مصطفى درويش- أبوظبي
تشير تقديرات راهنة إلى أن الاقتصاد العالمي خسر 2.7 تريليون دولار، على أقل تقدير، منذ بداية أزمة كورونا، التي إن استمرت حتى منتصف العام الجاري، فإن الخسائر سترتفع إلى 6 تريليونات دولار، وسينكمش الاقتصاد العالمي 11% مقارنة بالفترة نفسها العام الماضي، بحسب دراسة أصدرها مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة في أبوظبي.
وأشارت الدراسة إلى أن هذه الأزمة ستقود العالم إلى إعادة النظر في كثير من المفاهيم الاقتصادية، خاصة المرتبطة بدور الدولة في الاقتصاد، وطبيعة الأنشطة الاقتصادية وأساليب أداء العمل والإنتاج. وكذلك العلاقة بين المنتج والمستهلك، علاوة على إعادة صياغة العولمة لتناسب مرحلة ما بعد كورونا، لتغادر هذه الأزمة الاقتصاد العالمي في شكل وهيئة وطبيعة مختلفة عما كان عليها من قبل.
تغيير القواعد
وبمقارنة الأزمة الحالية بأزمة عام 2008، سنجد أن العالم خسر آنذاك 4 تريليونات دولار، وفق تقديرات صندوق النقد الدولي، أو 5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي حينها. بالتالي إذا توقفت أزمة كورونا عند مداها الحالي وعاد النشاط الاقتصادي العالمي إلى طبيعته في أمد قصير، فإن خسائر أزمة كورونا ستكون مساوية تقريباً للأزمة المالية العالمية في 2008. أما إذا استمرت وأغلقت الحكومات مزيداً من القطاعات ووضعت قيوداً على التصدير، فإن ذلك سيحدث أزمة غير مسبوقة تاريخياً، ولن يكون الكساد الكبير بجانبها سوى أزمة هامشية.
يذكر أن الكساد الكبير بدأ في العقد الثالث من القرن العشرين، واستمر طوال العقد الرابع منه. ومن الملاحظ انسحاب دور الدولة في الأنشطة الاقتصادية خلال العقود السابقة عليه. وبسببه أعيد النظر في دور الحكومات، ليعود دور الدولة في النشاط الاقتصادي في ما يعرف باسم العقد الجديد. وأدى ذلك إلى نهاية العمل بقواعد «اليد الخفية» في السوق، و«دعه يعمل دعه يمر».
إلا أن الجديد هذه المرة، هو أن التغيير المحتمل لن يتعلق فقط بعودة الدولة من خلال آليات تسيير السوق، ولكن عن طريق شراء وتأميم الشركات. وذلك بنصيحة من صندوق النقد الدولي، للحفاظ على الإمدادات الأساسية، مثل الرعاية الصحية وإنتاج الغذاء وتوزيعه، في تغيير جذري لقناعات وقواعد عمل الصندوق.
إفلاس قارات
وتضغط الأزمة الراهنة بالتزامن على الموازنات العامة للدول في كل أنحاء العالم. وستتفاوت قدرة كل دولة على الاستجابة للمطالبات المحلية بمزيد من الإنفاق، مع تزايد إغلاق الأنشطة الاقتصادية، والتراجع غير المسبوق في إيرادات الحكومات.
يأتي ذلك في وقت تحتاج فيه الدول الفقيرة إلى 3.9 تريليون دولار لمواجهة الوضع الحالي، بينما لا تمتلك سوى 1.4 تريليون دولار، لتبقى لديها فجوة 2.5 تريليون دولار. وأعلن صندوق النقد الدولي، مطلع أبريل، أن 85 دولة طلبت مساعدات بالفعل، وهو ضعف عدد الدول التي طلبت مساعدات في عام 2008. وهذا العدد مرشح للزيادة.
