعي للبنغال؛ فارتفعت نسب الفقر والجوع والموت.
أثّرت الحالة المزرية للبلاد على تكوين الشباب المثقف من الطبقة الكادحة، فظهرت حركات مناهضة لسياسة الحكومة، لكن، لم يكن نضالها عن طريق العنف، بل بالقلم والورقة؛ حيث أبدعوا شعراً ورسومات فنية تدعو إلى التوزيع المتساوي للثروات. وهكذا ظهرت حركة شبابية نضالية سمّيت «شعراء الجوع»، وهي حركة طليعية في منطقة البنغال.
الفكرة الجائعة
ظهرت حركة الجائعين أو «الجيل الجائع» كحركة أدبية في منطقة البنغال، إذ أطلقت في العام 1961 من قبل مجموعة من الشعراء البنغاليين الشباب. وقد قادها أربعة شعراء وهم: مالاي روي شودوري، وسمير روي شودوري، وشاكتي شاتوبادياي، وديبي روي.
قام الأربعة بصياغة كلمة (Hungryalist)، والتي تعني حرفيا «الجيل الجائع»، من كلمة «جائع» التي استخدمها أب الأدب الإنجليزي جيفري تشوسر في نصه الشعري (In the Swore Hungry Tyme). كما تبنت الحركة فكرتها الرئيسة من الفيلسوف والمؤرخ الألماني أوزوالد سبينغلر، والتي تقول «إن الثقافة المريضة تتغذى على العناصر الثقافية التي تُجلب من الخارج». فشعر هؤلاء الكتاب بأن الثقافة البنغالية وصلت إلى أوجّها ويمكنها العطاء أكثر مما هي عليه؛ لكنها مقيّدة ما دامت تعيش على غذاء أعدته أياد غريبة.
وكما يقول فرانز فانون: «التحرر الحقيقي ليس بالثّورة فقط، بل بالتحرّر من إرث المستعمرِ»، حثّ الشعراء والفنانين من خلال شعرهم ومقالاتهم ولوحاتهم على ضرورة الانسلاخ من جلد المستعمر ليس فقط سياسياً بل أيضاً فكريا ًوثقافياً؛ باعتبار أن فقدان الهوية الثقافية سبب رئيس في الأوقات الصعبة التي يعيشها كل هندي. فأعلنت كلمة «الجوع» كبداية لمعركة ضارية ضد المؤسسة الفاسدة لنزع الأغلال عن الإنسان.
روافد شعرية
هزت الحركة جذور المؤسسة البنغالية الثقافية والأدبية في الهند. فقد أحدثَ الشعراء تغييراً كبيراً في اللغة الأدبية من خلال المفردات المستخدمة والأسلوب واختيار المواضيع. إذ أراد هؤلاء الشعراء إرباك عقل القارئ، الذي كان مليئاً بأفكار استعمارية مسبقة، وإعادته إلى الاهتمام بالثقافة المحلية. وهذا هو السبب في أنها أصبحت واحدة من أكثر الحركات إثارة للجدل خلال فترة وجودها، وبالتالي، واجهت انتقادات كبيرة من الطبقة العليا في المجتمع والحكومة التي خلفها المُستعمر.
انضم إلى الحركة شبان آخرون مثل أوبتال كومار، وبينوي ماجومدار، وسانديبان شاتوبادياي، وباسوديب داسغوبتا، وفالغوني روي، وتريديب ميترا، ليرسخوا فكرة التغيير التي تنطلق من التغيير في الفكر والفن. فاحتفى هؤلاء الشباب باللغة البنغالية وبقية اللغات المحلية مثل المراثية والأساميزية والتيلغوية والأوردية شعرياً، كمحاولةٍ منهم لإحياء التراث الهندي الزاخر والذي طمسه الاستعمار وأتباعه؛ هكذا، تحدّث شعرهم عن المشردين والمهجرين والمهمشين والكدّح، كما استاءت كلماتهم من الحكومة، وتضمنت تحقيراً للشعائر والمقدسات التي تحدُّ من أحلام المرء وتجعلها مجرد أوهام.
وكانت المقبرة حيث يرقد شاعر البنغال الكبير مادوسودان ذات مكان آمن وسري للشعراء للقيام بلقاءات أدبية لمناقشة الأفكار وقراءة الشعر.
تدين الحركة بشدة للحركات الجمالية الغربية مثل «الفن من أجل الفن» و«الفن من أجل تقنية الفن» و«الشكل والفن رمزاً»، كما تدينُ المقلدين لمثل هذه الحركات في الدائرة البنغالية البرجوازية. «فلا يمكن تحقيق إبداع حقيقي من دونِ استخدام المصطلح الأصلي في اللغة الشعرية والأسلوب الفني المحلي»، كما يقول سمير.
