دينا محمود (لندن)
فجر نواب بريطانيون فضيحةً من العيار الثقيل للحكومات المتعاقبة، التي تولت السلطة في البلاد منذ سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي في أغسطس 2011، بعدما كشفوا أنها تقتطع ضرائب باهظةً من أصولٍ مُجمدةٍ أموال جهاز الاستثمار الليبي المجمدة. وطالب النواب في تقريرٍ أصدرته لجنةٌ في البرلمان البريطاني بأن تخصص السلطات جانباً من هذه الأصول التي تُقدر بنحو 12 مليار جنيه استرليني (أي ما يوازي 15.7 مليار دولار أميركي) لضحايا هجماتٍ شنها الجيش الجمهوري الإيرلندي، باستخدام متفجراتٍ حصل عليها من نظام الحكم السابق في ليبيا.
وألمحت وسائل إعلام في إقليم إيرلندا الشمالية -الذي سادته الاضطرابات بفعل هذه الهجمات لعقودٍ طويلة- إلى أن الحكومات البريطانية استغلت الفوضى الحالية في ليبيا، لاستغلال العائدات الضريبية لهذه الأموال التي تخص في الأساس الشعب الليبي، ويُفترض أن تُسلم إلى السلطات الحاكمة هناك للاستفادة منها في مشروعات إعادة الإعمار، على سبيل المثال.
وعلى الرغم من ذلك، كشفت لجنة شؤون إيرلندا الشمالية في البرلمان البريطاني، في تقريرها أن الهم الأكبر للسلطات في المملكة المتحدة، التي تعاملت مع هذه الأصول على مدار الأعوام الثمانية الماضية تمثل في «غَرْفْ عائداتٍ ضريبيةٍ ضخمةٍ» منها. وطالبت اللجنة في التقرير شديد اللهجة الحكومة البريطانية بتقديم «تفسيراتٍ للأسباب التي حدت بها إلى عدم استغلال عائدات الضرائب هذه، في تقديم تعويضاتٍ» للمئات من ضحايا هجمات الجيش الجمهوري الإيرلندي، من تلك التي تورط فيها نظام القذافي، ووقعت خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي، وذلك في ذروة حملةٍ أطلقها ذلك التنظيم المسلح رفضاً للوجود البريطاني في إقليم إيرلندا الشمالية.
وتقول مصادر في الإقليم إن النظام الليبي السابق قدم الكثير من شحنات المواد المتفجرة -اعتباراً من ثمانينيات القرن العشرين- لمسلحي التنظيم، وهو ما أتاح لهم الفرصة لشن هجماتٍ مميتة في أنحاء مختلفةٍ من المملكة المتحدة، كان من بينها هجومٌ وقع في نوفمبر 1987 وخلّف 11 قتيلاً بجانب عددٍ كبيرٍ من الجرحى. وقال أعضاء اللجنة البرلمانية البريطانية في تقريرهم: إن السلطات في البلاد فشلت في التعامل مع الأصول المجمدة بكفاءة، في إشارةٍ ضمنية إلى أن جانباً من الأموال الليبية في المملكة المتحدة، ربما يكون قد أُسيئ استغلاله، على غرار ما حدث في بلجيكا التي تفيد تقارير بأنها شهدت تسرب ما بين ثلاثة إلى خمسة مليارات يورو (ما يتراوح ما بين 4 إلى 6.5 مليار دولار) إلى فصائل ليبية مسلحة.
ورغم أن المؤسسة الليبية للاستثمار -التي تتخذ من طرابلس مقراً لها- نفت صحة هذه التقارير، فإن صحيفةً بلجيكيةً أكدت في مارس من العام الماضي أن أكثر من 10 مليارات يورو (ما يزيد على 13 مليار دولار) اختفت من حساباتٍ مفتوحةٍ في بنك «يوروكلير» بين نهاية 2013 وعام 2017. وأثار التقرير البرلماني البريطاني مخاوف الكثير من الأوساط القانونية في لندن من تكرار النموذج البلجيكي في المملكة المتحدة، خاصةً بعدما أكد أن الأصول الليبية -التي تشتمل على أموالٍ سائلةٍ وسنداتٍ وعقاراتٍ- لم تكن «معفاةً من الضرائب» خلال الفترة الماضية، وهو ما أُميط عنه اللثام بفضل مراسلاتٍ جرت في هذا الصدد بين اللجنة ووزارتيْ الخارجية والخزانة.