واستجابةً للوضع، خصص الصندوق لطلبات المساعدة ما بين 750 مليوناً إلى تريليون دولار، ما دعا الأمم المتحدة لمطالبة الصندوق بزيادة الاعتمادات. وهو أمر معقد ويحتاج إلى وقت طويل، ما قد يدفع دولاً عديدة لإعلان إفلاسها.
لذا، أصدر صندوق النقد والبنك الدوليان بياناً مشتركاً، طالبا فيه الدائنين بتخفيف الديون عن الدول الأشد فقراً، من خلال تعليق سداد أقساط الديون، لإتاحة سيولة فورية لهذه الدول للتصدي للتحديات الناشئة عن فيروس كورونا.
وفي هذه الحالة، فإذا استمرت الأزمة، فإن دائرة الخطر ستتسع لتصل إلى الانهيار المالي والاقتصادي لقارات بأكملها، كقارة أفريقيا، التي قد لا ينجو منها سوى عدد محدود من الدول.
25 مليون عاطل
ومع عدم قدرة شركات كثيرة حالياً على الاحتفاظ بموظفيها، فإنه من المتوقع أن يتحول عدد كبير من البشر إلى فقراء، مع ما يرتبط بذلك من مشاكل. وأسوأ سيناريو متوقع هو أن تسفر أزمة فيروس كورونا عن 25 مليون عاطل، فيما وصل عدد العاطلين إلى 22 مليون شخص في 2008. ووفق سيناريو منظمة العمل الدولية، فإن المعرضين لفقدان وظائفهم يتركزون في الدول ذات الدخل المرتفع بإجمالي 14.6 مليون شخص (59.1%)، فيما يصل العدد في الدول ذات الدخل المتوسط إلى 7.4 مليون (29.9%)، و2.8 مليون في الدول منخفضة الدخل بنسبة 11%، ما يعني إضافة 2.8 مليون شخص إلى قائمة الفقراء، إذا استمرت الأزمة الحالية.
رابحون وخاسرون
ولأن كثيراً من الشركات لن تتحمل انخفاض الطلب في الوضع الحالي، وسيختار بعضها الخروج من السوق طوعاً أو كرهاً، قبل الوصول لإفلاس، ولن يستطيع الصمود سوى الشركات الكبيرة القادرة على التحمل لفترات طويلة. ومن شأن ذلك أن يغير قواعد اللعبة في كل صناعة، في تطبيق حرفي لنظرية الانتقاء الطبيعي، التي تقول إن البقاء للأصلح.
ويأتي قطاع السفر والسياحة على رأس الأنشطة التي منيت بخسائر فادحة، حيث تراجعت حركة الطيران العالمية بنسبة 50% بنهاية مارس، وقدر الاتحاد الدولي للنقل الجوي خسائر القطاع بـ 113 مليار دولار حتى مطلع مارس. وأفلست بالفعل بعض شركات الطيران الصغيرة خلال الفترة الماضية، مثل شركة الطيران البريطانية «فلايبي»، مطلع الشهر المذكور.
وقطاع النفط أيضاً من القطاعات المرشحة لحدوث عمليات تصفية، وأعلنت شركات نفط كبرى (شيفرون، إكسون موبيل، توتال، بريتيش بتروليوم، وغيرها) تخفيض ميزانياتها بنسبة 20% في المتوسط، كاستراتيجية جديدة للتعايش مع الوضع الجديد. وبالطبع لن تكون كل الشركات قادرة على الاستمرار في هذه الصناعة، وسيضطر بعضها للخروج لتتوسع الشركات القادرة على الاستمرار في امتلاك الأصول النفطية حول العالم، ليقل عدد الشركات في قطاع النفط، إلا أنها ستكون أقوى.
الاقتصاد الافتراضي
وأدت حالة العزلة الجبرية لتغيير طرق العمل وتوصيل المنتجات إلى المستهلكين، ويقضي ذلك باختفاء أنشطة وظهور أنشطة أخرى، وتتيح هذه الظروف الفرصة للأنشطة الاقتصادية التي تعتمد في الأساس على الإنترنت، سواء في إنتاج الأعمال أو الربط بين منتجي السلع والخدمات والمستهلكين.
