الاتحاد- خاص:
عندما كتب الأديب الانجليزي رواية حرب العوالم عام ،1898 استخدم فيها غزواً فضائياً مدمراً كرمز لذعر البشرية بمواجهة الدمار والفناء·· لكن فيما بعد استخدمها الممثل اورسون ويلز في حرب عالمية- خدعة أحدثت ذعراً أميركياً حقيقياً قبل أقل من سنة على حصول تلك الحرب العالمية فعلاً·
والآن، يأتي المخرج الاميركي ستيفن سبيلبرغ ليستخدم الرواية نفسها في تعبير رمزي لما بعد أحداث 11 سبتمبر ،2001 وفي فيلم يحمل العنوان نفسه، من بطولة
توم كروز·
قصة حرب العوالم ليست جديدة، فقد نشرها الكاتب الانجليزي هيربرت جورج ويلز في العام ،1898 و ويلز الذي يلقبه النقاد بـ جوليوس فيرن الانجليزي كان قد أصدر قبلها عدداً من الروايات المميزة مثل الرجل اللامرئي، آلة الزمن و جزيرة الدكتور مورو، وغيرها من الروايات الرؤيوية التي تستشرف المستقبل أكثر بكثير مما تسجل الحاضر أو تؤرخ الماضي·
ومن هذه الخلفية بالتأكيد كان اختيار المخرج الفيلسوف سبيلبرغ لرواية حرب العوالم لتكون تحفة انجازاته السينمائية لصيف 2005 الجاري·
ماذا أولاً في أحداث حرب العوالم؟
أعداء شرسون قادمون من الفضاء، ومن كوكب المريخ تحديداً يغزون كوكبنا الأرضي ويدمرون الحضارة البشرية تدميراً كاملاً· سكان الأرض، يتشتتون جميعهم في نزوح جماعي عشوائي هرباً من فظائع وأهوال ذلك الغزو·
معاصرو ويلز رأوا في حرب الأرض/ المريخ يومها تعبيراً رمزياً عن المخاوف والانقلابات الجذرية التي عاناها البشر بفعل الثورة الصناعية والاكتشافات العلمية الكبرى (وفي طليعتها آنذاك قنوات المريخ التي أصبح ممكناً مشاهدتها بواسطة التلسكوب)·
والمفارقة أن ويلز كان، عندما كتب تلك الرواية، يهدف إلى تصوير الحاضر· إنما بدون أن يكون مدركاً أن ذلك سيكون الهاجس الأساسي لبشرية القرن القادم·
والمهم لدى ويلز، على الأقل بنظر سبيلبرغ، أنه في حرب العوالم إنما كان قد وضع أصبعه على الجرح الكبير الذي يخيف بشرية الحضارة الحديثة من فكرة تدميرها وفنائها·
حرب اورسون ويلز
في صدفة غريبة، كان العالم على وشك الاشتعال بالحرب العالمية الثانية الطاحنة، عندما قام اورسون ويلز ورفاقه في مسرح ماركوري، بتقديم عرض مسرحي على محطة اذاعة س الأميركية، مقتبس من رواية حرب العوالم، وذلك يوم الثلاثين من اكتوبر ،1938 والمذيع قطع العرض مراراً لإذاعة بدايات الحرب التي كانت تتطور من دقيقة إلى دقيقة، وقد أحدثت الأنباء موجات ذعر هائلة في صفوف المواطنين الاميركيين الذين نزلوا بأعداد ضخمة إلى الشوارع وراحوا يتناتشون ما أمكنهم الوصول اليه من وقود للسيارات وللتدفئة، ومن ما تبقى في رفوف المتاجر من مواد ومؤن غذائية·
وقد تلقت اذاعة س أخباراً متلاحقة عن وفيات ناجمة عن التدافع وكذلك عن حالات انتحار ناجمة عن نوبات ذعر هستيرية، ثم توقفت الاذاعة عن بث عرض مسرحية ويلز الممثل وخصصت كل فترات البث لاذاعة أخبار وتطورات الحرب المتلاحقة·
غير أن الحرب العالمية الثانية لم تكن قد حصلت بعد، وكل ما جرى كان مجرد خدعة اذاعية، من ابتكارات اورسون ويلز وبالتواطؤ مع ادارة راديو س، وهكذا فلدى انكشاف الخدعة في اليوم التالي، استعادت الولايات المتحدة أنفاسها، وقامت الشرطة بإخضاع ويلز وأعضاء فرقته لاستجوابات قاسية ومضنية، كما حوكمت الاذاعة لاحقاً بغرامات تجاوزت المليون دولار كتعويضات للأضرار الناجمة عن تلك الخدعة- الاشاعة (جرحى فقط وبدون أية وفيات في الواقع)·· وبدورها شنّت الصحافة الاميركية حملة انتقادية شرسة على مدى أسابيع ضد جنون اورسون ويلز، وإلى حد المطالبة بسجنه عقاباً على فعلته المريعة!