وبحسب مصادر مطلعة على الملف، فإن السلطات البريطانية «لم تتسم بالشفافية في الإجابة عن الأسئلة التي طُرِحَتْ عليها للتعرف على حجم الضرائب التي تم اقتطاعها من الأصول الليبية» المحفوظة في العديد من المؤسسات المالية في عاصمة الضباب. وفي إشارة إلى مسعى لاستغلال الفراغ السياسي الراهن في ليبيا للحصول على أكبر مكاسب ممكنةٍ من تجميد هذه الأموال، قال تقرير النواب البريطانيين: إن السلطات أصدرت تراخيص لتمكين الجهات المسؤولة عن تحصيل الضرائب من اقتطاعها، دون مواجهة أي عوائق قانونية. ولكن التقرير شدد على أن السلطات البريطانية «ترفض حتى الآن رسمياً الإفصاح عن الجهات التي استفادت من هذه العائدات، والأغراض التي خُصِصَتْ لها».
وشددت اللجنة البرلمانية البريطانية -التي وُصِفَت بالنافذة- على عدم مشروعية هذه الإجراءات، بالنظر إلى أن «الأصول التي يجري تجميدها تظل -بموجب القانون الدولي- من حق الأشخاص أو الكيانات الخاضعة للعقوبات، وأن هذه العقوبات لا يمكن رفعها سوى من جانب الأمم المتحدة أو الاتحاد الأوروبي»، وهو ما يثير تساؤلاتٍ واسعة النطاق حول مدى قانونية اقتطاع ضرائب منها. وحذرت اللجنة في تقريرها من أن هناك مسؤوليةً قانونيةً تترتب على الإقدام على التعامل ضريبياً مع أصولٍ مجمدة، بغض النظر عن وضع هذه الأصول أو تبعيتها. ويشير التقرير هنا على ما يبدو إلى ما يتردد على نطاقٍ واسعٍ في العاصمة البريطانية من أن الاستثمارات التي تخص القذافي وأسرته في البلاد، تشمل منزلاً بقيمة 10 ملايين استرليني (13 مليون دولار) كان مملوكاً لسيف الإسلام نجل العقيد الليبي الراحل.
وتشكل الأصول الليبية المُجمدة في بريطانيا جانباً لا يستهان به من قرابة 150 مليار دولار كان القذافي وحاشيته يتحكمون فيها، وتم تجميدها فور سقوط نظامه. وتخص عشرات المليارات من هذه الأموال المؤسسة الليبية للاستثمار، التي تم تجميد معظم رأس مالها في أعقاب سقوط النظام الليبي السابق. وتُوزع أصول تلك المؤسسة على ما يُعرف بـ«محفظةٍ طويلة المدى» و«محفظة أفريقيا» وشركة استثماراتٍ خارجيةٍ ليبية وأخرى للاستثمارات النفطية. ووفقاً لخبراء؛ يتمثل نصف هذه الاستثمارات في سنداتٍ وأموالٍ سائلة، بينما يُؤلف النصف الآخر رؤوس أموال قرابة 550 شركةً موزعة بين العالم العربي وأفريقيا وأوروبا. وتفيد تقديرات ديوان المحاسبة في ليبيا بأن قيمة الخسائر السنوية الناتجة عن تجميد أصول المؤسسة الليبية للاستثمار وحدها تصل إلى أكثر من 43 مليون دولار سنوياً. وبحلول نهاية 2016، كانت قيمة الأموال الليبية المجمدة بالخارج في شكل ودائع وأسهم وسندات ومحافظ وصناديق استثمارية تبلغ نحو 33 مليار دولار. وسبق أن أقرت الأمم المتحدة على لسان مبعوثها إلى ليبيا غسان سلامة، بالمخاطر التي تُحدق بالأصول الليبية المُجمدة في بريطانيا وغيرها من دول العالم. فقد قال سلامة أواخر عام 2017 إنه يُجري مشاوراتٍ مع البنك الدولي ولجنة العقوبات المعنية بليبيا؛ لإيجاد آليةٍ لإدارة هذه الأصول، مؤكداً أن لديه أدلةً تثبت «أن هذه الأرصدة عرضة للتآكل ما لم تتم إدارتها بسرعة».