بقلم ـ د· نصر الدين لعياضي:
يتحدث الكاتب التشيكي الأصل، الفرنسي الجنسية 'ميلان كونديرا'، في إحدى محاولاته التأملية عن 'الرياضيات الوجودية'، والتي يختصرها في المعادلة التالية: 'إن شدة البطء تتناسب مع كثافة الذاكرة، وشدة السرعة تتناسب مع كثافة النسيان، أي كلما ارتفعت السرعة تزايد النسيان، وكلما انخفضت نشطت الذاكرة'· من يعتقد أن علاقته المتوترة بالرياضيات لا تسمح له باستيعاب هذه المعادلات الرياضية، فليستعن بالباحثة 'ننسي باريك' التي بسطتها في الصيغة التالية: 'توجد علاقة سرية بين التباطؤ والذاكرة، وبين السرعة والنسيان حتى في الأوضاع العادية والمألوفة في حياتنا اليومية· فإذا أراد شخص ما أن يتذكر شيئا ما، وهو يمشي في الشارع، ولم تسعفه الذاكرة ، يتباطأ في سيره بصورة آلية لعله يتذكر· و إذا أراد أن ينسى حدثا مؤلما أو شاقا عاشه تتسارع خطواته في السير، وكأنه يريد أن ينأى عنه، ويبتعد عن كل ما يذكره به'·
أي علاقة؟
لكن ما علاقة هذه المعادلة الرياضية بموضوع وسائل الإعلام والتاريخ؟
يقول الكاتب 'سارج جيلي'إن الصحافة تقف في منتصف الطريق بين الرواية والتاريخ· و التاريخ كما هو معروف لدى الجميع لا يوجد بدون ذاكرة؛ والمقصود هو الذاكرة الجماعية؛ لأن الكثير من رجال الإعلام يعتبرون أن وسائل الإعلام هي حارسها الأمين ·
توجد عدة زوايا لرصد العلاقة بين وسائل الإعلام والتاريخ، سنقتصر في هذه العجالة على زاويتين فقط لأهميتهما : الزاوية الأولى تحدد موقع وسائل الإعلام في تعاملها مع التاريخ من منطلق أنها تحكيه لنا في الشاشة الصغيرة أو صفحات الجرائد أو على أمواج الأثير · والزاوية الثانية تنطلق من أن جل المؤرخين يعتمدون على وسائل الإعلام، كمصدر، لكتابة التاريخ·
بالنسبة للزاوية الأولى، يمكن الإشارة إلى أن الكثير من المختصين يسجلون جملة من المأخذ على إسهام وسائل الإعلام في كتابة التاريخ وسرده· إن شهادة الكاتب الأرجنتيني ' كينو' الساخرة عن وسائل الإعلام لا تختصر هذه المأخذ، إذ كشف بطريقته نشاطها قائلا: ' تخترع وسائل الإعلام نصف ما تقوله، وتتحدث عن نصف ما يجري في الواقع'· إذا كانت وسائل الإعلام تدون تاريخ الحاضر، أي ما يجري في الواقع اليومي، فإنها تفعل ذلك بنظرة انتقائية؛ أي تختار ما يتناسب ورؤيتها ومواقفها من الأحداث أو ما يخدم سياستها الإعلامية· و لا يهمها في ذلك هل تسجل كل ما يجري في الواقع وتؤرشفه ليصبح مصدرا للتاريخ أم لا·
ضعف الذاكرة
يعتقد البعض أن قوة وسائل الإعلام في تسجيل التاريخ تنبع من ضعف ملكات ذاكرتنا أو سرعة نسياننا للأحداث والوقائع التي حدثت خلال فترة وجيزة· فالنسيان هو الأداة التي تستغلها وسائل الإعلام، بمكر، لتحريك ذاكرتنا الجماعية أو للانقلاب عليها·
إن تعدد وسائل الإعلام وتنافسها الشديد يجري في أرضية تسمى ' السرعة'· سرعة جمع الأخبار، وسرعة توزيعها وبثها، وسرعة رصد ردات الفعل، والانتقال بسرعة فائقة إلى غيرها من الأحداث المتزاحمة· لقد جعلت المنافسة وسائل الإعلام تلهث ركضا وراء الوقائع اليومية لتتجاوزها نحو الآتي، أي المستقبل· لعل القارئ الكريم يتذكر صورة الاستوديوهات التلفزيونية التي كانت تشرف على النقل المباشر لوقائع الحرب أو الأعمال الإرهابية أو أي حادث من الأحداث المأساوية كيف كانت تتصرف لتتجاوز تفاصيل الحدث الآني· إنها لا تتوقف وتفكر فيه، بل تسعى للالتحاق بتطوراته· إن وسائل الإعلام، المرئية تحديدا، ترفض التفسير والشرح والاستطراد حتى في المواضيع الشائكة والتاريخية، لأنها تعتقد، ربما عن صواب، بأن الشرح والاستطراد يبعث الملل في نفس المشاهد· فلمقاومة هذا الملل لابد من تشجيع الانطباعات على حساب الوقائع والحقائق وتغليفها بالإيقاع الحركي المتدفق· إن اصطفاف وسائل الإعلام بجانب السرعة يعني أنها تقف في صف النسيان، كما تؤكد لنا ' المعادلة الوجودية' التي تحدثنا عنها أعلاه·