ويأتي قطاع الاتصالات والشركات المقدمة لخدمة الإنترنت في مقدمة الأنشطة الاقتصادية المرشحة لحدوث طفرة في حجم نشاطاتها، بسبب التباعد الاجتماعي أو العزلة الدولية، والحاجة للعمل والتعليم عن بُعد. وقد أسفر ذلك عن ارتفاع سهم شركة «زووم» بنسبة 114.3% منذ بداية العام إلى 150 دولاراً. وزيادة الطلب على أسهم الشركة بنسبة 1500%. بعد أن ارتفع تنزيل التطبيق إلى 2.3 مليون عملية تنزيل، يومياً، من 56 ألفاً في يناير من العام الجاري.
كما ازداد الطلب على الترفيه الإلكتروني والتلفزيون، عبر الإنترنت، بنسبة 20% خلال الأسابيع الماضية، ما دفع الشركات لتخفيض جودة البث لتخفيف الضغط على شبكة الإنترنت.
وألقى التباعد الاجتماعي لشركة «نتفليكس» بطوق النجاة، بعد تراجع ثقة المستثمرين فيها لتغيبها عن مؤشر «ستاندرد آند بورز 500»، لعامين متتاليين، ليرتفع سهمها بنسبة 25.7% إلى 80 دولاراً.
ويأتي ذلك على حساب انهيار صناعة الترفيه التقليدي، حيث خسرت دور السينما 15 مليار دولار نتيجة أزمة كورونا. حيث تراجع سهم شركة «سينمارك» الأميركية، التي تمتلك سلسلة من دور السينما، من 23 دولاراً في 20 فبراير، إلى 6.6 دولار للسهم في 18 مارس، بنسبة 75.8%. ورغم أن الوضع قد يتغير بعد انتهاء الأزمة، فإن الفترة التي ستتمكن فيها صناعة الترفيه الإلكتروني من الاستحواذ الكامل على صناعة الترفيه، ستجعل اعتماد مستخدميها عليها بعد نهاية الوضع الحالي أعلى بكثير.
كذلك استفاد من هذه الأزمة شركات التجارة الإلكترونية، فقد ارتفع سهم شركة "أمازون"، على سبيل المثال، من 1676 دولاراً في 12 مارس، إلى 1963 دولاراً في 30 مارس، بمكاسب 287 دولاراً للسهم، وبنسبة ارتفاع 17.2%.
سلوك الأزمة
ليست التكلفة الاقتصادية وحدها هي ما يجعل جائحة كورونا إحدى أخطر الأزمات التي يمر بها العالم منذ وقت طويل. فالاقتصاد العالمي يتحمل سنوياً 570 مليار دولار بسبب الأوبئة، وفق تقديرات صندوق النقد والمنتدى الاقتصادي العالمي، وهي تقريباً التكلفة نفسها كل عام، بسبب أزمة تغير المناخ.
ولكنه الانفتاح الاقتصادي والسيولة والترابط غير المسبوقين بين الأنشطة الاقتصادية حول العالم. وسلاسل الإمداد الموزعة على أقطار مختلفة في العالم. فطائرة إيرباص حسب الدراسة، تصنع في 100 دولة ومن خلال 1800 شركة قبل تجميعها في النهاية بمدينة تولوز الفرنسية.
وقد علق صندوق النقد الدولي في تقريره عن آفاق الاقتصاد العالمي عام 2009، على السرعة والتدفق القوي الذي انتقلت به الأزمة العالمية عام 2008 بين دول العالم، قائلاً: إن الروابط تؤدي إلى إذكاء الحريق. ووفقاً للبنك الدولي، فإن الخوف وسلوك الأزمة تسبب فيما يتراوح بين 80 إلى 90% من إجمالي الآثار الاقتصادية السلبية للأوبئة.