وفي بيان «الجيل الجائع»، ذُكرت أهداف الحركة بوضوح: على أنها لا تحاكي واقع أرسطو المثالي، لكنها تنفتح على الجمال بمفهومه الشاسع والملموس، وتحفزُ الأفواه المُخرسة على التّعبير بحرية من خلال تنظيم ندوات مفتوحة عن الإبداع، فلا اختلاف بين فنان محترف وآخر يافع. وترتكز أيضاً على الاعتقاد الذي يقول بأن العدم والوجود مبرران فقط كظاهرة جمالية (Aesthetic-phenomenon)، وتتقبّل الشك واليأس من الواقع، بدلاً من الرضا عن العيش على ما يقدمه الآخر. وتدعو إلى مهاجمة قيّم الحياة المهنية فالإنسان ليس حيوان عمل ليكدح من شروق إلى غروب الشمس. وتدين النفاق المزيف والتملق بغية الوصول إلى مناصب حكومية. وتطالب بإنهاء الاستبداد ونشر الاشتراكية كحل اجتماعي. وإحياء (سوغام سانغيت) أو أغاني طاغور المحلية وتدريسها، وكذلك تقديم دروس لغوية في اللغات المحلية أولاً ثم بعض اللغات الأجنبية، وتأطير الفنانين والشعراء اليافعين.
خنق الصوت
في البدء، حاول النظام منع انتشار كتيّب مطبوع بعنوان «الجيل الجائع»، بيْد أنه فشل في وقف سرعة انتشاره بين الشباب. ثم، صدرت مذكرة اعتقال ضد أحد عشر من الشعراء، بعدما حجزت مقالات وقصائد كثيرة من منزل سمير ومالاي في بّاتنا، وأحرقت أمام الملأ. وبعدها، تمّ تقديم ورقة اتهام ضد مالاي في محكمة بانشكال لدى شرطة كالكوتا في 1965. وحُجزت قصيدته المثيرة للجدل «المسيح الكهربائي الصارم» باعتبارها فاحشة ولا تناسب القيم الدينية والأخلاقية. واقترحَ مدير النيابة العامة لغرب البنغال مقاضاة مالاي بالسجن مدى الحياة.
واتُّهم الشعراء بأنهم دسيسة تخريبية ضد الدولة والقيم العامة. واستمرت القضية لسنوات من المطاردة والاعتقال والترهيب، مما لفتت انتباه العديد من الشعراء من مختلف بقاع العالم مثل: أوكتافيو باث وأرنيستو كاردينال وشعراء (جيل البيتْ) مثل ألن غينسبرغ ولورنس فرلينغتي، فقام هؤلاء بزيارة مالاي روي شودوري في بيته. وطالبوا بفكّ الحصار على شعراء «الجيل الجائع»، وذلك من خلال ترجمة أعمالهم إلى اللغة الإنجليزية ونشرها في العالم الغربي؛ حيث قام فرلينغتي بنشر شعرهم مترجماً في دار النشر سيتي لايتس في سان فرانسيسكو.
أثرت حركة جيل الجوع على الأدب الهندي كليا؛ لتصل إلى كل بقاع البلاد. فتبنّى حزب (الناكساليتس - Naxalites) ـ وهو الحزب الشيوعي الهندي الماركسي اللينيني ـ الحركة، ودعّمها مادياً ومعنوياً. ممّا دفع الحكومة إلى التحرك بعنف وقوة لكسر اليساريين المتطرفين والإمضاء على نهاية الجيل الجائع بعد حوالي عقد من الإبداع المختلف. فهجّر معظم الشعراء إلى بلدان أخرى كلاجئين سياسيين. لكن، ظلت الفكرة تُذكر على أنها واحدة من أعظم الحركات الأدبية البوهيمية المتفردة في العالم.