إحساس
إن علاقة وسائل الإعلام بالتاريخ لا تختصر في معرفة بعض الأحداث والوقائع ، بل تتمثل في طريقة تطوير الإحساس بكل ما حدث ويحدث في الحاضر ثم في الماضي· فوسائل الإعلام تؤثر على علاقاتنا بالتاريخ· كيف؟
يتحدث المختصون في العلوم الاجتماعية عن ' الأساطير المفيدة'· ويُقْصد بها جملة من الحكايات والأحداث التي لم تقع أصلا في الواقع، أو حدثت شذرات منها فقط، ويُسْتَكمل الباقي من خلال الحكي والقص والسرد· وتصبح الأساطير مقبولة و يؤمن بها لأنها تنسجم مع تصورنا المرسخ عن العالم وأحداثه· ولأنها تحدث الانسجام والتوافق بين مجموعة بشرية، فتعزز روح التعاضد، وترفع الهمم، تحكي الأمجاد وتمتص الخيبة، وتمتن المشاعر والأحاسيس المشتركة، وتوجه الإرادات نحو أهداف محددة ، وتعوض عن الفشل، وتقوم بالعديد من المهام الأخرى المفيدة اجتماعيا·
فالأساطير و الحكايات التي تصنع التاريخ تتدافع بسرعة في وسائل الإعلام· فالشكل الذي تنقل فيه وسائل الإعلام الأحداث يجعلها حاملة للمواضيع الكبرى للأسطورة· لتوضيح هذه الفكرة يورد المختصون في وسائل الإعلام المثال التالي: نقلت وسائل الإعلام الغربية 'حادث أسر' المجندة الأمريكية ' جسيكا لنش'، التي وقعت في يد الجيش العراقي، قُبَيْل سقوط نظام صدام حسين· ووصفت ما قامت به مجموعة من قوات المارينز 'لتحريرها' بالعمل الجبار و البطولي الخارق للعادة · لقد اكتشف بعض الصحافيين البريطانيين الخديعة الإعلامية، لأن الجندية المذكورة لم تشارك في أية معركة ولم تقع في الأسر، بل وجدت مع طبيب وممرضة على بعد أميال من وحدتهم العسكرية· لكن ما مفعول هذا الاكتشاف؟ ربما لا شيء لأن ما رُوِي ونقلته وسائل الإعلام تحول إلى أسطورة، وكل أسطورة تبدو أكثر تماسكا وصلابة من الأحداث· إنها تتجاوز سقف الحقيقة لكونها تتطلب التوقف عن التفكير والتصديق أو التسليم بما يُرْوى·
استنطاق الماضي
إن نظرة وسائل الإعلام الانتقائية ليست حبيسة الحاضر، بل تتوغل في الماضي وتستخرج منه ما تريد استخراجه لتظهره لنا عبر أشكال تعبيرية مختلفة: تحقيقات صحفية، أفلام وثائقية، روبرتاجات صحفية، قراءات في الكتب وشهادات من عاصروا الأحداث· وتشحن هذه الأشكال بجملة من الأحكام القيمية، بينما التاريخ لا يتقبل مثل هذه الأحكام مطلقا، و ينهينا عن ما تفعله وسائل الإعلام في بعض الأحيان: تخيل أحداث أو تصورها في ظل غياب الحجة الدامغة أو القرينة المنطقية·
هل يمكن الاعتماد على وسائل الإعلام كمصادر للتاريخ؟ للإجابة على هذا السؤال يقول المؤرخون بأن ما تنشره وسائل الإعلام المختلفة، سواء كان مكتوبا أو مسموعا أو مرئيا، لا يشكل سوى جزءا بسيطا من المصادر التي يقوم الباحث بمحصها أو فحصها في تنقيبه عن الأحداث والوقائع التاريخية· هذه الإجابة لا تجانب الحقيقة مطلقا لكنها لا تبدد المخاوف من الاستعانة بوسائل الإعلام في كتابة التاريخ، والتي يمكن حصرها في مستويين أساسيين ومتداخلين، أولهما إمكانية التأثر بما تنشره وسائل الإعلام من تخمينات بحيث ينساق البحث التاريخي وراءها·