لكن ويلز لم يكن يمزح، وما فعلته لم يكن جنوناً، حيث، وبعد أقل من سنة، وتحديداً في الأول من سبتمبر 1938 اندلعت الحرب العالمية الثانية فعلاً·
والمهم ليس تسجيل هذه الحرب كإنجاز مسرحي لـ اورسون ويلز، بل كإنجاز رئيوي استشرافي لرواية هيربرت ويلز حرب العوالم·
إلى الشاشة
عام 1953 قام المنتج السينمائي الأميركي جورج بال بتوقيع عقد مع الممثل بايرون هاسكين لتنفيذ أول اقتباس سينمائي لرواية حرب العوالم، وقد وصلت ميزانية المشروع إلى حدود المليوني دولار (و،هو مبلغ شبه خيالي في ذلك الحين)، من ضمنها 1,2 مليون دولار للمؤثرات الصوتية والبصرية الخاصة بالفيلم، والتي كوفئت لاحقاً بجائزة أوسكار·
نجاح فيلم حرب العوالم فتح الباب واسعاً على انتشار موجة أفلام الخيال العلمي على الشاشة الاميركية في الخمسينيات· وكانت في طليعتها أشياء عن عالم آخر و غزاة الكوكب الأحمر وغيرها من الأفلام التي لا تعوزها رموز الحاضر والمستقبل· فالحرب العالمية انتهت، لكن لتولد من رحمها الحرب الباردة، ويوميات الولايات المتحدة والغرب أصبحت مسكونة بهواجس الخطر السوفييتي وبكوابيس الحرب النووية التي خبروا فظاعتها في هيروشيما وناجازاكي· وبالتالي، لم يعد مستغرباً أن يأتي غزاة الأرض ومدمرو البشرية، في تلك الأفلام، من المريخ تحديداً· الكوكب، الأحمر!
11 سبتمبر
حتى الحرب الباردة انتهت، فلماذا إذن عودة ستيفن سبيلبرغ إلى فيلم مقتبس عن رواية حرب العوالم الآن؟
سبيلبرغ يقول: هدفنا الأساسي هو رسم الحالة البشرية التي عاشها الاميركيون مع هجمات 11 سبتمبر ،2001 ومن هنا تركيزنا في التصوير -والأرشيف الحي- على ما حدث في منهاتن تحديداً، من انهيارات الأبراج الشاهقة على رؤوس الضحايا·
سبيلبرغ يتساءل: هل كان ويلز عندما كتب حرب العوالم يتصور أن شيئاً مثل 11 سيبتمبر 2001 يمكن أن يحصل؟·
وبدورنا نتساءل: هل كان ويلز الانجليزي يتصوّر أن يحصل ما حصل في لندن يوم الثامن من تموز/ يوليو 2005؟!·
ماذا عن فيلم حرب العوالم الذي أسند سبيلبرغ فيه الأدوار الرئيسية إلى الثلاثي الهوليوودي المميز: توم كروز، داكوتا فاننغ و تيم روبنز؟
بوادر عواصف عاتية كانت تلوح منذ صباح ذلك اليوم (عطلة نهاية الأسبوع) الذي كان فيه راي برفقة والده دوكر الذي جاءت مطلقته وتركت في عهدته طفليهما الصغيرين·
أجواء العواصف سرعان ما تحوّلت إلى كوابيس، مع بدء الغزو المفاجىء والمدمر الذي شنّته تلك الكائنات القادمة من الفضاء·
ويتساءل سبيلبرغ سينمائياً، في الفيلم: هل انتهت فعلاً صلاحية رواية حرب العوالم التي مرّ على نشرها 115 عاماً؟ هل توقفت مخاوفنا فعلاً من غزو فضائي ما؟ هل تغير شيء من صورة سكان المريخ في نظرنا كأشخاص أقزام لونهم أخضر؟
وعلى غرار الكاتب ويلز، لا يهتم سبيلبرغ كثيراً بحرب عالمي الأرض والمريخ من منظور أهل الفضاء الخارجي، بل فقط من منظور أثرها في عيون وأذهان ناس الأرض؟ وفي خليط مأساوي ولا عقلاني إلى أبعد الحدود من خلال تصوير الحدث المرعب من منظور ثنائي الابن والأم (توم كروز و داكوتا فاننغ)·
ما سنشاهده هذا الصيف ليس مجرد رائعة أخرى من روائع المخرج ستيفن سبيلبرغ، بل كذلك وبالدرجة الأولى دليل اضافي وضخم على خلود رواية هيربرت ويلز حرب العوالم، وصلاحيتها لكل مكان وزمان·
أورينت برس