عواطف مجعّدة
شعر: مالاي روي شودوري*
آه، سأموتُ.. سأموتُ.. سأموتُ
جلدي يحترقُ
ولا أعرف ما سأفعل؟ ولا أين سأذهب؟ آه أنا مريض
سأركل كل الفنون وابتعدُ «شوبها» «شوبها».. «شوبها»
اتركيني وعيشي في شمّامتك المتوارية
في الظل المنحل للستائر المظلمة والممزّقة ذات اللون الزعفراني
***
أحسُّ بالاشمئزاز أكثر من القبلة الوحيدة
وقد نسيتُ النساء خلال واقعة، وعدتُ إلى عروس الشِّعر
وإلى الغيمة الشمسية
ولا أعرف ماذا تعني هذه الأحداث ولكنها تحدث بداخلي
سأخرّبُ وسأهشّمُ كل شيء
وأستهوى وأرقص لك يا «شوبها» بكامل جوعي
***
آه يا مالاي
اليوم، تبدو كالكوتا كموكب مندّى وفاسقة
ولكن، لا أعرف ما سأفعل الآن وما سأفعله بنفسي
قوة الاستعادة لدي تتلاشى
فدعني ارتقي وحيداً إلى الموت
لم يكن واجبا عليّ تعلم الحب والموت
لم يكن واجبا عليّ تعلم مسؤولية إراقة آخر قطرات
الماء
لم يكن واجبا عليّ تعلم الكذب بالقرب من «شوبها» في الظلام
لم يكن واجبا عليّ تعلم استخدام الجلد الفرنسي
وأنا مضطجع بالقرب من «نانديتا»
***
دعيني أنام يا «شوبها» للحظات قليلة في إهابك اللُّجَيْنِيّ المتقد
دعي هيكلي العظمي بخطيئته يغتسل من جديدٍ في تيار دمك الموسمي
دعيني أخلق نفسي في داخلك
هل كنت سأبدو هكذا لو امتلكت والدين مختلفين؟
هل كنت سأكون مالاي في رحم امرأة أخرى لوالدي؟
هل كنت سأصنع رجلا أنيقا مني
دعيني أرى الأرض من خلال وهجك السلوفاني
***
أتذكر رسالة قرار النهاية عام 1956
كانت بيئة جسدك مزيّنة
بشيء كالسّخام في ذلك الوقت
وتنحدر جذور خالصة وباهرة من جبينك
***
سوف أشوّش وأخرّب
وسأبصق الكل في قطع من أجل الفن
لا توجد طريقة أخرى لإخراج الشعر من غير الانتحار
«شوبها»
دعيني أدخل إلى الشبق القصي للشفتين الكبيرتين
في الكلوروفيل الذهبي للقلب الثملِ
***
اليوم، لا شيء أكثر خيانة كما يبدو
مثل المرأة والفن
الآن، قلبي الشرس يركض باتجاه موت مستحيل
وتصل دوخة الماء من الأرض المخرومة إلى عنقي
وسوف أموت
آه، ماذا يحدث معي
***
ملايين الأشواك تركض من دمي إلى الشِّعر
الآن، تركض ساقي وتحاول التوغّل
داخل الموت القاتل والنشوة وتتورط في مملكة الكلمات المنوّمة
والتكيف مع المرايا العنيفة على كل جدار من الغرفة التي أبصرُ
بعدما أطلق العنان للقليل من مالاي.
أوبتال كومار
الآن، السماء زرقاء. وأنا اضطجعُ
تحت واقية مثل أشجار الأرجون.
بحمولة من علب سيجارة الأوراق المؤكسدة،
وبرملٍ وصحف ممزّقة
وعواطف مجعّدة
***
شاب، كانت لي أحلام عن الاستقرار
فبنيت قصورا من رمل على طول
واليوم اندثرت بسبب المطر.
آه، يا شبابي المخذول
سوف يضيئك دفء الدموع
احتشدت الليالي الكالحة على الحدود التي افترضتَ
في أراض مجهولة بظلماتها،
ولم يسطع القمر بعد
وفقط تناولت مقعدا في كهوف ضيّقة
آه على الشباب
***
في يوم ما، عندما يحين الوقت،
أجلس بقرب هذه الأبيات
وأسحبها بقربك مثل طاولة مكسورة
وحافظ على القدح المغتاظ فوق حروفها.
حافظ على إناء الماء واطلق سعلة أو اثنان،
أبصق واثئب وأغلق عينيك بخمولٍ... كأنك أصمّ
بينوي ماجومدار
مثل أفجاج مبللة، إحساسنا محدودٌ ومحصورٌ؛ وديانٌ وغاباتٌ وتلالٌ
مغطّاة بالضّباب والسحب طيلة الأيام الماضية.
***
لا زالت شجرة الصنوبر تنمو وتنتصب
مثل رغبة حقيقية باتجاه السماء الملتهبة.
***
بأدب، استيقظُ في الصباح لأجل أمنية مزهرة.
مستقبلي، كان قبة زرقاء يشتعلُ
بموهبتك، المدّخرة كلحم معلب.
بشراسة، أتوهم لقاء مشتركا لأفكار الشاي،
أفكار الهواء المنعش من القمة الخالدة.
أنت عدمٌ متخيّلٌ كخللٍ مرئي
أو ربما مندثر وميّتٌ.
أو أنك خذلتني مثل وليدك غير الشرعي، على الطريق.
أفكر في حياةٍ، بعدما يشفى الجرح
أدركُ أنها لن تحصل على شعر مجددا؛
يجلس الألم هادئا على أفكار محزنة مثل ذبابة ليلية
في طريق العودة من المستشفى، بعقل لحظي.
وأحيانا، بلا وعي، أعرف، أن الحزن سيذبل.
...................................................
* مقاطع من قصيدة: «المسيح الكهربائي الصارم»، ترجمت عن اللغة الإنجليزية