لقد استعان الكثير من مؤرخي الثورة الجزائرية أو الحرب الاستعمارية في الجزائر بما كتبه الصحافة الفرنسية· فوكالة الأنباء الفرنسية، التي أطلقت تسمية ' حركة العصيان في الجزائر' على ' الثورة الجزائرية'، لم تلتفت إليها، في البداية، سوى عبر سجل سردي للجزائريين الذين ألقي القبض عليهم ، وعدد البنادق التي استرجعتها القوات المسلحة الفرنسية في مداهمتها للأحياء السكنية· لكنها شرعت منذ ،1957 أي بعد ثلاث سنوات من اندلاع الحرب التحريرية، في الاستعانة بالمصادر غير الرسمية المقربة من قيادة الثورة الجزائرية أو أوساط المكافحين من أجل ' الجزائر فرنسية'· فالكثير من وسائل الإعلام الفرنسية والأجنبية كانت تتغذى من أخبار وكالة الأنباء الفرنسية· وما وصل إلى المؤرخين من معلومات عن الثورة الجزائرية في سنواتها الأولى هي معلومات ناقصة ومشوهة وموجهة، ولا تعبر عن المعطيات التاريخية، بل تشوش الحقائق المستمدة من مصادر غير إعلامية·
لقد أنشئت السلطات الفرنسية وكالة للتصوير و جندت 15 مصورا فوتوغرافيا للعمل فيها، بشكل متواصل، على إنتاج الصور الموجهة إلى الصحف، و المؤسسات المكلفة بالدعاية و الحرب النفسية· وقد وجهت لهؤلاء المصورين في أبريل 1957 تعليمات تحدد فيها المواضيع التي يمنع تصويرها، وهي: أحياء الصفيح، القصف الجوي، والهدم المنتظم للقرى، ومشاهد العنف والتنكيل بالمدنيين، وإبراز العسكريين الفرنسيين في زي غير عسكري ووضع مهين· بمعنى يجب على المصورين ألا يقدموا ما يثير النقد ضد المؤسسة العسكرية الفرنسية· و يمتنعوا عن تقديم الحجج التي تكشف عن الطرق غير الإنسانية التي استخدمت من أجل ' استتباب الأمن' في الجزائر· ولم تفلت من يد الرقابة سوى بعض الصور القليلة جدا المتعلقة بالتعذيب التي هربها أحد الجلادين والتي أخذها ' لتخليد' بطولته، أو للتسلية·
أمام هذه المحظورات توجهت الصورة لترسيخ الدور الحضاري للجيش الاستعماري· فصور الجندي الذي يقوم بدور المعلم في مدارس بعض القرى النائية والطبيب الذي يعالج الجزائريين المرضى في المراكز الصحية أصبحت تملأ الربورتاجات الصحفية·
أدوات الفهم
تظل الصورة حلقة وصل نشيطة بين التاريخ ووسائل الإعلام، وذلك لأنها تعتبر مصدرا وموضوعا للتاريخ في الوقت ذاته· فكيف يتعامل المؤرخ مع السيل الهائل من الأرشيف المصور الذي كانت تحركه أهداف دعائية؟
لم يعد مطلوبا من المؤرخ أن يمتلك حسا نقديا، ووعيا سياسيا، بالرهانات السياسية والأيديولوجية لوسائل الإعلام بمختلف مكوناتها فقط، بل أصبح مطالبا بامتلاك خلفية نظرية ومعرفية عن وسائل الإعلام، والعوامل الداخلية والتاريخية التي تتحكم في توجيهها، والسيطرة على الأدوات الأساسية التي تؤهله لتحليل مضامينها المختلفة وتأويلها التأويل الأقرب إلى الصواب أو الحقيقة·
لقد أدخلت جامعة السوربون الفرنسية في السنة 1973 مواد تدريسية في تخصص التاريخ أطلقت عليها مسمى عام ،وهو : 'العلوم المساندة لعلم التاريخ'· ويقصد بها اللسانيات، والسيميولوجيا ( علم العلامات والإشارات)· فالصور المذكورة أعلاه لا يمكن أن تحلل، وتدرس، وتفهم دلالاتها بدون أدوات معرفية ملائمة لقراءة تضميناتها ورسائلها المبطنة· لبلوغ هذه الدرجة من الفهم يشترط من المؤرخ أن يدرك أبعاد إنتاج الصورة على الصعيد التقني والدلالي· كما أن الولوج إلى تعرجات النص الصحفي وإدراك مستويات تعبيره الضمني أو المتستر بشكل علمي ومدروس لا تتسنى لغير المطلع على اللسانيات·
بالفعل، لقد ظهر جيل من المؤرخين أدرك أهمية الروافد المعرفية الجديدة لتعميق الفهم لمصادر التاريخ، مثل الصحافة، والصورة· فالبعض منهم استوعب الفكرة التي تنص أن فهم الفيلم الوثائقي وتأويله يختلف حسب السياق الزمني الذي يعرض فيه، و الظروف السياسية التي أنتج فيها·